بشير البكر: حسونة المصباحي يسافر بين الثقافات في “الرحلة المغربية”

0

“الرحلة المغربية” هو آخر الكتب التي صدرت للكاتب التونسي حسونة المصباحي. والذي سجل فيه خلاصات سفر طويل داخل المغرب، ومنه نحو بلدان أخرى في الشرق والغرب. وتشكل الثقافة في التنقلات بوصلة الرحالة، الذي ينظر إلى العالم بعين الروائي والقاص والصحافي. ذلك أن السفر لا يعني فقط الانتقال من مكان إلى آخر، وإنما يعني الخروج عن السائد والمألوف، وعن التخمة الثقيلة للخطاب الرسمي الاجتماعي والسياسي. ويوحي عنوان الكتاب الذي صدر عن دار “منشورات باب الحكمة” المغربية، أن الكاتب يكرسه فقط لرحلاته الكثيرة إلى البلد الذي يحبه ويتردد إليه كثيرا، وتربطه صلات واسعة بكتابه ومثقفيه وفنانيه، ولكنه يخالف التوقعات، ليكتب رحلات من نمط مختلف، يبدأ فيها من وصوله إلى العاصمة المغربية، ليستقر في فندق “حسان”، حيث تقوده التداعيات نحو عوالم بعيدة، ومن ثم يعود ليجمع الخيوط كي تتقاطع في فضاءات المغرب الرحبة.

يأخذ الكاتب من تجربة المغرب المعاصر، ما بعد الاستقلال عن فرنسا، نموذجا سياسيا، ليقيس عليها في محيطها المغاربي، ويضع في الميزان تجربة الأجيال التي تداولت على الحكم في المغرب، تونس، الجزائر، وليبيا، ولكنه لا ينسى أن يمر على مصر بعد الثورة على الملكية، والعراق وسوريا، وكذلك السياق العالمي للتحولات التي عاشها العالم العربي، وتأثره بالتطورات العالمية السياسية والثقافية في أوروبا القريبة وحتى الصين البعيدة، صاحبة ما يسمى بالثورة الثقافية التي سحرت بعض المثقفين العرب والغربيين، رغم أنها كانت عبارة عن مجزرة سياسية دبرها ماو تسي تونغ ليمنع التفكير الحر أن يصل إلى بلاده.

تشكل الثقافة خلفية تنقلات المصباحي، وتتداخل في سرده الحار والمتوتر الكتب بالأحداث والبورتريهات التي يرسمها لشخصيات سياسية وثقافية وفنية، يأتي المغرب منها في الصدارة. ورغم أن اللحظة الأولى لولادة هذا العمل الغني تبدأ من الرباط، إلا أن السفر الفعلي ينطلق من طنجة المدينة التي يعرف الكاتب طرقاتها ومقاهيها ومطاعمها، والتي كانت ذات يوم العنوان الدائم والثابت للكاتب المغربي الراحل محمد شكري صاحب رواية “الخبز الحافي”، التي سجل فيها سيرة طفولته وشبابه وشهرته عالميا. ولكن طنجة أيضا بوجهها وروحها وعوالمها الكوزموبوليتية الباقية من الربع الأول من القرن العشرين، والكتّاب والفنانين الأجانب التي قصدوها وعاشوا فيها مثل بول بولز وتينسي وليامز وجان جينيه.

تحضر الذكريات الخاصة بقوّة في الكتاب، حتى يبدو أن الكاتب أراد من ذلك أن يسجّل طرفا من سيرته الذاتية. وهو يعتبر أنّ حصوله على جواز سفره في عام 1981، وسفره إلى باريس بداية التحليق عاليا نحو عوالم أوسع وأكثر رحابة، الحرية السياسية والكتب والمقاهي والمثقفين والبلدان، فمن باريس إلى مدريد التي كانت تخلع معطف الجنرال فرانكو الثقيل، ومنها مدينة إلى الدار البيضاء، ليلتقي هناك بالعديد من الكتاب والشعراء أمثال عبد اللطيف اللعبي صاحب مشروع “أنفاس” الخارج للتو من السجن، عبد الكريم غلاب، عبد الجبار السحيمي، ومحمد برادة الذي كان رئيساً لاتحاد كتاب المغرب، والمسرحي الطيب الصديقي.

تلك الرحلة هي الأولى التي قام بها المصباحي إلى المغرب، فوجده مختلفا كليا عن تونس، وكونت لديه حالة من الشوق لزيارة المغرب واللقاء مع الفنانين والكتاب والشعراء، وهو يشعر أن هذه اللقاءات تفتح أمامه آفاقا واسعة. ومن هنا بدأت رحلة الشغف المغربي، حتى أن المصباحي لم يعد يشعر بأنه يطير بجناح تونسي فقط، بل بجناح آخر هو الجناح المغربي، إلا أنه حينما كان يغادر الدار البيضاء عائدا إلى تونس، كان شاهد عيان على المواجهة الدامية بين الجيش والنقابات ورأى في الشوارع التي كانت تحرقها شمس أول الصيف، جثث القتلى والجرحى في الشوارع.

