ليس الموضوع هو من يصنع الرواية، بل طريقة سردها وتقديمها. هذه هي إحدى خلاصات الكاتب الأميركي بول أوستر، التي طبقها في روايته “حماقات بروكلين”. ورغم أنها صدرت منذ أكثر من عقد، فإن العودة إليها في كل مرة تحرض على الكتابة عنها، باعتبارها عمودا أساسياً في مشروع هذا الكاتب عن مدينة نيويورك. ويقدم أوستر من خلال الرواية وصفة سهلة لكتابة كتاب ناجح، وهي أن يدون بأبسط لغة ممكنة سردا لكل خطأ فاضح، وغلطة مضحكة، وتصرف محرج، وحماقة، ونقطة ضعف، وكل فعل تافه ارتكبه على امتداد حياته المهنية، وعندما تفرغ الجعبة من القصص عن نفسه، سيسجل الأشياء التي حدثت لأناس عرفهم، وعندما يجف هذا النبع، سيتناول الأحداث التاريخية ويسجل حماقات باقي البشر حتى تنتهي الصفحات، بدءا بالحضارة البائدة للعالم العتيق حتى القرن الحادي والعشرين.
وإذا لم تكن لهذا الكتاب من أهمية فسيكون مضحكا، لأنه ليست لديه رغبة بأن ينغمس في تأملات كئيبة. ستكون النبرة خفيفة وهزلية على طول الخط. والهدف الوحيد أن يوفر لنفسه التسلية واستهلاك أكبر عدد ممكن من ساعات النهار. وكلما جلس ليكتب يبدأ بإغماض عينيه وترك الأفكار تجول كما تشاء، ونجح بهذه الطريقة في اصطياد كمية كبيرة من المواد من الماضي السحيق، أشياء كان يفترض حتى ذلك الوقت أنها ضاعت إلى الأبد. وكتب عددا كبيرا من القصص خلال الشهرين الأولين، وهو يبذل جهده لتبقى نبرة الصوت عابثة خفيفة، ولكنه اكتشف ان ذلك ليس ممكنا، فكل شخص عرضة للمزاج السوداوي، وخاصة أنه أنفق معظم حياته العملية في مجال الموت، كبائع لشهادات التأمين على الحياة، التي لا تتعلق بالمال فقط، بل بأشد القضايا الميتافيزيقية خطورة.
بول أوستر روائي بارع في استحضار الوقائع الغربية، ومن ذلك المصادفات التي حصلت معه أو مع معارفه ويرويها وهو شبه موقن بها، لأن بعضها كان يصادفه على نحو لا يخطر على بال، ولكنه يحصل بقوة تفوق الأحداث التي تجري بقانون، ومنها اللقاء مع الممثل الأميركي كلينت إيستوود، الذي يقف على الطرف النقيض لجهة الموقف من الفن والثقافة وتشريع بيع السلاح. هما شخصان متوازيان، متصادفان، وحصل أنهما كانا مدعوان إلى مهرجان كان السينمائي في الجنوب الفرنسي، وشاءت المصادفات أن يكونا على نفس رحلة الطيران متجاوران في الكراسي، ودلفا صالون كبار الضيوف واستقلا ذات السيارة إلى الفندق، حيث كانت الغرف متقابلة. وفي اليوم الثاني لتناول طعام الإفطار استقلا نفس المصعد، ونظرا للزحمة في المطعم جلسا على الطاولة ذاتها، وفي ختام المهرجان عادا الى كاليفورنيا على رحلة واحدة، ايستوود إلى بيته واوستر إلى الفندق، وبينما هو يوقع أحد كتبه في معرض الكتاب بعد يومين، كانت المفاجأة أن ايستوود يوقع أحد كتبه على طاولة مجاورة له. وهكذا مر قرابة أسبوعين في حياة الكاتب، وهو يقابل عن كثب ذات الشخص الذي كان شديد الاختلاف معه، ويسافر معه على ذات الطائرة ويتناول الطعام على نفس الطاولة على مساحات جغرافية متباعدة.
