بشير البكر: خالد حوراني.. في البحث عن “جمل المحامل”

0

لوحة فنية اقتناها العقيد الليبي معمر القذافي العام 1973، هي مركز رواية الفنان التشكيلي الفلسطيني خالد حوراني. واللوحة المعنية هي “جمل المحامل” للفنان التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور، المشهورة على نطاق فلسطيني وعربي وعالمي إلى حد أن صاحبها صار ضحية لها، لأنها غطت على كل ما رسمه هذا التشكيلي الذي يعدّ أحد أبرز الرسامين الفلسطينيين، ويمثل تجربة فنية فريدة ومكتملة عن الفن في فلسطين. واختار حوراني طريق البحث عن هذه اللوحة ليسافر بعيدا في سرده، الذي يبحر في الذاتي والعام بلغة شاعرية. ويقول الكاتب فيصل حوراني في تقديم رواية “البحث عن جمل المحامل” الصادرة عن دار “الأهلية” في عمان، إن خالد حوراني “يرسم بالكلمات بعدما طال احترافه الرسم بالألوان”، وليس هذا كل شيء.

ويعلن خالد حوراني في تقديمه للرواية، أن اللوحة التي بحث عنها اقتناها السفير الليبي في لندن في سبعينيات القرن الماضي، لصالح الرئيس الليبي الراحل لتصبح من ضمن مقتنياته. وجرى البحث عنها بعد الثورة على القذافي العام 2011. ويعترف بأنها قصة لوحة في الظاهر، لكنها في حقيقتها العميقة قصة حياة كاملة تزخر بالتفاصيل، وهي إلى ذلك ليست قصة عن الفن فقط في هذه المنطقة من العالم وفي زمن محدد، او رحلة لوحة إلى غياهب المجهول، بل إنها قصة عن السياسة والظروف التي عاشها ويعيشها الفنان والإنسان في فلسطين والمنطقة والجوار. ومن هنا جاء التفكير بهذا المشروع على وقع ما حدث في العالم العربي منذ ثورة الياسمين في تونس العام 2010، وما سمي “الربيع العربي” في مصر واليمن وسوريا، والذي تعددت فصوله فشملت ليبيا أيضا.

على مدار التاريخ تفوق أهمية بعض الحكايات عن اللوحات الفنية، اللوحات ذاتها على الرغم من أهميتها، وخصوصاً حينما تتشابك القضايا ببعضها، ويصبح للوحة حينما تعرف الشهرة حياة مستقلة عن الفنان، ويصير لها قصص وحكايات تروى ليس فقط على لسانه هو بوصفه مبدعها، وإنما على ألسنة الآخرين الذين تعاملوا معها واستقبلوها، باعوها واشتروها وطبعوا نسخاً منها عبّرت عن دواخلهم، كما هو الحال في لوحة بيكاسو “غيرنيكا” التي خلّد فيها القرية الواقعة في منطقة “الباسك” في اسبانيا، والتي تعرضت لقصف من الطائرات الألمانية والإيطالية العام 1937 خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ولوحة “جمل المحامل” كرمز وتمثيل لفلسطين، وجمل المحامل الفلسطيني عربي أيضاً يقصف ويسجن ويعاني الحرمان ليس في بلاده فقط، وإنما على حدود الآخرين. وهي كذلك “ضربة معلم او خبطة العمر للفنان، تحفته وأيقونته الأبرز في مسيرته الفنية، لفتت وفتنت الناس سريعاً، وأصبحت شغلهم الشاغل في منطقة لا تحتفي عادة بالفن بهذه الطريقة. شيء ما جعل هذه اللوحة تأخذ هذه المكانة الفريدة في وجدانهم، لتصبح حاملة للفن وللفنان بعد ذلك.

تتناول الرواية ولادة اللوحة، ويعترف منصور أنه رسمها وقت بدأ يتأثر فيه بالحركة السوريالية، بعدما شاهد معرضاً سحرته فيه أعمال الفنان الألماني ماكس أرنست، وعلى الأثر أنتج أعمالاً عديدة ذات مسحة سوريالية وأجواء من ألف ليلة وليلة، وشارك ببعضها في معرض بمدينة تل أبيب “والهدف من المعرض كما قيل كان تعريف الجمهور الإسرائيلي بالفن العربي”. وهناك بيعت كل لوحات منصور التي شاركت في المعرض، واقتنى إحداها بنك ليؤمي، وعلقها في مقره في القدس، وبقيت هناك حتى تم تغيير الديكور. وبعد ذلك عاد إلى مطبخ الأم الذي يستعمله كمشغل وصار يعمل على “لوحة جمل المحامل”، التي كان أصلها موجوداً وهو عبارة عن “عتّال”، وجاء الوحي متجاوزاً للواقع حين قرر أن يضع القدس على ظهر الحمّال.

