بشير البكر: الشاعر إيف بونفوا في مئويته…يدخل “لا بلياد”

0

في الذكرى المئوية لميلاده، دخل الشاعر الفرنسي إيف بونفوا سلسلة “لا بلياد” الفرنسية المرموقة التابعة لدار “غاليمار” العريقة. وجرى الاحتفال بضم الكاتب إلى قافلة كبار الكتّاب بصدور مجلد في أكثر من 1800 صفحة يضم بعض أهم أعماله الشعرية ودراساته. وقد وضع الشاعر الذي يُعدّ أهم شعراء فرنسا في القرن العشرين، الخطوط الرئيسة لهذا العمل قبل رحيله عن 93 عاماً في العام 2016. وهو أمر نادراً ما يحصل، بل إن بونفوا صمم المجلد بنفسه، وهذا دليل تقدير واهتمام كبير من طرف الدار التي احتفت بشاعر بقي حتى آخر أيام حياته مقبلاً على الكتابة والنشر وحصد العديد من الجوائز المهمة، باستثناء نوبل، التي بقي في اللائحة القصيرة لمرشحيها فترة طويلة.

بقي بونفوا مقبلاً على الكتابة رغم التقدّم في السن، وامتازت الأعوام الأخيرة من حياة الشاعر بكثافة إبداعية، أصدر خلالها العديد من الأعمال مثل مجموعة “معاً مرة أخرى” التي صدرت قبل وفاته بقليل، والتي تغلب على بنائها الجُمل الشعرية القصيرة المتوترة “ما الذي يجب أن أورثه؟ ما رغبته / الحجر الساخن لعتبة تحت القدم العارية / وقوف الصيف في زخاته المفاجئة”. وبعد رحيله ظهرت العديد من المشاريع والنصوص التي كان يعلم أنها لن ترى النور خلال حياته، وهي مشغولة بالطريقة ذاتها التي عمل فيها على مجلده في “لا بلياد”. وأوضح المحررون الذين عملوا معه في مقدمة العمل الشامل “تمنى إيف بونفوا أن يكون كل شيء منظمًا قبل أن يغادر الحياة”.

قرر الشاعر بنفسه اختيار النصوص المنشورة بين العامين 1945 و2016 وترتيبها، على نحو يحترم فيه هذا المجلد الجميل التسلسل الزمني. ويقدم المجلد الجديد، بالإضافة إلى مجموعات قديمة، نصوصًا قصيرة أو نادرة أو غير منشورة، وترجمات قام بها من الإنكليزية والإيطالية لكل من شكسبير، ليام بتلر ييتس، جون كيتس، بول تسيلان، بترارك وجياكومو ليوباردي وآخرين. ولم يفصل الكاتب أبدًا، المقالات، عن نشاط الشاعر، فالأدب، في نظره، يجب أن يكون “الكتابة والتفكير بالروح نفسها”، كما تحدث للصحافة أكثر من مرة، ولذلك نجد أيضًا في هذا المجلد نصوصاً مكرسة لموضوع الفن الشعري، الذي درّسه في “الكوليج دوفرانس” في باريس، حيث شغل منصب رئيس “الدراسات المقارنة للوظيفة الشعرية” من العام 1981 ولمدة اثني عشر عامًا، وكان يجد بعد ظهر كل يوم إثنين حشدًا من المستمعين، يستهويهم سحر خطابه الذي يشبه نصوص الكتابة. صوته العميق والقوي يربط بلا تردد الأفكار والأمثلة، التي تم تدوينها بإيجاز فقط في بضع صفحات، وقد نشر لاحقاً ملخصات دوراته التدريبية.

بونفوا هو آخر جيل الشعراء الرواد الكبار في فرنسا، الذين عاصروا صعود الحركة الشعرية وهبوطها، وكرس منذ البداية نفسه للشعر رغم أنه درس الفلسفة والعلوم في جامعة السوربون برفقة الكاتب غاستون باشلار، ودرّس مادة الرياضيات وكان يمكن له أن يكمل في هذا الطريق، لكنه ذهب في طريق الأدب. وبعد إصداره الشعري الأول، لقي استقبالاً خاصاً من كبير النقاد والناشرين موريس نادو الذي وصفه بالشاعر الكبير: “يجب أن نتذكر أنه هذا العام ظهرت أول مجموعة لشاعر عظيم. يجب أن نحتفل بحجر أبيض بقدوم إيف بونفوا، والبداية الجديدة التي قدمها للشعر”.

