بشير البكر: زكريا تامر… حكاية صهوة الجواد الأبيض

0

كانت آخر زيارة لي إلى الكاتب الصديق زكريا تامر في 30 آذار 2019 قبل أن أرحل من مدينة لندن، وتواعدنا أن نلتقي في الربيع المقبل. وفي شهر شباط الماضي تواصلت معه، واتفقنا على لقاء في نهاية آذار، لكن كورونا حال دون سفري إلى بريطانيا، وتأجل اللقاء إلى حين تسمح الظروف، ويصبح التقارب الاجتماعي ممكناً. وفي زيارة العام الماضي إلى زكريا في مدينة اوكسفورد كنا ثلاثة، الروائي فواز حداد والشاعر والصحافي حسام الدين محمد وأنا.
وكانت هذه الزيارة السنوية الثانية لنا معاً، إلى زكريا الذي اختار الاقامة والحياة في اوكسفورد منذ زمن طويل، بعيداً من صخب لندن وايقاعها السريع، وقريبا من وسط المدينة الساحرة يعيش زكريا مع نادية أدهم زوجته في شبه عزلة اختيارية هادئة. لا ينزل إلى لندن إلا في المناسبات، ولا يلتقي الكثير من الناس، إلا من أراد أن يزوره في اوكسفورد، كما كنا نفعل نحن الاصدقاء الثلاثة الذين قررنا أن نجعل الزيارة دورية للاطمئنان على صحة الصديق زكريا الذي سيبلغ 90 عاما في كانون الثاني المقبل، ومن أجل حوار مفتوح حول الثقافة السورية، وغالبا ما تهيمن الذكريات على اللقاء.

وفي الزيارة الأخيرة أمضينا يوما كاملا في اوكسفورد. ذهبنا إلى منزل زكريا واصطحبناه إلى مطعم سوري يقع في وسط المدينة حيث تناولنا طعام الغذاء، الأمر الذي أزعج نادية التي لا تزال تمارس الكرم الشامي العتيق على الضيوف، وتغضب حين يزورونهم ويختارون الأكل في المطاعم. نادية سيدة مثقفة، وهي أول من يقرأ قصة زكريا حين ينتهي من كتابتها. وربطتها معه قصة حب، حين كانا يعملان معا في وزارة الاعلام السورية، قادتهما إلى الزواج وتكوين أسرة، ثم انتقلا للعيش في بريطانيا حين عمل زكريا في الصحافة العربية في لندن في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وكانت أهم محطاته مجلة الناقد ودار رياض الريس.

وكما أسلفت، في كل زيارة إلى زكريا هناك حديث الذكريات الطويل. ينتهي النهار ولا ينفد الحديث، وفي مرة سابقة زرته واستغرق الحديث النهار بأكمله، وامتد حتى ساعة متأخرة، وكدنا نفقد القطار، ونبيت لدى زكريا الذي يعيش في بيت جميل واسع أدخل عليه ما تجود به الحداثة من اختراعات وتقنيات، ومن ذلك المنظف الآلي. وهو عبارة عن “روبوت” صغير يتحرك من تلقاء نفسه لتنظيف المنزل، وهو مبرمج للقيام بهذه المهمة من دون أن يطلب منه أحد. وعرض علينا زكريا هذا الخادم الآلي في آخر زيارة لنا، وكان مسروراً جداً لوجود هذه الآلة في حياته وحياة نادية لأنها أراحتهم من عبء العناية بنظافة منزل كبير. وفي كل زيارة إلى زكريا تحضر دمشق والثقافة والأصدقاء، ومن المؤسف أن زكريا لا يتجاوب حين يجري الحديث عن كتابة مذكراته، والادلاء بأحاديث صحافية، والتكريم. وفي كل مرة نلح عليه لكتابة أو تسجيل مذكراته، أو اجراء حوارت ذكريات، إلا انه يرفض ولم يتمكن أحد من استدراجه إلى حوار شامل إلا الصحافية والناقدة ديمة الشكر، التي حاورته في الملحق الثقافي لصحيفة العربي الجديد العام 2015. وفي ذلك الحوار ثمة إمكانية لتأسيس كتاب كامل عن زكريا. ورغم أن ذلك الحوار كان مكثفا، فهو يبقى أوفى حوار عن حياة هذا الكاتب الاستثنائي وأدبه.

