أيهما أطول، جورج مختار أم سيمون كروم؟ لم أعد أتذكر جيداً. كان ذلك في زمن بعيد حين كانا يتنافسان. الأول يلتقط الكرات ويمنعها من دخول الشباك، والثاني يسددها في السلال العالية. ما نعرفه جيداً هو أن جورج مختار كان أطول من حافظ الأسد. وهذه حقيقة لا يستطيع أحد إنكارها وهي موثقة بالصور. جورج وسيمون لاعبان من مدينة الحسكة في أوائل سبعينيات القرن الماضي. الأول حارس مرمى نادي الحسكة الرياضي، والثاني لاعب كرة سلة في نادي الخابور الذي حاز على كأس الجمهورية العربية المتحدة العام 1958.
وكانت هذه المدينة، في شمال شرقي سوريا، تعيش نهضة رياضية متقدمة على مستوى البلد ككل، وتشكلت فيها الأندية الرياضية في أوائل خمسينيات القرن الماضي، حتى وصلت في السبعينيات إلى أربع أندية، الحسكة، الخابور، الجزائر، الشباب. وبلغ عدد لاعبيها في الفريق الوطني قرابة النصف، منهم أربعة لاعبين أساسيين يشاركون في جميع المباريات: الحارس جورج مختار، المهاجم نبيل نانو، المهاجم جوزيف عارف، الظهير حنا نصري. وبعض هؤلاء لم يترك مهنته الأصلية، رغم أن الكرة صنعت منه نجماً، ولم يغادر الحسكة مع أنه تلقى عروضاً مغرية للعب في أندية داخل سوريا وخارجها.
ذاع صيت جورج أكثر من سيمون بفارق يعود إلى شعبية كرة القدم بالمقارنة مع كرة السلة التي تبقى نخبوية، حتى في عصرنا، ولم تأخذ مجدها كلعبة إلا في الولايات المتحدة بفضل عدد من اللاعبين من أصول أميركية أفريقية، بعضهم وصل إلى النجومية العالمية كما هو حال كريم عبد الجبار الذي تحول إلى أيقونة عالمية وتجاوزت شهرته ملاعب كرة السلة ومشجعيها إلى الكتابة والسينما، حتى أنه صار من مرتادي بعض المهرجانات الدولية المرموقة مثل “مهرجان كان” الفرنسي.
بدا جورج مختار أطول من حافظ الأسد في الصورة التي تم التقاطها العام 1976 حين استقبل فريق الجيش السوري بعد فوزه على فريق البحرين في مباراة النهائي في البطولة العربية التي استضافتها دمشق، وحصوله على “كأس القنيطرة”. كان جورج مختار، حارس الفريق الذي تمكن من تحقيق الفوز لفريقه بصد ضربات الجزاء، فاستحق هدية قيمة عبارة عن سيارة من الأسد، لكن الصورة التي نشرتها الصحف في اليوم التالي كادت أن تفسد حياة اللاعب المتألق، إذ صار اسمه على ألسنة السوريين الذين تابعوا المباراة المنقولة مباشرة عبر إذاعة دمشق ورافقها تعليق المذيع الشهير عدنان بوظو. وثمة رواية تقول إن الأسد استشار صديقه مصطفى طلاس وزير الدفاع، عن شعبية جورج في أوساط الجيش، فطلب أن يمهله 24 ساعة كي يجري استطلاع رأي، وعاد إليه بنتيجة ساحقة وقال له “سيدي هو الوحيد الذي يشعر المدافعون بارتياح حين يكون في موقعه”، ويبدو أن الأسد ترجم مغزى هذه النتيجة عسكرياً، وهذا ما جعله يراجع نفسه، ويعدل عن معاقبة مختار الذي تجاوزه في علو القامة، وهكذا سقطت العقوبة على المصور ورؤساء تحرير الصحف الثلاث، “تشرين” و”البعث” و”الثورة” التي نشرت الصورة في مساحة كبيرة احتلت القسم الأساسي من صفحاتها الأولى، وعنونت على الفوز ولم تعنون على الأسد، وأبرزت مختار أكثر منه.
وحين يتحدث بعض لاعبي الفريق الذين شاركوا في تلك المباراة، ومنهم المهاجم نبيل نانو، فهم يتوقفون عند نقاط عديدة. الأولى ان الأسد حضر المباراة في الملعب البلدي في دمشق، وكانت المباراة الأولى والأخيرة التي يحضرها منذ أن أصبح رئيساً للدولة وحتى وفاته. والثانية، أن الأسد ترك هنري كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة، ينتظر، وأجّل اجتماعاً مهماً معه بسبب انشغاله بالمباراة، وذاع نبأ هذه القصة على نطاق واسع في سوريا حتى أنها وصلت إلى مسامع كيسنجر نفسه، ولذلك قام بتهنئة الأسد بالفوز حين التقاه في اليوم الثاني، ودار بينهما حديث عن الرياضة قبل أن يدخلا في نقاش السياسة. وفي حقيقة الأمر، تعدّ هذه القصة من بنات خيال الأجهزة السورية، فلم يزر كيسنجر سوريا العام 1976، وكانت آخر زيارة له في يونيو/حزيران 1974 برفقة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، بعدما جرى التوصل إلى اتفاقية فصل القوات بين سوريا وإسرائيل، والتي أنجزها كيسنجر في جولات مكوكية، خلال شهري شباط وآذار من ذلك العام، وتواصل مع الأسد في العام 1976 من خلال السفير الأميركي بدمشق ريتشارد مورفي، لترتيب أمر التدخل العسكري السوري في لبنان. والنقطة الثالثة هي ان الأسد استقبل الفريق بعد نهاية المباراة في القصر الجمهوري، وكرّم جورج مختار على نحو خاص.
وفي عودة إلى ما يربط ويفرق بين كل من جورج مختار وسيمون كروم. القامة المديدة. جورج عاش ومات من أجل الكرة التي وجد فيها عالمه الخاص والنافذة التي كان يمد منها ذراعيه الطويلتين لتحية الهاتفين بإسمه والمصفقين لمروره. بينما لم يربط سيمون حياته بالكرة، وهذا أحد أبرز الفوارق بين لاعب كرة القدم وكرة السلة، بينهما مسافة مثل تلك التي تباعد بين عازف الكمان وضارب الطبل. ويبدو أن الوسط الاجتماعي الذي جاء منه سيمون يدرك هذا. كرة القدم يتعلمها الصبي في الشارع، بينما تحتاج كرة السلة إلى تدريب خاص، ولا تصبح مهنة، بل تبقى أقرب إلى تلك المتع التي تحقق الرضى الخاص أولاً، ويبقى لاعب كرة السلة مأخوذاً بالتشخيص، مثل ممثل المسرح المدمن على تجسيد الدور، أكثر من ذلك الذي يطارد الكرة.
*المدن