حين وصل بندر عبد الحميد إلى دمشق في اوائل السبعينيات من القرن الماضي استأجر غرفة في شارع العابد في قلب المدينة، ولم يخرج من هناك إلا في اتجاه مقبرة “نجها”. سافر كثيرا، وجاءته فرص عديدة كي يعيش خارج البلد، قبل الثورة وبعدها، ولكنه رفضها وأصرّ على البقاء في هذه المكان مثل شجرة حور هاجرت من ضفة الخابور في محافظة الحسكة إلى ضفة بردى، وعاشت هناك حتى ماتت حين جف بردى وبدأت دمشق تفرغ من الأصدقاء، وتحوّلت إلى ثكنة توزع القتل على كامل الجغرافيا السورية، بعدما كانت ذات يوم مدينة حية مفتوحة على حواضر العالم.
اختار بندر وسط المدينة ليقيم مضافة صغيرة على غرار تلك التي عهدها عند أهله وأقاربه في مضارب البادية من أجل استقبال الأهل والأقارب والعابرين، قريبة من كل النقاط الحيوية في العاصمة، وهذا خياره الخاص كي لا يأخذ اي وسيلة مواصلات حين ينتقل من بيته إلى الأمكنة التي عمل فيها أو تردد إليها. الصحف، المؤسسات الثقافية، مؤسسة السينما، مجلة المعرفة، المكتبات، دور النشر، والمقاهي الثقافية، النجمة، القنديل، الجندول، بار فريدي، ومطعم الريس. كل هذه الأماكن على ممشى دقائق معدودة. رجل بلا أوراق رسمية. بلا بطاقة هوية أو جواز سفر. بري ووحيد لكنه لا يستطيع أن يعيش من دون الآخرين، ومع الوقت تحولت الغرفة إلى مضافة ثقافية مر عليها كتاب وفنانون وصحافيون من سوريا وكل العالم العربي. وفي كل مساء تنعقد المجالس والندوات والأفراح، وإذا ما طرق أحد الباب يجده مفتوحا وفي استقباله وجوه مختلفة، مثل فواز الساجر، خالد تاجا، سعيد حورانية، علي الجندي، حامد بدرخان، سعد الله ونوس، رياض الصالح الحسين، محمد عمران، محمد كامل الخطيب، صلاح فائق، منذر المصري، وبركات لطيف وآخرين من جنسيات مختلفة.
بقي بندر في هذا المربع ولم يسافر إلا في وقت متأخر حين اقتنع بفائدة جواز السفر. كان مكتفيا بالحياة في هذه المساحة من سوريا التي لا تتجاوز خمسة كيلومترات مربعة، له حضوره كصحافي وكاتب ومثقف موسوعي متعدد الاهتمامات والصداقات والمعارف. ورغم أنه دخل مهنة الصحافة من باب الشعر إلى أنه لم يتفرغ لذلك. لم يهتم كثيرا بتكريس نفسه رسميا، احتفظ بنزعة الفرد الحر، وظل وفياً للكتابة على مزاجه الخاص غير النمطي. واظب على كتابة ونشر الشعر وكانت البدايات عمودية، ونشر في مجلات متخصصة في بيروت والكويت مثل الأديب، والعربي، ولكنه سار لاحقاً على خط الحداثة فكتب شعر التفعيلة وقصيدة النثر، ومنذ العام 1974 أصدر مجموعات شعرية جمع بينها التجريب الدائم والمفتوح، ولذلك كانت قصيدته خارج التصنيف المدرسي، وبعيدة من تأثير المحيط السوري للكتابة. ومع أنه كتب رواية “الطاحونة السوداء”(1984)، فإنه لم يكرر هذه التجربة واعتبرها متسرعة.
الميدان الذي كرس له بندر وقته هو السينما، وعمل على إصدار مجلة “الحياة السينمائية” عن مؤسسة السينما، وترك خلفه منجزا قل نظيره في العالم العربي، حيث انشغل بالتعريف بتجارب سينمائية عالمية، ولذك أسس سلسلة “الفن السابع” التي صدر منها حوالى 90 كتاباً تشكل مكتبة سينمائية متميزة، وألّف كتابا عن النساء في السينما “ساحرات السينما”، وهو عبارة عن بورتريهات مكتوبة بطريقة تعتمد على التعريف بأهم نجمات السينما في القرن العشرين ومنهن، كلارا بو، بولا نيغري، غريتا غاربو، ماري بيكفورد، ريتا هيوارث، مارلين مونرو، جين تيرني، أغنيس مورهيد، جون أليسون، أودري هيبورن، بوليت غودار، نورما تالماج، مورين أو سوليفان، نورما شيرر، دونا ريد، لانا تورن. وجاء شغف بندر بهذا العالم قبل دراسته للسينما في هنغاريا. وكان ينفق قسطا كبيرا من وقته في مشاهدة الأفلام الجديدة والقديمة، ولا يكتفي بارتياد الصالات، بل دأب على عرض افلام في غرفته الصغيرة، وغالبية تلك الافلام كانت ممنوعة في سوريا، وهو يحصل عليها من طريق علاقات خاصة، ليتبعها نقاش بين متخصصين في الفن السابع والجمهور من بين أصدقاء تلك الغرفة الذين هم من مختلف الحساسيات والجنسيات والاهتمامات. وفي تلك الغرفة ولدت مشاريع ثقافية وحصلت تعارفات بين الزوار كانت حصيلتها أعمال ثقافية وفنية وترجمات ومسرحيات ومسلسلات وأفلام، ليس على المستوى المحلي فقط، بل على صعيد عربي.
