دعد حداد مثلت ظاهرة فريدة في الكتابة السورية الجديدة، بين كتاب وكاتبات جيل السبعينيات من القرن الماضي، وتركت بصمة خاصة، وأثرا شعريا متميزا على قدر عال من النضج، رغم أنها لم تعمر طويلا، ورحلت في الوقت الذي كانت تتقدم في التجريب والاختلاف. ومع أنها تتقاطع مع شاعرات أخريات أجنبيات فيما يتعلق بخصوصية الأنوثة والكتابة، هناك إجماع بين الذين عرفوها عن كثب، أو درسوا شعرها، على أنها شاعرة بريئة من تأثير الكتابات الأخرى، سواء كانت رجالية او نسوية، عربية أو اجنبية، والدليل على ذلك التقدير والاحتفاء النقدي الذي حظيت به بعد رحيلها، بالإضافة إلى المكانة التي بقيت تحتلها بين الشعراء السوريين من أوساط الأجيال اللاحقة التي ترى في مشروعها مثالا للشاعر الذي أخلص للنص، وعول عليه من أجل الخلاص.
كانت دعد جارة الشاعر الراحل بندر عبد الحميد في شارع العابد في منطقة الصالحية وسط دمشق. عاشا مثل طائرين على غصنين متقابلين، النافذة تطل على النافذة. وتعود الصداقة بينهما إلى مطلع السبعينيات. بندر القادم من ريف الحسكة أول من كتب عن دعد العام 1973 الدراسة الأولى في مجلة الموقف الأدبي، تحت عنوانٍ موحٍ بطبيعة شعرها الذي يشبهها، عندما كانت في الثلاثين، هو: “عندما تكتب المرأة عن الفرح والحياة والضجر”، وظهر أنه الأقرب إلى عالمها الشعري والأكثر إطلاعا على مشاريعها في الكتابة، وربما لهذا السبب كتب مقدمة أعمالها الكاملة بعد رحيلها، والتي صدرت عن “دار التكوين” العام 2018 تحت عنوان “أنا التي تبكي من شدة الشعر”. وضمت دواوينها الثلاثة تصحيح “خطأ الموت” 1981، “كسرة خبز تكفيني” 1987، و”الشجرة التي تميل نحو الأرض” 1991، والذي صدر بعد رحيلها، وهناك ديوان رابع كشف عنه بندر، كانت الشاعرة قد أرسلته إليه، ونشره في هذه الأعمال تحت العنوان الذي اختارته “ثمة ضوء”. وكانت دعد قد كتبته، كما أرخت، خلال تموز وحتى آب 1987، أي قبل المجموعة التي ترثي فيها نفسها، والتي كتبت معظم قصائدها عام 1988 وبداية عام 1990.
عاشت دعد عزلة خاصة في دمشق، كانت تتجول وحيدة مثل تروبادور في المنطقة التي ينتشر فيها الكتاب والصحافيون في نهارات دمشق ولياليها، بين منطقة السبع بحرات وساحة النجمة والمرجة، في مقاهي النجمة والهافانا واللاتيرنا. لا تختلط كثيرا وظلتْ على مسافة من الوسط الثقافي الذي قررتْ أن تعيش على هامشه، وانعكس ذلك الخيار على نصوصها التي كانت لا تبوح بها ولا تنشرها، وبقيت على هذا الحال حتى صار لديها مخزون كبير من الكتابات بين الشعر والمسرحيات الشعرية. ولم تكن عزلتها حركة فانتازية، بل قرار مصيري، اختارتْ أن تبتعد لتعيش حياتها وعالمها ونصها الخاص، وحين نقرأها اليوم بمفعول رجعي ونقاطع نصوصها مع نصوص تلك المرحلة نجد أنها حلقت لوحدها، وكان ذات مزاج مختلف وإيقاع إنساني فريد، وهذا ربما فسر جانباً من أسباب رحيلها المبكر عن عمر 54 عاما (1937-1991). وعندما نستعيد بعض وقائع تلك الأيام البعيدة نجد أن القسوة مع الذات شكلت أحد محاور حياة هذه الشاعرة، التي قدمت إلى دمشق شابة من مدينة اللاذقية، وهي على ثقافة واسعة بفضل البيت العائلي ذي المناخ الثقافي، شقيقتها الشاعرة نبيهة، وشقيقها السينمائي مروان.
