بشير البكر: الجزائر- فرنسا.. صراع ثقافي

0

أجريت حواراً في العام 2016، مع الرئيس السنغالي ماكي سال، ومن بين الأسئلة التي طرحتها عليه سؤال عن علاقة السنغاليين باللغة الفرنسية، وكان جوابه أنها اللغة التي قرأوا بها شاعرهم الكبير، ليوبولد سنغور، وهو الذي كان أول رئيس جمهورية لبلدهم بعد الاستقلال عن فرنسا العام 1960، وصاحب فكرة حركة الزنوجة في الأدب، إلى جانب الشاعر المارتينكي إيميه سيزار الذي كتب شعره بالفرنسية أيضاً. ويعتبر سيزار، مع سنغور، من أهم شعراء اللغة الفرنسية المعاصرين. وبعدما تنازل سنغور عن كرسي الرئاسة طواعية، وخلفه عبدو ضيوف العام 1980، تفرغ للكتابة وكرّمته فرنسا بعضوية الأكاديمية الفرنسية، وهو مكان رفيع لا يحظى به إلا الذين يقدمون خدمات جليلة للغة الفرنسية، ومن هؤلاء في العقدين الأخيرين، دخل هذا الصرح الكبير من الكتّاب العرب، الروائية الجزائرية آسيا جبار، والروائي اللبناني أمين معلوف.

اللغة الفرنسية في الجزائر، كما هي في السنغال، إلى حد كبير، مكوّن أساسي من مكونات ثقافة البلد، وما عناه الرئيس السنغالي أنها الطريق الوحيد، الذي يأخذ السنغاليين إلى القواسم المشتركة نحو الإجماع على هوية واحدة، ومن دونها سيتيهون في لغات فرعية تتعدد بتعدد القبائل والأثنيات. وحين وصفها الكاتب الجزائري الفرانكوفوني، صاحب رواية “نجمة” (1956)، كاتب ياسين، بأنها “غنيمة حرب”، وأن الجزائريين يكتبون بها من باب “ردّ النكاية”، فإنه احتاج إلى تفسير ذلك بقوله “أكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين إني لست فرنسياً”، لكنه في حقيقة الأمر كتب بالفرنسية لأنه لا يعرف العربية جيداً، وخضع لخيار ثقافي رغماً عنه، وهذه العقدة لازمت أبناء جيله من كتّاب ومثقفي الجزائر التي عاشت 132 عاماً تحت الاحتلال الفرنسي. ومن هؤلاء، الشاعر مالك حداد الذي توقف عن الكتابة نهائياً، لأنه لا يريد أن يكتب بالفرنسية، وهو لا يتقن العربية، واصفاً اللغة الفرنسية بالمنفى: “الفرنسية منفاي”. وذهب أبعد من ذلك حين قال “لا أدب جزائرياً معبّراً عنه باللغة الفرنسية، وإنما يوجد أدب فرنسي ذو اهتمامات جزائرية”. وكان حداد عنيفاً حين رد على مديح الشاعر الفرنسي لويس آرغوان، لشعره بالفرنسية، بقوله إنه لا يشعر بالسرور حين يكتب بهذه اللغة. وبعد الاستقلال، بدأ يترجم كتبه للعربية، بدلاً من الصمت. تلك القطيعة الجريئة هي ما كانت تحتاجه الجزائر عشية الاستقلال، والفرصة ما زالت متاحة لذلك.

وفي لقاءات عديدة مع كاتب ياسين في باريس، بعد مغادرة الجزائر العام 1987 إثر محاولة اغتيال في تيزي أوزو، اعترف بأن الذي شجعه على الكتابة هو احتلال فرنسا للجزائر “أتحدث وأكتب بالفرنسيّة لأقول لفرنسا أنَّ الجزائر ليست فرنسيّة”. وكشف أنه سافر إلى لبنان العام 1974 برفقة صديقه المفكر اللبناني مهدي عامل، الذي عرّفه على الناقدة اللبنانية يمنى العيد، والتي أمّنت له سكناً في شقة ابنها في صيدا. وكانت رحلته من أجل تحسين عربيّته التي تعلمها من القرآن، وأراد أن يتفرغ للكتابة، لكن الحرب الأهلية اللبنانية قطعت عليه الطريق. توفي في مدينة غرونوبل الفرنسيّة بسرطان الدم العام 1989، ونقل جثمانه ليدفن في الجزائر. ورغم ذلك كله، فإن ياسين لم يكن حاسماً في مسألة العربية، بل كان هواه الأمازيغي قوياً جداً في وقت كانت فيه النزعة البربرية تهدد بتقسيم الجزائريين. وفي كل الأحوال، لم تكن العربية مرجعه الأخير حين يريد التعبير.

المشكلة تتجاوز اللغة إلى التجذر الثقافي. اتفاقية ايفيان التي حصلت الجزائر بموجبها على الإستقلال، تعطي الفرنسية “مكانة لائقة”. وقبل ذلك، كان الهدف أن تبقى اللغة الفرنسية هي الأساس، كما حصل في بلدان إفريقيا الفرانكوفونية، وفي أسوأ الأحوال أن تبقى إلى جانب العربية، لكن الجزائريين اختاروا التعريب، واليوم بعد 60 عاماً لم تنجح العربية في طرد الفرنسية، التي ما زالت وديعة المستعمر في هذا البلد الذي خاض معركة كبرى من أجل التعريب. ويتأكد كل يوم أن احتلال فرنسا للجزائر، لم يكن عسكرياً فقط، وهذه طبيعة الاستعمار الفرنسي في كل مكان، حتى في لبنان وسوريا، وهي التغلغل الثقافي في عقل البلد، واللغة هي الأساس، لذلك كانت هناك حرب فرنسية طيلة سنوات الإحتلال، ضد العربية الفصحى، من خلال ضرب المؤسسات الدينية التي كانت تقاتل ضد الفرنسة، وجرى تشجيع اللهجات الدارجة إلى درجة إصدار قواميس لها، وتشجيع تعميم مقولة أن اللغة ليست أكثر من وسيلة تواصل، وأن العربية لغة فقيرة وميتة ولم تتجدد منذ قرون، ولا تصلح لكتابة الأدب.

الحرب في الجزائر هي ضد نفوذ الفرنسية الاجتماعي والهوية الثقافية التي تمثلها و”المكانة المرموقة” التي ما زالت تحتلها لدى قطاع مهم، لكن هذه المهمة ما زالت صعبة، وتحتاج إلى مراجعة ثقافية شاملة تبدأ من العمران. فإذا سار المرء في شوارع الجزائر العاصمة، اليوم، فإن العمارة التي تملك سحراً هي العمارة التي خلفتها فرنسا، وبنتها لكي تكون ممثلة لثقافتها، في حين ان ما تم بناؤه بعد الاستقلال على قدر كبير من البشاعة تبدأ من الأسماء “حي 350 سكن” أو “ألف سكن”، وهكذا، وكأن الأسماء الجميلة انتهت، وهي ليست عمارة، بل كتلاً خرسانية على النمط السوفياتي بلا هوية، أو مرجعية بصرية أو ثقافية. وبالتالي إن ما يعصف بالعلاقات الدبلوماسية الفرنسية اليوم، ظاهره سياسي، لكنه ثقافي في العمق، وهناك ما يؤلم قطاع كبير في الجزائر من عدم الخلاص حتى اليوم من الاستعمار الثقافي الفرنسي الحاضر بقوة.

*المدن