ولا ينسى أن يسجل حوراني شهادة الأم التي كانت تشهد اجتياح مطبخها من قبل ولدها الشاب الذي بدأ يتوسع في رسومه، وكانت قلقة وهي ترى الابن الدمث مشدود الأعصاب، وصارت ترى وجهه ووجه أبيه ووجه جده، وترى جوهره، وهو يعمل على اللوحة، وبفضل مردود لوحات سليمان تركت العمل الذي كانت تعيل منه أولادها الذين تكفلت بهم بعد وفاة زوجها، وصار بمقدور سليمان أن يعمل “بل صار هو أبي وأخي ومعيلي وابني الذي افتخر وأعتز به وأحوطه بالرضا”. وعندما أقامت لدى أشقاء سليمان في أميركا وحصلت على الجنسية، بقي هو في فلسطين ولم يلتحق بها، وحين عادت لتراه في العام 2000 وجدته لا شيء تغير فيه إلا بعض الشيب.

كان العتّال الذي رسمه منصور يذكر بعتّال حقيقي يعرفه الناس في القدس واسمه محمد جمعة، في حين رأى بعض آخر أن الوجه الذي ظهر في اللوحة يشبه وجه عتال آخر كان يعمل عند باب الخليل من عائلة سدر. بينما الوضعية هي وضعية مماثلة لصورة قديمة لعتال من القدس في الأربعينيات من القرن الماضي، تلك التي نشرها المصور الفرنسي فيليكس بونفيس، وصارت من مطبوعات فندق “الأمريكان كولني”. هذا بينما الأمر بالنسبة للرسام هو بحث في هويته بما هو إنسان وفنان أكثر من أي شيء آخر. وأراد الخروج من سجن الصورة النمطية بعرض المعنى على شكل مشهد مسرحي، بصورة رجل يحمل المستحيل على ظهره. الناس وحدهم يحملون أثقال مأساتهم على ظهرهم، في ظل غياب الآخرين، كالعتال الذي يحمل الأثقال نيابة عن غيره. هجس الفنان بأشواق الناس وهمومهم وكانت لوحته التي تنطق باسمهم.

ويشرح حوراني أن علاقته باللوحة بدأت في مطلع الثمانينيات حين نقل والده إلى مستشفى المقاصد الخيرية الإسلامية في القدس، وقد شاهدها للمرة الأولى نسخة معلقة في مكتب المحاسب، حيث كان يتوجب سداد مبلغ فوق طاقة العائلة قبل إدخال الوالد للمشفى، وهو يعاني من التهاب حاد في البروستات. وشكل وجود اللوحة في ذلك المكتب مفارقة صادمة، حيث شاهد الاحتفاء بالعتال وهو يواجه تصرف المحاسب إزاء أسرة مكافحة، الأب سجين سابق لدى الاحتلال وثلاثة من أبنائه قابعون في السجون الإسرائيلية. وبالتالي صار “جمل المحامل” في ذهن الكاتب صورة مختلفة تثير الحزن والشك من أي شيء. ولم يهتم بها، وأمام العديد من اللوحات التي شاهدها في حياته، شعر بأن يدا إلهية هي التي رسمتها. ليس هناك فنان هناك حالة فنية.

“جمل المحامل” هو الاسم الذي أطلقه الكاتب اميل حبيبي على اللوحة، التي طبعتها دار صلاح الدين في القدس، بعدما عُرضت في جمعية الشبان المسيحيين في القدس ومكتبة البلدية في رام الله. ويبدو أن قرار أصحاب المطبعة بطباعة اللوحة وتوزيعها، نابع من أنهم أحسوا بقيمتها، وقدّروا أنه سيكون لها شأن عظيم وتاريخ طويل في مسيرة الفن الفلسطيني. وربما لهذا السبب لم يعيدوها لصاحبها، وماطلوا حتى أقنعوا الفنان بالبيع، وأعطوه شيكات عديدة صُرف أحدها بقيمة 200 شيكل والبقية بلا رصيد، ومن ثم ظهرت اللوحة بعد سنوات في مزاد كريستي في دبي. ضاعت اللوحة وكسبت الانتشار. الجماعة صرفوا بشكل جيد عليها والفنان عاش مجد الشهرة، إلا أنه رسم لوحة ثانية نسخة طبق الأصل عن الأولى، قلد بها نفسه، وهذه هي التي أصبحت بحوزة القذافي بعدما اشتراها السفير الليبي في معرض لندن. وذلك في حين أن الفنان نبيل العناني يزعم أن منصور رسم اللوحة أكثر من مرة. وهو رسمها ثانية لأنه باع النسخة الأولى للقذافي، وتصور أن أحداً لن يراها ثانية. وإذا ينفي منصور هذه الرواية فهو يعترف برسم نسخة ثالثة.