في “حماقات بروكلين”، بدلا من أن يسرد الراوي (بائع شهادات التأمين على الحياة) حكاياته الخاصة، فإنه يبدأ بقصة شقيقته جين وابنها توم الذي تخصص في الأدب المقارن، ويتخذ من ذلك مناسبة ليسلط الضوء على رأي فئة الموظفين المتوسطين بكل من الكاتبين إدغار آلان بو وهنري ديفيد ثورو، وهما يعبران عن تنافر ويقفان على طرفي نقيض، الأول محلي، وتمثل أعمال الثاني هجوما لا يكل على الوضع الراهن. ولكن كلا الكاتبين آمن بأميركا وأن أميركا ذهبت إلى الجحيم، بأنها سحقت إلى الأبد تحت جبل من الآلات والأموال. ويبقى ابن شقيقته مركز القسم الأول من الحكاية بعد أن فشل في كتابة أطروحة الدكتوراة وتحوّل إلى العمل كسائق تاكسي، كون الوظيفة شكل من أشكال التفكير القاسي جدا. ولأن توم فشل جامعيا انحدر بذلك من مرتبة المكرسين، وهز انحداره ثقة أصدقائه السابقين بأنفسهم، وفتح الباب واسعا لتشاؤم جديد بشأن آمالهم في الحياة. ورغم أن عمل توم لم يؤثر على ذكائه وهو ليس مجرد أبله يتهادى على درب الحياة، فإن أحدا لم يعد يريد أن يصغي إليه، ولاسيما النساء اللاتي كان يتحدث معهن. ويجد أوستر أن حكاية توم تستحق أن يبني عمله من حولها، بعد أن انتقل من سائق تاكسي إلى مساعد تاجر كتب في نيويورك نهايات القرن الماضي، وشيئا فشيئا يصبح نقطة المركز التي تدور حولها شخصيات الرواية بما فيها شخصية الراوي، الذي اختار التقاعد المبكر وتفرغ للكتابة التي تعني بالنسبة له تجميع التفاصيل اليومية لعائلته التي تشتت وصارت تعيش في ولايات مختلفة، يكاد ينقطع الاتصال بين أفرادها على نحو يثير الرثاء، ويركز أكثر على توم وشقيقته التي كانت تغيب ولا تتصل به أحيانا بعد مرور ثلاث سنوات.
عصارة الحكمة التي توصل إليها بائع شهادات التأمين على الحياة السابق هي “إن المحتالين والمخادعين هم الذين يديرون العالم. الأوغاد يسودون، لأنهم أشد نهما منا. لأنهم يعرفون ماذا يريدون. لأنهم يؤمنون بالحياة أكثر منا”. ويمضي في سرد قصص كثيرة من حياة محيطه العائلي. قصص عادية كي يبرهن على أن الكتاب الجميل لا يشترط بالضرورة أن يكون موضوعه حدثا كبيرا، فبوسع الكاتب أن يطوع أي قصة عادية ليجعل منها حكاية تعبر عن معان كثيرة في حياة صاحبها والآخرين، ومن ذلك قصة “جميلة بروكلين” التي يرد ذكرها في الكتاب. وهي سيدة تجلس على درج بيتها كل صباح لتودع طفليها، قبل وصول الحافلة الصفراء التي ستقللهم إلى المدرسة، في الوقت الذي يصادف مرور توم على الرصيف الآخر.
ومن دون أن يقترب منها أو يكلمها ويتعرف عليها وقع في غرامها وصارت محور تفكيره، وأطلق عليها لقب “أم جميلة مثالية”، شعرها أسود طويلا وعيناها خضراء وضاءتين، ولكن ما أثاره أكثر من أي شيء آخر فيها الطريقة التي كانت تحمل الطفلين وتلمسهما. ولم يكن قد شاهد الحب الأمومي يتم التعبير عنه بمثل تلك السلاسة، أو بمثل تلك الرقة والفرح الصريح، ولأنه أفاض في حديثها عنها لخاله ناتان استأثر الفضول على الخال، حتى وافق أن يرافق ابن شقيقته لمشوار الفرجة الصباحية، ولكن الخال لم يكتف بذلك، بل عبر الرصيف بعد مغادرة سيارة المدرسة بالطفلين وألقى التحية على الجميلة، وتعرف عليها وعلى مهنتها في صناعة المجوهرات، ونادى على ابن شقيقته العاشق الولهان ليعرفه بها. ولم يتردد توم في عبور الرصيف والقاء التحية بخفر شديد على “الأم الجميلة المثالية”. ولم يمكث طويلا ومن شدة الخجل والإحراج احمر لونه ونكس رأسه فقرر الانسحاب بسرعة، بينما مكث خاله يتجاذب الحديث معها ودعته لدخول منزلها ليشتري إحدى المجوهرات التي قرر بحماقة أن يهديها إلى ماريا عاملة المطعم الذي يرتاده، ولكنها رفضتها خوفا من زوجها روبرتو الغيور الذي كان يمكن أن يقتلها بسبب ذلك. ومن الطريف في قصة جميلة بروكلين أنها كانت متزوجة من شخص اسمه جيمس جويس على اسم الكاتب الإيرلندي الشهير صاحب رواية “يوليسيس” وتطلقت منذ سبع سنوات.
ينتهي أوستر من خلال ترتيب وعرض حكايات ناتان وابن شقيقته توم. العجوز مقبل على الحياة والمغامر والشاب مكسور ويائس لا كف عن ترديد القصيدة:
“كأحلام وهمية، تلاشت أفراحي،
وأضحت أيامي الهانئة كلها من الماضي،
ضل حبي طريقه، وتراجع الخيال
ولم يبق من كل ما مضى، غير حزني”.
*المدن