بشير البكر: الكاتب المتسوّل في العالم العربي

0

يستغرب البعض أن يطالب بعض الكتّاب العرب بأجور مقابل المشاركة في فعاليات ثقافية، ويشترطون للسفر تذاكر في درجة رجال الأعمال لأن الكاتب في نظرهم ليس أدنى مرتبة من رجل الأعمال كي يسافر على الدرجة العادية، بل لديه بضاعة تتجاوز قيمتها المنفعة السوقية للسلعة التي يتاجر بها رجل الأعمال، فالشاعر والروائي والفنان التشكيلي والسينمائي لا يعد انتاجه أقل نفعاً من بضاعة رجل الأعمال. وحينما يطالب مقابل القاء محاضرة أو مشاركة في فعالية، بتذكرة درجة رجال أعمال وفندق خمس نجوم، فإن ذلك حق طبيعي وليس صدقة أو مكرمة من وزارة ثقافة هذا البلد أو ذاك.

من المفروض ألا يختلف اثنان حول هذا الأمر، لأن الإنتاج الثقافي ملكية مثل أي ملكية أخرى، تسري عليها القوانين نفسها، في ما يخص التصرف بها وتداولها وانتقالها من مكان لآخر، فالكتاب واللوحة والفيلم كلها تخضع لقوانين السوق اليوم، وفي البلدان التي يتم التعامل فيها على أساس القانون يجري، تصنيفها ضمن تشريعات الملكية والإرث، مثلها مثل أي سلعة مادية. ويخضع الكاتب والسينمائي والفنان التشكيلي للقوانين الخاصة بأصحاب المهن، وعليه أن يصرح عن منتوجه وتسجيله لدى الدولة، من أجل حفظه من أي تصرف غير قانوني، ودفع الضرائب عنه، وفق القوانين نفسها التي تنطبق على تجار البطاطا والسجاد والعقارات.

تقدير منجز الكاتب والفنان، هو احترام للثقافة ومكانتها وردوها في المجتمعات المتحضرة، وهذا شأن متعارف عليه على نحو ضيق جداً في العالم العربي، وداخل بعض المؤسسات المتخصصة، وهي بحثية أو جامعية في أغلب الأحيان. ويعتمد هذا النوع من المؤسسات الثقافية على قوانين دارجة في العالم المتقدّم، حيث نشأت وتطورت مراكز البحث والدراسات الفكرية والجامعية، التي صارت تشارك في انتاج المعرفة العامة، وتساهم في صنع ثقافة البلد وتنمية وعي الأجيال، بل أن بعضها ينهض بمهمة توجيه قادة الرأي ومسؤولي الحكم والإدارة، ويضع ويخطط السياسات العامة، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الأمنية والدفاعية.

لذلك، لا دولة متقدّمة من دون مراكز أبحاث رسمية أو مستقلة تفكّر وتبحث وتكتب وتنشر بحرية، وتعتز الدول المتقدّمة بمراكزها وتنفق عليها موازنات ضخمة، لا ترقى إلى مخصصات الأمن والدفاع، لكنها لا تبخسها حقها. وهي بالتالي تشجّع البحث والباحثين، تنفق على الثقافة والمثقفين، ولا تتعامل معهم كمتسوّلين كما يحصل في العالم العربي، الذي لم تبرز فيه ظواهر ثقافية ذات قيمة علمية إلا على نحو محدود، ويكاد يكون “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” الذي يديره المفكر عزمي بشارة الوحيد في العالم العربي، الذي يستحق صفة مركز تفكير ذي نفع عام، بما ينهض به من مشاريع ذات طبيعة استراتيجية، لها عَلاقة بمستقبل العرب ولغتهم مثل “معجم الدوحة التاريخي”، أو الكتب والمجلات الفكرية والسياسية المحكمة التي يصدرها، ووصل عددها إلى سبع دوريات، هي حكامة، عمران، سياسات عربية، تبين، أسطور، استشراف، والمنتقى.

تنفق الدول العربية موازنات ضخمة على الثقافة، لكن ما ينقص حتى تكون هذه الموازنات مُجدية، هو التخطيط الثقافي من قبل أصحاب الشأن، ولذلك من النادر أن نعثر اليوم على وزارة ثقافة عربية تتعاطى مع كتّاب بلدها، بوصفهم أصحاب رأي، وثروة تحتاج الرعاية والاهتمام، ولا مع الكتاب كأمانة غالية يجب أن تصل إلى مستحقيها، كما كان يفعل “المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت”، الذي أخذ على عاتقه في الثمانينيات من القرن الماضي نشر الكثير من الكتب العربية والمترجمة، ضمن سلاسل في الرواية والمسرح والفكر والشعر، وما زال الكثير من المكتبات الخاصة يحتفظ بتلك الكتب بوصفها مؤسسة ومرجعية صالحة لكل زمان ومكان. وفي عالم اليوم، هناك جهات تترجم وتطبع لكنها لا تكمل المهمة، وتبقى كتبها في متناول جماهير بعض معارض الكتب، وهذا ينطبق على كتب “المجلس الأعلى للثقافة” في مصر.

هناك خلل في معادلة الاهتمام بالكتاب وإهمال الكاتب. وكي لا نقع في التعميم تتوجب الإشارة إلى أن هناك جهات لا يغيب عنها هذا الأمر، لكن القاعدة العامة هي أن الكاتب العربي يعيش حالة من الإقصاء. على سبيل المثال لا توجد جهة عربية واحدة مستقلة توفر منحة تساعد الكاتب كما هو رائج بكثرة في الغرب، حيث تقدم مراكز الأبحاث والجامعات والمراكز الثقافية مِنَح تفرغ تمتد شهوراً تستقبل فيها كتّابا، وتوفر لهم الإقامة لشهور عديدة من أجل انجاز أعمال أدبية. ولا تقتصر ممارسة الإقصاء في العالم العربي على أجهزة الدولة بما فيها الأمنية، بل يمارسها الكتّاب أنفسهم ضد بعضهم البعض، ولذلك تنتعش ظواهر الشللية في المناسبات الثقافية ومعارض الكتب والصفحات الثقافية والجوائز الأدبية ولجان التحكيم، وتسيطر شلل معينة على فضاءات محدّدة، فتصبح حكراً على أعضائها وتغلقها أمام من يختلفون معها.

ويحدث أيضا أن يمتهن بعض الكتاب والفنانين أنفسهم، حينما يركنون إلى فكرة أنهم أهل حرفة، وما ينتجونه عبارة عن سلعة للبيع في المزاد العام، ويكتفون بمردود مادي، من دون أي اعتبار لقيمة ودور الثقافة في بناء المجتمعات.

*المدن