وفي البحث بعيدا في قاموس دعد حداد الشعري، تطل بقوة صورة الأنثى المقهورة التي لا حياة لها خارج القصيدة، ويدرك من يتمعن في شعر هذه المرأة أنها أرادت أن تحمّل الشعر كل ما يمكن أن يصدر عن مصيرها الشخصي، ورمت على ظهر القصيدة كل ما كانت تعيشه حتى صارت صليبها الخاص، لا حياة لديها خارج الشعر. تبكي من شدة الشعر الذي بقي يلازمها طيلة الوقت كحالة مرضية سكنتها، ولم يكن هناك وسيلة للفكاك منها، حتى أن الكثير من قصائدها مؤرَّخ في أيام وليالٍ متقاربة، ومعظمها يحمل توقيتاً ينتمي إلى دقائق الفجر الأولى، والقصيدة لديها وليدة مخاض نفسي “تولد القصيدة عندي إثر حالات توتر نفسي حاد مرفقة بهواجس وعذابات تشبه غصّة الدمع وانحباس الضحكة اليائسة… في هذه الطقوس النفسية الفظيعة يولد عندي النص الشعري، ويعقبه تعب مسرّ، ثم تخفّ عندي حالة الحزن المريرة، وأشعر بهدوء نفسي نسبيّ… يبدو أن الشعر يغسلنا من مرارة الأحزان”. كانت تكتب الكثير ولا تنشر إلا القليل، إلا أنها لم تجد دواءً شافياً من هذا الدفق المتواصل، وكانت تريد أن تسعفه بحياة خارج القصيدة، ولكنها لم تحفل بذلك، وخانتها الحياة وتآمرت عليها، وهي الصبية التي كانت مفعمة بالوداعة والطيبة والبراءة، ولكن حياتها كانت على قدر كبير من الهشاشة التي لم تتمكن من مداراتها حتى النهاية، فتسربت من بين يديها تاركه خلفها رصيدا قل مثيله بين شاعرات الحداثة السوريات، بل إن دعد تكاد تكون الشاعرة الوحيدة التي كسرت الصورة النمطية للمرأة الشاعرة، حتى أن القارئ يقع في الالتباس أحياناً حيال لغة النص الصادرة عن تجربة حياتية قاسية. ولغة دعد وصورها وتراكيب قصيدتها لا نجده سوى لدى السوريالييـن، وهي كانت على نضج واضح في التعبير بواسطة هذا الشكل، إنما على نحو مبتكر وذكي وجديد وانتقال واع بين مرحلة وأخرى منذ أن بدأت تجربتها الشعرية بكتابة النص الكلاسيكي الموزون والمقفى “الحب طائر غريب/ يودّ أن يعيش في سلام/ لكنّه في رحلة/ يجابه الضياء والغبار، والمطر/ وتلمس الزهور دمعة الحبيس/ تمدّ عنقها، تلامس الزغب/ أريد أن أطيرَ مثلما تطير/ لكنّ لي في الأرض هاهنا جذور/ تشدّني لغايتي/ أودّ لو أطير، أن أطير/ أن تكون مهنتي الخطر”.
بلاغة الألم الذي يحفل به شعر دعد هو أكثر ما يميزها عن غيرها، هي لا تكتب فقط، وإنما تريد لهذا الشعر أن يشاركها الانكسار، هي المرأة الوحيدة التي تنادي نفسها بـ”أنا ابنة الشيطان/ أنا ابنة هذه الليلة المجنونة/ أنا من تحمل الزهور إلى قبرها/ وتبكي من شدَّةِ الشِعر/ أعلى حياتي تُبنى القصور/ وهذي الوسائدُ للوصيفات/ وتلك أحجاري المسروقة/ وسكاكيني يُجفلُ منها/ ومن عيوني يهطلُ المطر/ والعالم داري/ أغمضوا أعينكم/ سأمرّ وحيدة/ كحدِّ الرمح”. وهكذا حين مضتْ أدرك الشعراء والشاعرات كم أن هذه السيدة كانتْ مشتعلة بالشعر وحده، وليس غيره، وكانت هي “الشجرة التي تميل نحو الأرض”. ومن بين أكثر النصوص توصيفا لحالها ما جاء في المقدمة التي كتبها بندر عبد الحميد “شاعرة مارقة شجاعة غاضبة، من الواقع وقيود الحياة اليومية وقيود الشعر والكتابة واللغة الجاهزة واجترار الشعارات والخطابات”.
المعتقلة السابقة والمخرجة السينمائية السورية هالة العبد الله، التي كتبت وأخرجت فيلماً عن تجربة مجموعة من النساء السوريات من بنات جيلها، خاض أغلبهن تجربة الاعتقال السياسي. أعطت الفيلم عنوان قصيدة دعد حداد “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها”، وهي من مجموعة “كسرة خبز تكفيني”. هذه الاستعارة ليست من أجل منح الفيلم شحنة شعرية، بل كي تعكس وجه التقاطع في تجربة الأسى والحلم المكسور والموت البطيء لجيل عاش حلم التغيير ولكنه لم يصل. ومن ناحية أخرى تبرر اللغة السينمائية في الفيلم المفتوحة على التجريب الصلة بين السينمائية والشاعرة، والتي يمكن أن تذهب أبعد من الاستعارة.
(المدن)