كان الشاعر وعالم اللسانيات اللبناني، الدكتور عادل فاخوري، ينظّر، في بداية ثمانينيات القرن الماضي، لأشكال غير معهودة في كتابة الشعر. ودعا أستاذ المنطق الرياضي إلى كتابة جديدة غير تقليدية، وجمالية مختلفة في الشكل والمضمون. وذهب بعيدا في أطروحاته، عندما بشّر بعصر ما بعد الطباعة من خلال تكييف تكنولوجيا الوسائط الجديدة، في وقت كانت فيه دواوين بعض الشعراء المرموقين، مثل محمود دروش ونزار قباني وبدوي الجبل، تبيع آلاف النسخ.
صار خريج جامعة السوربون معروفاً بشاعر القصيدة الإلكترونية، التي قدمها على أنها مشروع بصري سمعي، وأخذ يرى فينا، نحن أصحابه الشعراء الشباب الأصغر منه سناً بكثير، أننا لا نزال أسرى مفهوم الأدب الضيق، بينما يكمن مستقبل الكتابة الشعرية في البحث متعدد التخصصات، الذي يفترض منظورًا واسعًا.
كانت النظرة العامة إلى فاخوري أنه يحاول اختراع تقنيات تستفيد من الرياضيات والسيمياء، كي يغطي على ضعفه وعدم قدرته على مجاراة الأشكال الشعرية المتداولة، من عمودي وتفعيلي ونثر، والهروب إلى صرعات من فعل تأثره وسفره البعيد في الرياضيات وعوالم اللغات الأخرى التي يجيد العديد منها كالفرنسية، الإنكليزية، الألمانية، الإيطالية، واللاتينية.
نعيش اليوم في العصر الرقمي الذي رآه فاخوري باكراً جداً، حيث باتت المعلومات متوافرة على الكومبيوتر بغزارة. ورغم أن الرقمنة لم تحدث انقلاباً في كل شيء، ولا تزال الكثير من الأنواع موجودة في شكلها القديم، بما في ذلك الشعر، إلا أنها تركت تأثيراً قوياً في وسائل الاتصال والتفاعل بشكل عام، وصار الأدب يحظى برواج وشعبية أكبر بكثير من السابق في زمن الكتب المطبوعة، وظهرت الكثير من الأدوات الوسيطة التي اتاحت المزيد من الفرص لإنتاج الأدب واستقباله، بما في ذلك في المجال التعليمي.
وفي عالمنا العربي هناك تجربة مشهود لها، قام بها المجمع الثقافي في أبوظبي في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وهي “الموسوعة الشعرية” العربية، التي تضمنت في قسم منها تسجيل بعض القصائد الشعرية كالمعلقات العشر، ومختارات من قصائد مشهورة لشعراء كبار، وذلك بأصوات نخبة من الفنانين القديرين مثل عبد الرحمن آل رشي، عبد المجيد مجذوب، محمود سعيد، ومحمود ناصر، بحيث تساعد المستخدم في معرفة طريقة قراءة الشعر، عدا أنها وسيلة سهلة وعملية للاستماع لأجمل ما قاله العرب شعراً. كما أضيفت إلى ذلك المجهود الكبير أداة تعليمية مهمة، ألا وهي علم العَروض بحيث تساعد المستخدم في تعلم هذا العلم الضروري لفهم قواعد الشعر العربي، وكذلك إتاحة المجال للمتابع كي يجرب بنفسه كيفية تقطيع الأبيات عروضياً، وتلافي الأخطاء التي تؤدي إلى عدم وجود وزن للبيت.
وتعد هذه التجربة الأولى والأهم على مستوى التوثيق الإلكتروني، وما كان لها أن تؤدي هدفها لولا التقدم الحاصل تكنولوجيا، على مستوى توفير تقنيات تسمح بالتسجيل والوصول للقصائد، والتعامل معها قراءة ودراسة وأرشفة وحفظاً في البيت بسعر زهيد، لا يتجاوز عشر دولارات لما كلفته ورقياً أكثر من 20 ألف دولار.