دمشق التي احبّها بندر بدأت تتغير بعد الثورة، حينما أخذ الكثير من الأصدقاء بمغادرة البلد، وتراجعت كل مظاهر الحياة لصالح الحرب، ولم يعد له أي متنفس، فصار يسافر إلى بيروت بين حين وآخر من أجل ما كان يصفه “التنفس”، وفي أكثر من حديث دار بيننا في الأعوام 2014 و2018 كان يعبر لي عن اختناقه في دمشق، لكنه لا يريد المغادرة، ليس لديه الدافع النفسي لذلك مع أن أكثر من بلد فتح له الباب. وأظن ارتباطه بالمدينة التي عاش فيها القسط الأكبر من حياته هو السبب. لم يكن فراق دمشق بالأمر السهل عليه. صعب على من ألف الحياة في هذا المربع الصغير أن يخرج إلى العالم البعيد بعدما أصبح في سن السبعين، وما كان يطمح إليه أن يقضي باقي حياته في هذا الحي الذي صار جزءاً منه، وما لم يكن ينتظره هو الرحيل بهذه الطريقة قبل نحو عام، حين توفي بالسكتة القلبية على نحو مفاجئ، ما أثار صدمة لكل من عرفه، وعكست المرثيات الصحافية التي حظي بها عربيا مدى مكانة هذا المثقف والانسان الدافئ والودود.
لم يعش بندر في المدينة (الحسكة) التي ولد في إحدى قراها البعيدة من المركز، وما أن حصل على الشهادة الثانوية حتى التحق بجامعة دمشق ليدرس الأدب العربي. عاد لوقت قصير مطلع السبعينيات ليدرّس الأدب العربي في ثانوية أبي ذر الغفاري، وكان من نوعية من المدرسين التي تعلّم وفق منهج خاص. ولذا ارتبط بعلاقة وثيقة مع الطلاب الذين أحبوا دروسه وشخصيته التي تمتاز بقدر كبير من الحميمية. وباستثناء مجموعة من مجايليه من أبناء المدينة، وخصوصا الذين كانوا يكتبون القصة الشعر مثل مروان ناصح، سلمان المسلط، خليل النعيمي، عادل حديدي، لم يتعرف عليه الوسط الثقافي في مسقط رأسه، والذي تميز بحيوية، وحين تعرفنا عليه جيدا فقد كان في غرفة شارع العابد الملتقى الثقافي الذي كان يعمل طيلة الوقت، وبابه مفتوح لكل الزوار.
وتُعدّ سيرة بندر في دمشق صفحات من تاريخ الثقافة السورية لم يبلغ مثقف سوري على مدار العقود الأربعة الأخيرة مستوى الشهرة الذي عرفه، وانسحب ذلك على المستوى العربي بفضل الندوة الثقافية. ويروي أحد الشعراء الأردنيين أنه أمضى أياماً في دمشق، وحين عاد إلى عمّان أوقفه الأمن اللأردني في نقطة الحدود ليحقق معه، ومن بين الاسئلة التي طرحها عليه زيارة غرفة بندر، وحين أجاب بالنفي، شكك الضابط الذي حقق معه. وقال له لا أصدق أنك لم تذهب للسهر لدى بندر، فلا يمكن لكاتب أن يزور دمشق ولا يعرج على مضافة بندر، وحين فتشه وجد لديه إحدى مجموعات بندر الشعرية، لكنها كانت بلا إهداء، وهذا ما أنقذة من عواقب نفي الزيارة.
زار بندر باريس في العام 1992 لحضور مهرجان السينما العربية في معهد العالم العربي، وكانت فرصة أن نستعيد معه بعض الأحاديث التي لم تكتمل عن الحسكة، وذلك برفقة ابن المدينة الكاتب خليل النعيمي الذي يكبره عمراً، وسبقه للدراسة الجامعية (الطب) في دمشق. وحاولنا أن نقنعه بالبقاء في باريس، لكنه استقبل العرض بتهكم. وقال صار لدي ولد، والبعض يناديني “ابو الطيب”، ولا يمكن أن اتركه وأمه لوحدهما، يجب أن أعود. وفي حديث فايسبوكي في أيار 2014، وكان وقتها في زيارة لبيروت، قال لي انه خرج ليتنفس. وعرضت عليه أن يأتي إلى لندن، فكان جوابه لا استطيع أن اعيش بعيداً من دمشق التي أحبها، ولم يكمل سيرته معها. وبقيت اجابته معلقة منذ ذلك الوقت “مقيم صامت في قرية دمشق”.
مات وحيداً في دمشق. ويبدو أنه مات ببطء من دون أن يحس به أحد ومن دون أن ينتبه للأمر. كنا نتحدث عن الموت ذات مرة في تلك الغرفة في شارع العابد. والمناسبة وفاة قريب مشترك بيننا. بندر قال أنه لن يموت على الطريقة المعهودة في موت الآخرين، بل سوف يختفي، لكن يبدو أنه لم يتمكن من ذلك، لم يترك له الزمن الرديء أن يدخل في حال أخرى ويختفي. وكان موته مثل “حوار من طرف واحد” (عنوان ديوانه الأخير 2002). رحل وترك لنا تأويل هذا الغياب، كما اجتهدنا دائماً في قراءة فرادة الكاتب الذي حفل برثاء يليق بالصديق الطويل في المساء الذي سرقه الليل بينما كانت دمشق في حداد مديد.
*المدن