يقول حوراني “تعلمت أن الكتابة فعل ينطوي على أن هناك شيئاً ما ليس على ما يرام. أن هناك أمراً ترغب في معالجته”، أو كما قال دولوز “أنا أكتب ضد الفكرة الجاهزة”. وفي هذا السياق تعد الرواية دراسة موسعة وسفر متعدد الطرقات في عالم الفنان وإنتاج المعنى والتعبير والشعور، وتسجيل بعض تفاصيل ومحطات سيرته الحياتية بدءاً بالولادة في بيرزيت ووفاة الوالد ورعاية الأم والدراسة في مدرسة داخلية للأيتام المسيحيين في القدس، حيث وعى الفتى هناك معنى الاعتماد على الذات وهو وحيد بقي حواره الأهم هو حواره الداخلي، حواره مع الذات، ونتاجه الفني دليل وحدته مثلما هو وليدها. وصار الرسم ملاذه وهو ينزوي أحياناً ليشكل عالمه. ولا يغفل الكاتب الملامح الشخصية للرسام، فهو وسيم بأناقة، طويل نسبياً، فاتح البشرة التي تميل للاحمرار، عيناه مشعة ومطمئنة، شعره متهدل وقد غزاه الشيب. يقول كثير من الناس أنه يشبه الممثل المصري الراحل جميل راتب. ويختصر حوراني البورتريه كما قال الشاعر تشارلز بوكوفسكي “إن سألت عني مئة شخص ستجد أمامك مئة رأي، أنا لا أطرح شخصيتي مع الناس أنا أجاري عقولهم”. ويتحدث عن صلة منصور بأرضه ورموزها ومنها شجرة الزيتون إذ أصبحت أيقونة بالنسبة للفنان الذي يشغله موسم القطاف. يشارك فيه مثل فلاح أصيل، يقطف الزيتون ويفرزه ويحمل بعضه إلى معصرة الزيت. يعيش العملية كطقس مقدس. وهذا الوفاء للشجرة ليس هدفه المال، فلوحة واحدة قد تدر عليه دخلا أكثر من كرم زيتون بأكمله. وبالتالي فإن الصورة التي ينتجها مطبوعة في ذاكرته يحيياها بالفعل ولا يتخيلها.

وتقدم الرواية تعريفاً موسعاً بالحركة التشكيلية داخل فلسطين ورموزها مثل نبيل العناني وعصام بدر، صاحب أول مشروع غاليري رسمي في فلسطين، أسسه مع زملاء آخرين وعلى رأسهم العناني، وأطلقوا عليه اسم غاليري 79، وكان مقره في رام الله، قبل أن يغلق بأمر من سلطات الاحتلال. ومن ثم افتتح في مدينة البيرة في بيت المؤرخ عارف العارف، وصار بعد أوسلو تابعاً لوزارة الثقافة الفلسطينية، ثم مقراً للأكاديمية الدولية للفنون-فلسطين. وتلقي الرواية الضوء على طيف واسع من التنوع في الخامات والأساليب واللغة الفنية والمفاهيم، الذي ساهم في وضع الفن التشكيلي الفلسطيني في خريطة الفن في المحيط.

ليست وحدها لوحة “جمل المحامل” التي ضاعت. هناك معارض بأكملها لم تعد بعدما جرى تنظيمها، مصادرات إسرائيلية، هدايا، حرق، بيع لم يتم الدفع، شيكات بلا رصيد. وكل لوحة قصة لوحدها، وفي السابق كان الموضوع ظاهرة، والفنانون لم يكونوا يعرفون مثل هذه الأمور كما الآن، وستكون الصورة أوضح بكثير بعد هذه الرواية التي بذل كاتبها جهداً كبيراً لكي يضع هذه الظاهرة في مركز الاهتمام العام، وفي الوقت نفسه نجح في أن يجمع قدراً كبيراً من الحكايات حول الفن والفنانين، وقدمها بأسلوب حكائي جذاب.

*المدن