وهناك اليوم أشكال كثيرة للمساعدة على إيصال الأدب بطرق أكثر فائدة ووضوحاً، وتم استحداث مواقع في الأنترنت، مثل موقع e-poésie، الفرنسي، الذي يقدم شعراء عالميين بطريقة تقربهم من الطلاب، في البيت وفي صفوف الدراسة. لكل قصيدة، فيديو مسجل مع خلفية موسيقية، وصور تجعل النصوص الشعرية مفهومة وقريبة من الطلاب. وهناك مرونة عالية للتحرك بحرية داخل القسم المخصص للشاعر، وتحتوي كل صفحة من صفحات الموقع على روابط تشعبية تؤدي إلى الصفحة الرئيسية للشاعر والصفحات الأخرى، التي يمكن من خلالها العودة إلى الصفحة الرئيسية للموقع. وهناك عدد كبير من الروابط، داخلية وخارجية للوصول إلى المواقع الأخرى، والتي تم تخصيصها ليزورها الأطفال للحصول على المعلومات وتعميقها.
يتبع تنظيم المادة الفلسفة نفسها في كل قسم ولكل شاعر. هناك مواد غنية بالصور والتسجيلات وكذلك الصور المتحركة والرسوم. والتصميم الجمالي لكل قسم فريد من نوعه، وتمليه الحالة المزاجية للخطاب الشعري.
علينا أن نعترف اليوم بأن الكتاب المطبوع، لم يعد يشكل الحيز الوحيد لعرض واستقبال القصيدة في كثير من البلدان، وأصبح الشعر بأشكاله الأكثر شعبية يملأ المسارح الكبيرة، نظرًا لأنه يمكن أداء القصائد على خشبة المسرح، كما أن القصائد باتت متوافرة في أقراص مضغوطة بأصوات الشعراء أنفسهم، أو غيرهم من مؤدين محترفين، مصحوبة بموسيقى أو إيقاعات، أو كتسجيلات صوتية على الإنترنت أو فيديو في موقع يوتيوب أو منصات التواصل الاجتماعي الأخرى.
يمكن العثور على الشعر في “منشآت” في المتاحف الفنية، وفي الأماكن العامة والحضرية. يوجد الشعر أيضًا في شكل “مقاطع شعرية” مسلية تشبه مقاطع موسيقى البوب و”أشعار فيديو” فنية أو “أفلام شعرية”. وهناك مجموعة واسعة من شعر الوسائط التجريبية الجديدة التي تستخدم النص الحركي أو الأصوات البشرية الطبيعية أو التي تم التلاعب بها، وبالتالي صارت مسألة ترجمة الشعر المكتوب والمرئي والصوتي إلى عالم رقمي مسألة عادية بفضل تقدم التقنيات، التي بدأت بالتسجيل على كاسيتات.
ويمكن الوقوف أمام أشكال كثيرة لإيصال الشعر، تستفيد من التكنولوجيا وتطور الرقمنة، وهذا لا يسهم فقط في تسريع التلقي وتنويع أساليبه فقط، بل يفتح الآفاق لولادة أشكال جديدة من القصيدة.
هناك نصوص شعرية تقوم حصرياً على استخدام الكاميرا. قراءة قصائد ملحمية. وهنا تعتبر العملية مسرحة للنص، وتسجيله على شريط فيديو وتكون القراءة مصحوبة بأداء جسدي. وتعد هذه الطريقة عودة إلى شعر القافية والشعر الشعبي.
وهناك النص الأيقوني الذي يقوم على عرض النص مع رسومات وتنويعات حرفية ولونية وأحياناً يتم استخدام التشفير. وهذا النوع من القصائد يمكن اعتباره نصاً مصمماً خصيصاً لفايسبوك وتويتر والهواتف الذكية، التي تتيح أمكنة لإضفاء طابع تشكيل وزخرفة على النص.
هناك الأفلام الشعرية-قصائد الفيديو- قائمة على الشعر في الفضاء الحضري، وهي ظاهرة حديثة في الثقافة البصرية مثل القصائد في قطارات الأنفاق او تلك المكتوبة على سطوح المباني والجدران، وهذا يهدف لإدخال الشعر في الثقافة البصرية وتطوير أدوات النشر.
هناك القصائد الصوتية المصحوبة بإيقاعات الكترونية باستخدام آلات مثل الغيتار الإلكتروني، وهذا عمل قائم بذاته، وهو عبارة عن قرص مضغوط بنغمات إيقاعية وغنائية، وهنا يكون التأثير في المتلقي أقوى من النص المكتوب.
غيرت التكنولوجيا طريقة قراءة الشعر وتسويقه بشكل طبيعي. بات الشعراء ينشرون قصائدهم في فايسبوك ومدوناتهم الخاصة. وأصبح الشعر متاحاً على موقع مثل Kindle وفي كتب إلكترونية.