ورغم انجذابه للسوريالية، اختار طريقاً مختلفاً، ومع أنه رافق زعيم الحركة اندريه بروتون ونشر قصيدته الأولى في مجلتها “الثورة السوريالية”، لكن هذه العلاقة بقيت قصيرة، وأدرك بونفوا أن السوريالية كانت قادرة على تحرير الفكر من قيود القوانين والعقائد، إلا أنه انتقد زعيم الحركة الشاعر اندريه بريتون لابتعاده عن الواقع لصالح “التنجيم”. وما رفضه على الأرجح هو البُعد الاجتماعي والأيديولوجي لهذه الحركة، الذي يقدّم الحلم على الواقع. وفي مقابل ذلك كان من أشد المعجبين بالشاعر آرتور رامبو، وكرس له العديد من المقالات النقدية، فإن “الحقيقة القاسية” هي بالفعل التي يسعى إلى احتضانها، مثل شاعر “فصل في الجحيم” وليس الثرثرة.

وفي العام 1947 قرر بونفوا الانفصال نهائيًا عن السريالية، قبل وقت قصير من افتتاح معرض دولي مكرس لهذه الحركة في معرض ، نظمه أندريه بريتون ومارسيل دوشامب. إلا أن ابتعاده عن بريتون، لم يجعله ينكر أبدًا تأثيره: الانفتاح على الأحلام، على وجه الخصوص، والوصول إلى “صور برية كبيرة لا يمكن التنبؤ بها”.

وكان بونفوا كاتبا متعددًا. وعلى الرغم من تنوع أنشطته، بدا أن الحدس نفسه دائمًا ما يوجه منهجه، والذي أسماه “حقيقة الكلام”، أو الاهتمام بفهم “ما هو فوري في الحياة”. وفي الواقع، كانت حياته مكرسة للشعر، لكتابته وفهمه وتعريفه وإيجاده في أعمال الفنانين، لجعله معروفًا ومشاركته مع الكائنات الأخرى. يرى الشعر على أنه “الحفاظ على هذا الشعور بوجود كل شيء في كل شيء”. ومهمة الشاعر هي إظهار الشجرة، “قبل أن يخبرنا عقلنا أنها شجرة”.

وشِعر بونفوا، كما قرأه الكاتب السويسري جان ستاروبنسكي، “بين عالمين”. يسعى إلى البُعد الأكثر حرفية للواقع والذي يمكن القول إنه الأكثر غموضًا، لكنه يزدهر أيضًا في قصص الأحلام. وقد شهد في أعوامه الأخيرة انقلاباً على الشعر بسبب التجريب الواسع الذي عرفته القصيدة في العقود الأخيرة، فصار متشائماً إلى حد كبير تجاه ما آل إليه حال الشعر، إلى حد أنه أطلق العام 2008 حكماً قاطعاً “القرن الحادي والعشرين سيشهد هلاك الشعر”.

الترجمة من اللغتين الإنكليزية والفرنسية بالنسبة له “مساءلة ولقاء”، لذا لم تبتعد عن الشعر، وهي ليست مسألة على الهامش، بل اعتبر عمل المترجم نشاطاً ذا طبيعة شعرية، يطور نظرية الترجمة من تجربته كمترجم شاعر، وكتب كتاباً أطلق عليه اسم “مجمع المترجمين” وفيه قدم نظريته في حقل الترجمة الشعرية، التي عدها “القبض على الحضور اليقظ للنص”.

وعرف العرب، الشاعر، منذ الستينيات عن طريق ترجمات أدونيس له في مجلة “شعر”، ومن نقل لأجزاء من دواوينه الأولى التي أعاد تأليفها بالعربية واعتبرها تحية صداقة، وصدرت عن وزارة الثقافة السورية العام 1986. إلا أن مختارات من شعر بونفوا أكثر وفاء للأصل، صدرت مترجمة إلى العربية العام 2008 بعنوان “الصوت والحجر” عن دار الجمل، وقد أنجزها الشاعر التونسي محمد بن صالح ووضع لها مقدمة ضمّنها حواراً أجراه مع الشاعر. وقدمه عدد من الشعراء العرب في حوارات وترجمات لأعماله مثل الشاعر اللبناني عيسى مخلوف والشاعر العراقي كاظم جهاد، وفي مناسبة نيله العام 2014 جائزة “الأركانة” التي يمنحها “بيت الشعر” في المغرب. وهناك ملاحظة تتعلق بكل هذه الترجمات وهي المسافة بين النصين الفرنسي والعربي، ولا علاقة لذلك بجودة الترجمة، بل بسبب استعصاء ترجمة هذا الشاعر الذي يقوم شعره على التكثيف اللغوي. 

*المدن