بشير البكر: الخريف والبحث عن الزمن الضائع

0

في الخريف تتملكني أحاسيس ومشاعر عنها. أشعر برغبة شديدة في الكتابة لها. لكني لا أعرف حقاً من هي. دائماً يختلط الأمر عليّ. كلما أقول وجدتها، وأجلس للكتابة، تختلف الحالة. هناك نقطة بداية واضحة وقوية، هي المشاعر الكثيفة، المزيج من التجريد والغرابة، خليط من الشجن والأمل، قوس من الألوان، التفاح والشاي واليقطين، والذرة، والحنطة الشقراء، والعسل.

لا أدري من هي التي تسبب كل هذا القدر من اختلاط المشاعر. أحياناً، تنتابني حالة حنين تجاه الأم المتوفية منذ زمن طويل، تردني صور الهبريات الطويلة الملونة التي كانت تلبسها والثوب والصاية. وفي أوقات أخرى، تستوقني الأشجار حول المنزل، وفي الطريق إلى العمل، والتي أعرفها واحدة واحدة، وبعضها يحيلني إلى الغرَب وأشجار الصفصاف والحور والطرفا والكينا والدفلى على ضفاف الخابور والفرات.

وفي بعض الأحيان أحس أنها الأرض، هي التي تفجر فيّ كل هذه النوستالجيا الشديدةـ تقفز أمام عينيّ سهوب الجزيرة، التي كانت خضراء على مد النظر في الربيع. سهوب الحصاد والبراري والقطا. لون الأرض في مدخل حلب من كل الجهات، لم أرَ مثيلاً لهذا اللون في مكان ما. تربة جذلى، غنية بالعناصر، هي الباقية في تعاقب الأزمان والامبراطوريات والدول.

وحين يختلط الأمر، أقول ربما هي الرائحة، تلك الرائحة، لا فرق بين المرأة والأرض والوردة العالية. الرائحة لا ترحل نهائياً، تغيب لوقت طويل، لكنها ترجع في لحظة ما حينما تتشابك مع العاطفة والذاكرة. اللحظة البروستية، نسبة إلى الروائي مارسيل بروست. وهي تجربة حسيّة تؤدي إلى اندفاع الذكريات التي غالبًا ما مضى عليها وقت طويل، أو حتى أنها منسية على ما يبدو. كل ما يتطلبه الأمر هو تناول قطعة من كعكة مادلين ورشفة من الشاي لإعادة مارسيل بروست إلى ذكرى طفولته في صباح يوم الأحد مع خالته. كتب الروائي الفرنسي في العام 1913: “لم يكد السائل الدافئ، والفتات معه، يلامس ذاكرتي، حتى ارتجف جسدي كله”. لكن الطريقة التي تجعلنا بها الروائح نسافر عبر الزمن في أذهاننا، وتثير المشاعر، ليست مجرد اهتمام أدبي، بل شيء يحاول العلماء فك شفرته. ويعتبر العلماء أن كل ما نعتبره نكهة، عندما نأكل، كل النكهات الجميلة والمعقدة، كلها رائحة. والرائحة والعاطفة يتم تخزينهما كذاكرة واحدة، وتشكل الطفولة الفترة التي يتم فيها فرز الروائح بين التي سنحبها، ونكرهها لبقية حياتنا.

الخريف أنثى لا تفارقني، امرأة، طبيعة، شجرة، رائحة، وردة، أغنية، قصيدة مستحيلة لا تأتي أبداً.. لماذا كل هذه النوستالجيا، إذا لم يكن الخريف أنثى نشتم رائحة ألوانها الأخضر، البرتقالي، الأصفر، الحمضي، العطري والبني. ربما هذا ما يجعل من العاطفة مزيجاً من الذكريات المختلفة، ويولد غموضاً سحرياً.

