يتجاوز عدد السوريين في تركيا 4 ملايين، منهم ما يزيد على نصف المليون في اسطنبول وحدها. ويندر التجوال في أي جهة من اسطنبول، مترامية الأطراف، من دون سماع اللهجة السورية. وإلى أي جهة ذهبنا، ومهما كان اهتمامنا، لا بد أن نجد سوريا، في التجارة، الثقافة، الطعام، الأعمال، والإعلام ..إلخ. حضور بارز وملفت، لا يضاهى. ورغم أن اسطنبول تستقبل جاليات عربية كبيرة، عراقية ومصرية، فإن الجالية السورية هي صاحبة الحضور الطاغي أكثر من غيرها، ليس على المستوى العددي فقط، بل على صعيد تنوع الاهتمامات. ويعود تفسير ذلك إلى أن جزءاً من الشعب السوري نزح نحو تركيا، وليس فئات محددة، كما هو الأمر بالنسبة إلى بقية الجاليات.
وتتم حركة السوريين في تركيا من دون صعوبات، ما ساهم في تأقلمهم السريع مع المكان، ويعود ذلك إلى أمرين. الأول، الاستقبال المفتوح من طرف الحكومة التركية التي لم تفرض تأشيرة دخول على السوريين إلا في وقت متأخر، وذلك في العام 2016، حين تعرضت لضغوط دولية بسبب الهجرة الجماعية التي حصلت من تركيا نحو أوروبا في العامين 2014 و2015. وأصبح الدخول بعد ذلك مقونناً جداً، ويخضع لتدابير وشروط حدت من النزوح المفتوح، وساهمت في تنظيم الوجود السوري من خلال إجراءات أثارت ضجة كبيرة العام 2019، عندما قامت الدولة التركية بترحيل المخالفين الذين انتقلوا من أماكن إقامتهم في محافظات أخرى بإتجاه اسطنبول التي تشكل مركز جذب كبير، نظراً لما توفره من سهولة في الحصول على فرص العمل.
ورغم ما يبدو من ارتياح نسبي لدى سوريي اسطنبول، فإن الوضع لا يخلو من تعقيدات ومشاكل تطل برأسها كلما حصلت مناسبة تركية داخلية. فقد دخل السوريون كورقة في الحملة الانتخابية البلدية العام 2019 بين حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحزب الشعب الجمهوري المعارض، وإلى جانبه قوى سياسية ذات توجهات قومية. واستخدمت المعارضة الوجود السوري ضد الحزب الحاكم، بذريعة أنه قدم تسهيلات للسوريين. ومن المؤكد أن هذه المسألة ستعود إلى التداول الداخلي بقوة في مناسبات لاحقة، أو عند حصول أزمات اقتصادية. وإزاء هذا الوضع المعقد يمكن تسجيل ملاحظات عديدة. الأولى، أن الوجود السوري في تركيا بدأ يلقي بثقله الكبير على الدولة التركية التي تعاملت معه برحابة صدر لسنوات، ولم تُبدِ تجاهه أي قدر من التشدد، رغم بلوغ عدد اللاجئين نحو أربعة ملايين، وهو رقم كبير جداً وفوق طاقة أي دولة مهما كانت امكاناتها اللوجستية. والنقطة الثانية، أنه ليس هناك لجوء أو هجرة من دون مشاكل وتبعات، يتحملها البلد والمجتمع المُستقبِل، وهذه مسألة ملحوظة على مستوى عالمي. ورغم قلة الفروق بين المجتمعين السوري والتركي، فإن لكل منهما خصوصيته التي يمكن أن تلعب دوراً في تضخيم التداعيات السلبية. والنقطة الثالثة هي ضرورة البحث عن حلول لقضية اللاجئين السوريين في تركيا، بما في ذلك المساعدة على اندماجهم في المجتمع. وهذه مسؤولية متعددة الأطراف ولا تقع على الدولة التركية لوحدها. هناك قسط من المسؤولية تتحمله المؤسسات الدولية المعنية. ويقع القسط الآخر على الهيئات السورية التمثيلية التي تصدرت المشهد منذ بداية الثورة، مثل الائتلاف السوري. وما لم يتوافق اللاجئ السوري مع القوانين التركية، فإنه سييلقي على كاهل الدولة التركية أعباء أضافية لا طاقة لها بها.
ومما يجعل حضور السوريين ملحوظاً بقوة، ويسرّع تأقلمهم في تركيا، القابلية السورية على التكيف والتعايش، خصوصاً في ميادين العمل، حيث تنتشر بكثرة ورشات العمل في ميدان الخياطة والمحلات التجارية السورية والمطاعم والمخابز في “حي الفاتح” الذي شهد نقلة نوعية كبيرة منذ أن بدأت الهجرة السورية نحو اسطنبول. فهناك رؤوس أموال وأيدٍ عاملة مؤهلة دخلت السوق التركي، وساهمت في تطوير العديد من المجالات، والأمر ذاته ينسحب على حَمَلة الشهادات في ميادين الطب والتعليم. إلا أن هناك، في الوقت ذاته، عدداً كبيراً من الأيدي العاملة في المصانع التركية، ما طرح مشكلة كبيرة مع الإجراءات التي بدأت بظهور وباء كورونا، وكان هؤلاء ضحية لفترات الإغلاق، كونهم عمّالاً مياومين. وتطرح هذه الشريحة مشكلة دائمة تحتاج إلى حل، بوصفها تشكل نسبة لا يستهان بها من الجالية السورية التي تشكل شيئاً فشيئاً سوريا صغرى في اسطنبول، على غرار ما حصل مع الهجرة البوسنية في مطلع تسعينيات القرن الماضي أثناء حرب التطهير العرقية الصربية. وفي ذلك الحين استقبلت اسطنبول الآلاف الذين سكنوا في حي واحد حمل اسم “يني بوسنة” (البوسنة الجديدة)، والذي صار حياً من أحياء اسطنبول، لا يمكن تمييزه عن باقي الأحياء بسبب الاندماج الذي لا يتطلب الكثير من العناء، لأن المشتركات تفوق الاختلافات بكثير.
*المدن