وأكثر الأصدقاء الذين يحضرون على لسان زكريا هو الشاعر محمد الماغوط، الذي يحتفظ له بمودة عالية ورصيد كبير من الذكريات. هو صديق قديم، وحين يسترسل زكريا في الحديث عنه تتداعى تفاصيل كثيرة من مقهى الهافانا وطرقات دمشق السرية ودروب الحارة التي ولد فيها زكريا والأماكن التي عرفت طفولته، وصحون الفول المدمس في سوق العتيق. وكلما تحدث زكريا عن الماغوط ينبش الذكريات البعيدة جدا والتفاصيل الحميمة التي لا يعرفها الناس عن ذلك الشاعر الذي غرد خارج السرب، وترك لنا شعرا صافيا كالذهب لا يعتق، كون الماغوط كان شخصا محدود العلاقات في حياته وقليل المخالطة. ويكشف زكريا سراً حين يتحدث عن بدء عمل الماغوط في مجلة “الشرطة”، وهو أمر كان يستغربه كل معارف الماغوط، وصار مع الزمن يجري تداوله على سبيل الفكاهة عن الماغوط الساخر من القمع والشرطة، وزكريا وحده من يمتلك القصة الحقيقية، لأنه كان الطرف الأول فيها، وطرفها الآخر هو محمد رباح الطويل وزير الداخلية قبل وصول حافظ الأسد إلى الحكم العام 1970. ولا أجد ان من حقي رواية الحكاية لأنها ملك صاحبها. ويسترسل زكريا في الحديث عن الماغوط ويصحح بعض الصور المتداولة عن الماغوط التي ساهم هو بترويجها على سبيل الطرافة، منها أن الماغوط شاعر فطري غير مثقف. وينسف زكريا هذه الصورة، ويقول ان الماغوط كان قارئاً نهماً، وقد قرأ واستوعب التراث. والرواية الأخرى عن علاقة الماغوط بالحزب القومي السوري. فالماغوط تحدث أكثر من مرة في مقابلات صحافية أن انتسابه للحزب تم بفعل الحاجة إلى مكان دافئ في بلدته السلمية الواقعة على أطراف الصحراء في ريف حماة، والتي تمتاز، غالبا، بشتاء قارس جدا، وكان في مكتب الحزب مدفأة تعمل بالمازوت، وهذا أمر لا يتوافر في عموم المنازل ومكاتب الأحزاب الأخرى، ولذلك انتسب للحزب كي يذهب الى المقر ويستمتع بالدفء. ويدلل زكريا على تهافت هذه الرواية من خلال نصوص الماغوط الحميمة عن الزعيم انطون سعادة، وخصوصا المرثية المشهورة التي يقول فيها” كم تمنيت أن أرثي ذلك الرجل وأن احمل نعشه بيدي كاللفافة”.
وما يؤيد وجهة نظر زكريا قصائد وكتابات معروفة للماغوط ذات نفس قومي سوري من بينها “مروحة السيوف”، هذا بالاضافة الى الملاحقات الأمنية التي تعرض لها وهروبه عام 1954 وتخفيه لفترة طويلة في بيروت، وعمله في صحيفة “البناء” التابعة للحزب. ويجدر هنا الاشارة إلى دفاع تامر عن الماغوط، ضدّ الذين حاولوا تشويه “أصدق وأنبل متمرد عرفته الحياة الأدبية في سوريا والبلاد العربية”، بذريعة أنه “لو كان اليوم حياً، لكان ضدّ الثورة”.زكريا تامر كاتب زاوية صحافية كان القراء ينتظرونها، وهذا أحد القواسم المشتركة بينه وبين الماغوط، حين كتبا زاوية الصفحة الأخيرة في صحيفة تشرين التي صدرت في النصف الأول من السبعينات من القرن الماضي. وحين غادر زكريا سوريا، كتب الزاوية في عدد من المنابر الاعلامية، وكان من الكتاب القلائل الذين يشتري القراء الصحيفة لقراءة عموده، كما كان عليه الأمر في الفترة التي كان يكتب فيها زاوية يومية في صحيفة “القدس العربي” اللندنية منذ صدور عددها الأول ولسنوات طويلة.

دمشق القديمة يتذكرها زكريا بتفاصيل تعود الى الطفولة فيرسم خريطة للحي الذي ولد فيه، وهو حي البحصة الجوانية القريبة من ساحة المرجة التي كانت وسط البلد. ويتمتع زكريا بذاكرة ثقافية خصبة لا تغفل شيئا حين يتذكر الحياة الثقافية السورية منذ الخمسينات، والتي دخلها بقوة وصار بسرعة كاتباً بارزاً، وصاحب مدرسة في القصة القصيرة. ومن اهم الاعترافات التي أدلى بها زكريا في جلستنا الأخيرة، وهو يتحدث عن تجربته في الكتابة التي بدأت العام 1958، انه حين بدأ بكتابة القصة القصيرة، لم يكن قد قرأ أي كتاب عن هذا الفن، وبعدما أصدر اربع مجموعات قصصية، قرأ كتاباً عن القصة القصيرة فوجد أن كل ما كتبه مخالف لما هو موجود في الكتاب، ويستعيد زكريا هنا قصة أول مجموعة قصصية نشرها في بيروت “صهيل الجواد الأبيض”. تلك المجموعة التي حملتها الناقدة سلمى الخضراء الجيوسي الى الشاعر يوسف الخال الذي كان يصدر مجلة “شِعر”. وحال تسلمه المجموعة قرأها الخال وأرسلها الى المطبعة التي كانت في البيت نفسه، وعندما التقى زكريا لاحقاً، عرض عليه اصدار مجلة للقصة على غرار “شعر”، يتولى زكريا نفسه رئاسة تحريرها، لكن زكريا اعتذر واقترح أن يكون جبرا ابراهيم جبرا رئيساً للتحرير، لكن الخال أصر على أن يكون زكريا، ولذلك لم ير المشروع النور. ويحتفظ زكريا بتقدير خاص ليوسف الخال الذي “يعتبر أحد ابرز رواد الحداثة، ومع ذلك لم ينل حقه من الأضواء، لاسيما أنه هو الذي كان وراء مشروع مجلة “شعر”، وليس أدونيس كما هو شائع.

