حين قامت الثورة السورية في مارس/آذار 2011، بعدما كتب أطفال من درعا على الجدران “جاك الدور يا دكتور”، لم يكن الفنان سميح شقير في دمشق، بل كان قد غادرها إلى العاصمة الفرنسية، وسمح له وجوده هناك بتوجيه التحية الأولى للذين كسروا جدران الصمت والخوف، وتلقوا الرصاص وهم يهتفون “سلمية.. سلمية” و”اللي يقتل شعبه خاين”.. وكانت أغنية “يا حيف”، أول عمل فني يولد فيما كانت الثورة لا تزال في أيامها الأولى، وأحدثت وقعاً خاصاً في نفوس السوريين وغير السوريين. ولأنها جاءت في لحظة خاصة، بقيت إلى اليوم تشكل أصدق تعبير عن الأجواء التي رافقت الهبّة الأولى بكل ما تحمله من عفوية وصدق وخوف وجرأة وأمل. وحين نستعيد شريط الفترة الأولى من الثورة، فإن هذه الأغنية تأتي في الصدارة بين العديد من الأعمال الفنية والكتابات. وهي تشكل وقفة مهمة في مسار هذا الفنان المتميز.
ومنذ تعميم الأغنية، بعد أقل من اسبوعين على إنطلاق الثورة، قبل نهاية آذار/مارس2011 عبر “يوتيوب”، قام مئات الآلاف في سوريا والعالم العربي بتحميلها وتعميمها، عبر مواقع الكترونية أخرى، حتى إن بعض التعليقات على صفحة خاصة بالثورة السورية في فايسبوك، أشارت إلى أن شقير بأغنيته هذه “وضع الفنانين السوريين في خانة اليك”، ما دفع العديد منهم إلى إصدار بيان يمكن وصفه بـ”المعتدل” في ذلك الوقت، يؤكدون فيه تأييدهم لأي حراك سلمي يحقق مطالب الشعب السوري في الحرية والكرامة، ومن بين هؤلاء دريد لحام، جمال سليمان، بسام كوسا، رشيد عساف، أيمن زيدان، وعابد فهد. وقالوا في البيان أنهم يؤيدون أي “حراك سلمي يحقق كرامة وحرية ورفع مستوى معيشة المواطن السوري، ونعارض وبشدة أي شكلٍ من أشكال التحريضِ والتجييش الذي من شأنه أن يأخذ البلاد الى حالة من الفوضى والخراب والدمار”. ومن المعروف أن معظم هؤلاء تراجع عن موقفه، وأخذ جانب الحل الأمني بعد وقت قصير، باستثناء الفنان جمال سليمان الذي ظل يتمتع بموقف نقدي حتى اليوم.
وقد يبدو من المبالغة بمكان تحميل الأغنية أكثر مما تحتمل، لكن هناك إجماعاً في الوسط الفني السوري على أنها كانت الحجر الذي حرّك البركة الساكنة، وشكّل دوائر عديدة داخلها، تحولت بسرعة إلى عملية فرز بعد مضي وقت قصير في الجدل بين أطياف متضاربة من الفنانين، تراوحت مواقفهم بين مؤيد للحراك، وآخر للنظام، وفئة رمادية. واللافت أن عبارة “يا حيف” صارت تتردد بعد كل موقف قريب من النظام أو متردد وغير حاسم إلى صف الثورة، وهذا أمر ليس بالقليل بالنسبة إلى أغنية لم يمض على بثها سوى أيام، ولذلك حجزت مكانها بين أيقونات الثورة السورية. ولأن هذه الأغنية استقرت في وجدان السوريين، وغير السوريين، الذين أيدوا الثورة السورية، فإن مكانتها لم تتراجع بعد مرور أكثر من عشر سنوات، ولا تزال تتردد كما لو أنها ولدت بالأمس ولم يمر عليها الزمن، وهذا دليل أيضاً على أنها مستوفية شروط الحياة الفنية، ولم تكن محاولة تنفيس عابرة.