تشدني مفردة البلاد أكثر من مفردة الوطن. كنت أسمع هذه الكلمة على ألسنة الفلسطينيين وأطرب لها، “أنا رايح البلاد”. تهزني أكثر من الوطن والوطنية التي ارتبطت في أذهاننا بالتصنيفات السياسية، التي تستخدمها الأنظمة لتنزيه نفسها وتشويه سمعة خصومها. أما البِلاد وهي جمع بَلدة، فهي تعني الأهل والأرض والزعتر والزيتون، ولا تتحول ولا تتغير.

الخريف مثل أنثى تتزين على مدى أشهر، تغير ألوان ثيابها تباعاً، في كل يوم ترتدي ثوباً جديداً، وتطل على العالم غير عابئة بأحوال المناخ المتلون، الذي يناسب مزاجها المتقلّب وحالاتها المختلفة. تتزين من أجل الجميع ومن أجل لا أحد. الجميع ولا أحد يحسون ذلك وتأخذهم الغبطة لهذه الزينة التي تنتشر في كل مكان.

ثمة رائحة خاصة بالخريف تتدفق بقوة نحو الشتاء البارد والقاسي، وهذه الرائحة يحسها المرء أكثر في المدن الكبرى والغابات. وتلك الرائحة تميّز صلتنا بالمدينة والريف والفصول الأربعة، وإلى أي مدى سكنت فينا تلك المدينة أو ذلك الريف أو الخلاء الكامل. رائحة دمشق غير رائحة حلب، يلعب بردى دوراً خاصاً في الاختلاف بين الرائحتين. الأولى طرية مشبعة بالماء مسكونة بريح الجنوب في قصيدة سعيد عقل “سندس الغوطة والدنيا غروب”، والثانية جافة، قادمة من بيادر القمح. شعثاء خفق أجنحة الطيور وبساتين الفستق والكرز غير بعيدة من البادية والفرات.

هناك إحساس خاص بالخريف، له رجفة تقترب من الحب الضائع البعيد المفقود، لكنه المقيم في مكان ما، الساكن في الشجن، ويحتاج إلى الوتر الذي يحرك مواجعه النائمة. كل المشاعر تتبع الوقت الذي تتحول فيه تلك الظلال اللانهائية من اللون الأخضر بهدوء إلى لوحة من الألوان الدافئة. أصفر ذهبي، خمري، بنفسجي، برونزي. يتمتع الخريف بشخصية غريبة خاصة به وهي جذابة للغاية. إنه وقت الخروج والاستمتاع بأشعة الشمس الأخيرة التي يمكن أن تدفئ البشرة، لسماع صوت الأوراق الجافة تحت الأقدام، والذهاب في نزهة في صباح ضبابي، ودخان حطب النار الذي يهيج شعيرات الأنف، ويعيدنا إلى أيام الريف واللقاء من حول النار، والحشرات، والحيوانات، والطيور.

الوقت الذي يصفو فيه العقل نفسه، ويبدأ الجسد بالعودة إلى ذاته بعدما سافر بعيداً خارج ذاته خلال الصيف، وراء الحرارة وملح البحر والفواكه الحلوة الغنية والأطعمة الحارة. الخريف حالة انسحاب بطيء مثل العودة إلى المنزل في ليل مطر. خريف بعد سهرة صاخبة. في هذا الوقت يطيب تناول الفطر البري الذي تفوح من رائحة التراب والجبن إلى جانب النبيذ والكستناء المحمصة، والكاكاو الساخن.

الخريف لا يمكث طويلاً، يجفل ويطير بسرعة يهرب كالغزال، وهذا أحد أسباب اختلاط المشاعر والحزن بسبب الشعور بالفقد السريع. ولا شيء يتفوق على ذاكرة الخريف، بيت دافئ مع مدفأة حطب، شاي في الريف واسترخاء مديد، سعادة لا مثيل لها. مشكلة فلسفية بالإضافة إلى كونها علمية. تبدو حقيقة هذه الذاكرة، كأنها كمين لا فكاك منه كل عام، تتقدم وتتراجع، تتجسد وتتلاشى، مثل لون أرجواني في نسيم شهر حزيران الهش.

*المدن