الشاعر السوري المثنى الشيخ عطية يصدر مجموعة شعرية بعنوان” كوانتوم بقطط مجنّحة” عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر”، تختلف بصورة جذرية عن منجزه الشعري السابق كأحد شعراء التفعيلة من جيل السبعينيات، الذين كان للهم السياسي المباشر حضوره في نصوصهم. وما يميز العمل الشعري الجديد هو الاتجاه نحو التجريب على مستوى شكل القصيدة وبنائها وهيكلها العام والصور واللغة والمعاني. هي تجربة مفتوحة بحرية على غرار كتابات الشعراء الشكلانيين والمستقبليين في بدايات القرن العشرين والحداثيين وما بعد الحداثيين، بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا والولايات المتحدة، وحتى اليوم.
تجريب يقترب من الغرابة وحس اللعب مع اللغة والصور، على غير ما سار عليه الشاعر من انضباط وإخلاص للتفعيلة في أعماله السابقة. ويمكن هنا تسجيل ثلاث ملاحظات أساسية، تشكل مفاتيح للاقتراب من العمل وتفكيك بنيته. الأولى هي أن التجريب من طرف الشيخ عطية قد جاء في وقت متأخر جدا عن بعض أبناء جيله الشعري على مستوى خيار الشكل الشعري، وتتوجب الإشارة إلى لقطة مهمة وهي، أن الشاعر يستعير على نحو رمزي قصيدة محمود درويش الشهيرة “لاعب النرد” التي انتقل بعدها إلى توسيع فضاء التجريب، وهو البارع في تحرير اللغة وتفجير طاقات من داخلها. والثانية هي أن هذا الديوان المختلف يأتي بعد انقطاع عن نشر الشعر وتجريب كتابة الرواية. وهذا يعني أن الشاعر أخذ فرصة للتأمل من جهة، ومن جهة ثانية انه ظل يعيش هاجس البحث عن شكل تعبيري، يلبي نظرته الفلسفية ومعاييره الجمالية للكتابة، وبالتالي، يشكل نصه الجديد نقلة واعية، وإن بدت تتجه نحو تغريب عن الغنائية العالية التي امتاز بها نص الشاعر التفعيلي.
ومن المؤكد أن المكان الجديد، أي الانتقال للحياة في باريس، أثر في توجه الشاعر والقى بظلاله على مفرداته وصوره، وهذا الانتقال لم يكن طوعياّ، بل اجباري بعد قيام الثورة السورية وخروج أعداد كبيرة من الكتاب والفنانين المعارضين إلى المنافي، ولأن المكان الجديد يعيد ترتيب الحياة الداخلية للشاعر، ويشكل له خيالا وايقاعا جديداً، ليجد نفسه مع الوقت، وقد تسللت إلى عوالمه ويومياته موسيقى وكلمات جديدة، قط الجارة، كلب الجار، ساعي البريد والطرد الذي لا يصل، الصيدلانية اللطيفة وألم الكتف المزمن، موقف سيارات المعاقين.
أما الملاحظة الثالثة فهي مرافقة اللوحة التشكيلية للنص الشعري. وضم الديوان لوحات للفنان التشكيلي السوري أسعد فرزات، الذي سبق له أن خاض في هذه التجربة العام 2019 مع الشاعر السوري نوري الجراح في قصيدة “الخروج من شرق المتوسط”، واستوحى الفنان من القصيدة معرضاً في لوحات عديدة، حاول فيه تقديم صورة بصرية عن القصيدة. وتحاول لوحة فرزات أن تحاكي النص التجريبي لدى الشيخ عطية، المكتظ بالألوان والملمس، والبصر، وتعدّد الأصوات، والحمولة الوجدانية ذات الزخم. تطالب اللوحة القارئ بإلقاء نظرة أكثر من فاحصة على الكلمات، والتحديق فيها، وتحتها، وخلفها، وفوقها، ومن حولها، ليرى فيها أبعد مما تقوله. عندها فقط يمكن له أن يبدأ فهم معناها الآخر واستكشاف الاحتمالات التي تتجاوزها، وتستمدها من اللوحة وهي تتحول إلى جزء من القصيدة.