إحدى الطرق التي تغير بها التكنولوجيا الشعر هي من خلال اختراع أشكال جديدة. تجربة #tweetpoem مثال على ذلك. لا يمكن أن تزيد القصائد عن 140 حرفًا، وأنتجj الإنترنت أفكارًا جديدة أخرى حول الشعر، مثل Flarf، وهو أسلوب يعتمد على أخذ نصوص حقيقية من الإنترنت (وسائل التواصل الاجتماعي، المنتديات، لوحات الإعلانات، نتائج البحث ، إلخ) وتحويلها إلى شعر.
بتنا نعيش في زمن تتفاعل وتتقارب فيه العناصر، بما يتيح تحول بعضها إلى أشكال أخرى، ويقود إلى تنوع كبير. وستؤدي أي دراسة لذلك إلى نظرة جديدة للشعر المعاصر، الذي لم يعد فقط كلمات مطبوعة في الكتب. وستقود النظرة الجديدة للشعر إلى مفاهيم تتجاوز معايير المطبوع ومظهرها المكتوب، وتأخذ في الاعتبار حساب الأبعاد الشفوية والموسيقية والبصرية والحركية والتقنية، والوسيطة، والمتعددة الوسائط، والبينية. ومن خلال كتابة مثل هذه الشعرية بأشكال جديدة، سيصل البحث إلى الاعتراف بالوظائف الفنية والثقافية والاجتماعية، وربما حتى السياسية الموسعة للشعر في العصر الرقمي. وسيؤدي ذلك كله إلى تطوير أدوات لتحليل مضامين الشعر المعاصرة، بدءًا من الترفيه إلى الثقافة الرفيعة، ومن الأشكال المرئية إلى الصوتية والمتعددة الوسائط.
وبفضل ما أحدثته الرقمنة من ثورة كبيرة، يبدو أن الشعر والشعري موجودان في كل مكان في الممارسة الأدبية المعاصرة، وكذلك في الفنون والخطاب الجمالي. ورغم ذلك، أثار منح جائزة نوبل 2016 في الأدب، للموسيقي بوب ديلان، جدلًا ساخنًا، وخصوصاً في الأوساط الأكاديمية، حول ما يُعتبر شعرًا وما لا يُعد. ما فرض الحاجة إلى نظريات جديدة لتحليل أشكال الشعر اليوم، نظريات متعددة الوسائط ووسيطة. ستحتاج الدراسات الأدبية، وعلى وجه الخصوص أبحاث الشعر، التي تعاملت عادةً مع النصوص المطبوعة ونظرية النوع الأدبي، إلى دمج الأساليب والتخصصات ذات الصلة مثل دراسات الشعر والأداء، والمقصود هنا القصيدة كحدث صوتي منطوق، يتحول إلى فيديو أو ملف على الانترنت، أي نص صوتي او ما يطلق عليه البعض نص الكلام، ويبرز هنا الأداء الشفوي.
الأداء مظهر أصيل للشعر بالحضور الجسدي والصوتي، وليس نسخة مشتقة من قصيدة مكتوبة. وهنا تبرز ضرورة التأكيد على الصلة الوثيقة بين النصين الصوتي والمرئي المكتوب، بالإضافة إلى الشعر والموسيقى، أي أداء الشعر مع الموسيقى وإنتاج ايقاعات، والتلاعب بالأصوات لخلق مؤثرات جانبية، وهنا يتم تحليل محتوى الصوت مع محتوى القصيدة، وأخيراً الشعر والثقافة البصرية.
لن نعتبر الموسيقيين شعراء، تمامًا كما لا نعتبر مصممي الغرافيك رسامين. قد يكون هناك تشابه في بعض النواحي، لكن الأشكال مختلفة في النهاية. إلا أنه من المثير للاهتمام للغاية ملاحظة انخفاض مبيعات دواوين الشعر هذا العام في بريطانيا إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق. قد يكون لذلك علاقة بأن الشعر الحديث أصبح أكثر نثرًا من أي وقت مضى، حيث يبدو أن الشعراء المشهورين يقعون أكثر في غواية أساليب تجعل الوصول إلى الجمهور أسهل، بدليل أن كلمات الأغاني باتت شعراً. وما علينا، كي نصدق ذلك، سوى الاستماع إلى الأغاني الرائعة لكل من بوب ديلان الذي تفجرت عبقريته الموسيقية بعدما تعرف على الشاعر آلن غينيسبرغ، وجيل سكوت هيرون الذي كان شاعراً قبل أن يتخصص في موسيقى البلوز ويغني ليصبح أحد أكبر فناني أميركا في القرن العشرين.
*المدن