يخضع الكاتب للمقارنة التجارب السياسية للبلدان الأربعة، المغرب الذي حكمه الحسن الثاني عام 1961 بعد رحيل والده السلطان محمد الخامس، والجزائر التي استقلت عن فرنسا عام 1962، وتونس التي حكمها الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال عن فرنسا، وليبيا التي حكمها العقيد معمر القذافي عام 1969 بعد الانقلاب على حكم الملك ادريس السنوسي. ورغم أن الكاتب يرى أن التجارب الأربع مرت بامتحانات صعبة أدت إلى مواجهات دامية، إلا أن الملكية في المغرب هي الوحيدة التي نجت من السقوط في فخ الحروب الداخلية، رغم أنها تعرضت لامتحانات صعبة، تمثلت في انقلابين ضد الحسن الثاني في عامي 1971 و1972، الذي لم ينجر إلى العنف رغم أنه تصرف بصرامة وفتح السجون لمعارضيه، إلا أنه كان يجري مراجعات لوضع بلده وأحاط نفسه بمستشارين كانوا يشورون عليه ليحكم بعقلانية، أعطت نتائجها الإيجابية خلال الانتقال الهادئ لحظة رحيله عام 1999. ويتحدث الكاتب مطولا عن التجربة الجزائرية التي عاشت عدة انتكاسات مدمرة، ويستشهد بآراء مثقفين وكتاب مثال الشاعر الدكتور جمال الدين بن الشيخ الذي ترك الجزائر، بعد أن اختلف مع حكم أحمد بن بله بعد الاستقلال، وغادر إلى فرنسا هربا من الاضطهاد والاقصاء، ليدرس في جامعات باريس، ويصبح أحد أهم مراجع الأدب العربي، وكذلك الأمر الروائية آسيا جبار صاحبة كتاب “أبيض الجزائر”، الذي هو عبارة عن مرثية للمثقفين والشعراء والكتاب الذين كانوا ضحايا الإرهاب الأعمى، سواء قبل الاستقلال أو خلال “سنوات الجمر”. والأبيض هنا يرمز لديها إلى الأكفان.

يسافر المصباحي في المغرب كما لو أنه يتجوّل في مدينة كبيرة، يعرف مداخلها ومخارجها، طرقاتها الواسعة ودروبها الصغيرة، مقاهيها ومكتباتها ودور السينما والمسارح وأماكن السهر، فينتقل في الكتّاب من محمد شكري إلى عبد القادر الشاوي ومحمد زفزاف وادريس الخوري، ومن طنجة إلى الرباط والدار البيضاء ومراكش وأغادير، ومن ثم الصحراء التي يخصّص لها مساحة مهمة من الكتّاب، وهو يسير على خطى الكاتب الفرنسي سانت إكزوبيري صاحب “الأمير الصغير”، الذي حضرت الصحراء في كل أعماله، لأنها تعني ما يولد فينا، وما نتعلمه عن أنفسنا. وفي كل ذلك يبقى حضور الصديق القديم الصحافي حاتم البطيوي، ابن مدينة أصيلة، بمثابة الموجه ومستشار الرحلة، الذي يظهر في مفاصلها الحساسة، كلما استدعى الأمر.


يتجلى في كتاب المصباحي البعد الثقافي، الذي يعود إلى صلة الكاتب العضوية بالثقافة، وخلاصات تجاربه الحياتية التي راكمها بفضل أسفاره ورحلاته، وشكلت أوروبا محورا أساسيا فيها، وكذلك إلمامه بالثقافة العربية المعاصرة والتراث. ويستفيد من هذا المخزون حين يقرأ ويحاكم ويقيس الحالة المغربية، وبذلك ينتقل بسلاسة بين ابن خلدون وعبدالله العروي وهشام جعيط وعبد الكبير الخطيبي والبير كامي وجان بول سارتر وبيار بورديو ورولان بارت، ما يجعل من قراءة هذا الكتاب مشوقة وممتعة وذات فائدة حتى لو اختلف المرء مع الكاتب في العديد من أطروحاته التي تبدو ميكانيكية ومتسرّعة في تفسير بعض الأحداث، ومتعسفة في الحكم على تجارب اليسار المغاربي التي كان له دوره في الوصول إلى الاستقرار السياسي الذي يعرفه مغرب اليوم، وليس سرا أن الملك الحسن الثاني حين علم بمرضه أجرى قبل رحيله عام 1999 مصالحة تاريخية مع اليسار المغربي، وعهد في عام 1998 إلى الزعيم الاشتراكي اليساري عبد الرحمن اليوسفي بقيادة حكومة الانتقال الديموقراطي، التي قامت بتصفية إرث “سنوات الرصاص”.

*المدن