هذا التزاوج يضعنا أمام تعبيرية تجريدية، شكلت مصدر إلهام رئيس للشعر الغربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تعاون الكثير من الشعراء مع رسامين، في وقت بدأ فيه تطور فن اللغة في الشعر يوازي تطور الفنون البصرية والموسيقى، وكان الشاعر غيوم أبولينير صديق بيكاسو عندما بدأ المرحلة التكعيبية، وهناك نقاد فرنسيون يرون إن ما يسمى بفن اللغة التجريبي في القرنين العشرين والحادي والعشرين، هو في الواقع الشعر الحقيقي. وأظن أن دافع المثنى للعمل مع فرزات، ربما بسبب شعوره بالفن التجريدي، الذي ينفصل عن الأشكال التصويرية والمعاني الواضحة.
تتسم المجموعة الشعرية بأنها جريئة ولا تشبه غيرها من الكتابات التي تكرر بعضها، جرأة صادمة في بعض الأحيان، لجهة بحثها عن معادلات جديدة مختلفة من خلال استدعاء العالم القديم والأساطير، وكسر القوالب الشعرية، وجعلها أكثر مرونة، وعفوية، وعضوية؛ إنها تتشكل من موضوع وشعور الشاعر أثناء كتابة القصيدة، ومن كيمياء اللغة الطازجة وغير المتداولة أو المستهلكة المنطوقة. وتتضمن تجريباً مفتوحاً على السريالية، التي تعبر عن اللاوعي من خلال صور حية تشبه الحلم والغرابة. كتابة غير تقليدية، مبتكرة. القصيدة ليست وسيلة لتوصيل المعنى، وإنما محاولة لاكتشاف العالم. وفي هذا السياق تستمر اللغة بالتطور. وهذا ما يميز الكتابة التجريبية من حيث إنها سعي نشيط للتجريب، وحاجة إلى توليد هياكل ونماذج ومفردات، بعيداً عن الخوف، وهذا يبرز في المجموعة منذ البداية “إلى من يقرأ في صندوقها وخارجه في ذات الوقت عاريا من الخوف”.
المجموعة عبارة عن نصوص مشفرة “ظاهرة باطنة تتخطى مفهوم التقليدي والجديد في الشعر، مفهوم قصيدة التفعيلة والنثر”، ترتجف كلمات القصائد مثل الذرات كوانتوم” تحاول الانفصال عن روابطها مع بعضها البعض، وتطلب من القارئ أن ينظر بين الشقوق. هناك، سيجد أشياء كثيرة وعوالم جديدة من تفكيك أشعة إكس.
يقوم الشيخ عطية بإخراج الشعر من مساحته المعتادة، وتضعنا المجموعة أمام سؤال مغامرة الشكل الآن. قد يشعر الشاعر بأنه وصل إلى ما يشبه حدود اللغة، حتى نهاية كل إيمان بقوة الشعر. أو حتى استحالة الشعر في عالم اليوم، ومع ذلك، يبدو أنه في صميم هذه الاستحالة، أو في هذا الشعور باستحالة وجوده، يتخذ شعر اليوم معناه. لم يتوقف الشعر الحديث عن البدء. شاعر اليوم شاعر، رغم كل شيء. ولا تتوقف الكتابة عن كونها المكان الذي تتم فيه إعادة صياغة العلاقة بالعالم والمعنى باستمرار. هذا الفضاء من الكتابة المضطربة والحيرة والبحث، حيث يتصارع الشاعر بشكل مباشر مع لغته الخاصة. فضاء الإبداع والوعي والحلم في الوقت نفسه.
تجعلنا المجموعة نفكر في وضع الشعر العربي اليوم، حيث باتت قصيدة التفعيلية كلاسيكية، وقصيدة قصيدة النثر في الطريق ذاته، وتجارب التجديد العربية قليلة وغير واضحة المعالم، وقامت بها قلّة من الشعراء من أصحاب المنجز المهم مثل بول شاوول، أمجد ناصر، حسن نجمي… على غرار الكتابة الجديدة في أوروبا أيضاً، وعلى سبيل المثال في فرنسا، حيث شهدنا، أحيانًا، تمييع الشعر في النثر، وأحيانًا تمويهه. في أعمال إيف بونفوا، أصبح النثر الشعري قريبًا من السرد. وفي عمل فيليب جاكوتيه، صار نوعاً من التأملات وأحلام اليقظة.
*المدن