ويتذكر زكريا: “ادونيس قال طبعنا لزكريا تامر مجموعة قصصية. وبعد صدور صهيل الجواد الأبيض ذهبت الى بيروت، والتقيت يوسف الخال،ـ الذي قال لي سلمى الخضراء الجيوسي حملت لي قصصك وقرأتها في جلسة واحدة، وقلت لها هذا شاب موهوب. وأعطيتها فوراً لعمال المطبعة كي يصفوها، وأصدرناها بسرعة”، ويعترف: “حين عرضت علي سلمى نشر الكتاب في بيروت قلت لها افضل نشره لدى جماعة مجلة شعر، هؤلاء يفهمون علي فنياً، ولا أقصد طبعاً أدونيس، وانما يوسف الخال والبقية”. وعن شعر ادونيس، يقول زكريا انه يحب شعر الماغوط والسياب وصلاح عبد الصبور “ادونيس عكس فهمي للشعر، أحسه ذهنياً. قد أكون على خطأ، لكن هذا ما أحس به”. ولماذا تبدو سلبياً تجاه ادونيس، يقول زكريا: “أدونيس لعّيب، منذ أن كان فتى حين مدح رئيس الجمهورية شكري القوتلي”.

وعن قصة أول حزب، يتحدث زكريا عن انتسابه للحزب الشيوعي السوري العام 1949 ، ويقول انه لم يمكث طويلاً “ما بين سنة وسنتين، انتسبت للحزب، وأتيح لي خلال عامين أن أعرف ما لا يعرفه أعضاء استمروا في الحزب لعقد من الزمن، لأني اشتغلت في العمل شديد السرية. كان الحزب كله يعيش في السرية، لكني كنت ضمن الكادر شديد السرية المكلف بتأمين المطبعة والنشر والتوزيع”، ويقول: “ساعدتني هذه التجربة على رؤية الحزب على حقيقتة من الداخل فوجدته على عكس شعاراته”.

وعن انتساب بعض مثقفي تلك المرحلة للحزب القومي السوري يقول زكريا: “كان هناك الحزب القومي وحزب التعاوني الاشتراكي (فيصل العسلي)، وكان الانتساب الى أحد هذين الحزبين يعني انك لست وحدك، اذا امتدت عليك يد ترتفع الف يد لتدافع عنك. هذه قبيلة وليس حزباً”.

أما عن قصة بداية القراءة فيستعيد زكريا اول صلة له بالكتاب، ويقول: “كانت الكتب قليلة في ذلك الوقت. في المدرسة كانت المرة الأولى التي ارى فيها الكتاب. ومن بعدها في جانب مدرسة معاوية كانت هناك مكتبة تعير الكتب، وما كانوا يعيرونني، وكان خالي قارئاً ويجلب الكتب والجرائد، وبعد ذلك بدأت بارتياد المكتبة الظاهرية، وكنت أقرأ في اليوم كتابين، واحداً في الصباح والآخر في المساء، وحينما بدأت أعمل حداداً، لكني حداد متطور جداً، كان أجري الاسبوعي ما بين تسعين ومئة ليرة أسبوعياً، وكان مرتب الموظف الشهري ما بين مئة ومئة وخمسين ليرة، وبعد ذلك درجت مكتبات تؤجر الكتب”. ويقول تامر: “قبل أن أحاول الكتابة قرأت الكثير من الكتب المؤلفة و المترجمة، بما في ذلك الكتب السياسية والفكرية والاقتصادية والعسكرية، وحين كتبت كان دأبي التعبير عن صوتي الخاص، لا أن أكون صدى لأصوات أخرى، ولهذا لم أحاول التقليد أو الخضوع لأساليب سائدة”.

الزيارة إلى زكريا تامر، رحلة نحو عالم هذا الكاتب الذي يعد صاحب مدرسة خاصة في القصة القصيرة. هو آخر الكتّاب السوريين الكبار، والعرب أيضاً، الذين أسسوا لكتابة جديدة وثقافة مختلفة. لا بد من أوكسفورد، وإن طال السفر.

*المصدر: المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here