شقير، شاعر وفنان متعدد يكتب كلمات أغانيه، ويكتب لغيره، فهو إلى جانب التفرغ الكلي للموسيقى والغناء، لديه همّ الشعر بعيداً من الأغنية. وهو يتحدث عن ذلك حين نجره إلى أرض الشعر التي مشى عليها قبل أن يذهب في درب الأغنية التي صارت تحمل أوصافاً كثيرة، سياسية، ثورية، مناضلة، مقاتلة..الخ، لكن هذه الأوصاف تسقط حين تعيش الأغنية، وتعبر الزمن حاملة هموم الحالة الراهنة معها. وما كان لأغانيه أن تعيش، لو لم تكن تشبه صاحبها الذي ينتمي إليها بكل ما يملك. وسميح هنا ليس مغنياً فقط، يملك طبقة صوت تؤهله ليشدو بصوت عال، بل هو فنان لم يترجل عن هذا المكان المرتفع الذي صعد أدراجه منذ أن كان شاباً، وقبل أن يذهب لدراسة الموسيقى في وقت متأخر في سن الثالثة والثلاثين، لكنه قبل ذلك كان قد كوّن لنفسه شخصية فنية، وشق طريقاً سيستمر فيه.
نشأ شقير في أجواء دمشق أوائل الثمانينيات التي شهدت حراكاً ثقافياً وسياسياً في أوساط اليسار والمعارضة للنظام، والنضال من أجل فلسطين، حيث كان مخيم اليرموك يشكل بؤرة ثورية في سوريا، هي مزيج من حالة سورية فلسطينية معارضة ومثقفة. وفي هذا المكان الذي كان يعرف بـ”فلسطين الصغرى”، ولد الكثير من الحالات الفنية من رسم وغناء ومسرح وشعر. وبلا مبالغة يمكن أن نعتبر مخيم اليرموك، مكان الحراك البديل السوري الفلسطيني لكل ما هو رسمي، وحين غنى سميح أغنية “غرفة زغيرة” كان يتحدث عن تلك الغرفة في المخيم حيث عاش الفنان عبد الحكيم قطيفان، والتي اعتقله الأمن منها، مع أنه لم يكن منتمياً لحزب، وأمضى سنوات في السجن بسبب مواقفه من النظام. وكان سميح شريكه في أحلام ودفء وآلام تلك الغرفة التي صارت أول أغنية على طريق صناعة سمعة وشهرة سميح، الذي غنى بعد ذلك العديد من قصائد محمود درويش، وبرع فيها بنوع خاص كمنافسيه الذين شاركوه هذه التجربة، مثل مارسيل خليفة. لكن مشكلة شقير تقارب مشكلة كل السوريين الذين انحازوا إلى خط معارضة النظام، وبقي على ذلك رغم أنه لم يكن منتمياً لحزب سياسي. وهذا حرمه من حقه في الإعلام المحلي، وأبعد عنه وسائل الإعلام الأخرى التي كانت تخشى الترويج لفنان محسوب على المعارضة.
وحتى الآن، لم يتمكن شقير من تقديم نفسه فنياً على نحو يليق بطموحه وإمكاناته، رغم أنه يمتلك كل المواصفات اللازمة ليكون حاضراً بقوة في الوسطين الفني والإعلامي. وفي لقاء جمعنا في باريس الشهر الماضي، تحدث شقير عن أعمال جديدة يستعد لتقديمها، وهي نتاج عمله إلى جانب فرقة شكلها. وما كان لذلك أن يتم لو لم يحول جزءا من منزله إلى استوديو من أجل التدريب والتسجيل، ليترك الحكم على تجربة باريس للنقاد والجمهور. ومهما يكن من أمر فإن شقير أنجز في المرحلة الباريسية أعمالاً عديدة على سوية فنية عالية، وهو، من عمل إلى آخر، يطوّر أدواته. ولقيت الأغنية التي أطلقها العام الماضي، عن هبّة السويداء، تحت عنوان “قامت”، استقبالاً جيداً، وجاءت لتعمق الانطباع عن هذا الفنان الذي تشكل الثورة السورية هاجسه الأساسي، كما أنها رسخت الصورة عن لونه وأسلوبه المتميز والفريد وخصوصيته وشخصيته التي لا تشبه غيرها والبعيدة من التقليد الدارج في الوسط الفني إلى حد كبير.
*المدن