بسّام البليلبل: سرديات فراتية من باريس ..!

0

النص الأول : ( وللفرات بحيرة )

بحيرة ” أونغيان لي با ” الصغيرة الجذلى .. شأنها شأن بحيرات باريس الست الأخريات ..

 لا تكترث بمعرفة رؤساء فرنسا، ولا بأسمائهم !

تُزَجّي وقتها لاهيةً مع نوارسِها، وبطِّها، وأسماكِها الفضية اللامعة .

وبين وقتٍ وآخر، تكون مشغولة بزوارها، وولع قوارب الكاياك بمياهها، وعشاق موسيقى  

الجاز، وحفلاتهم الصاخبة على ضفافها .

وللفرات بحيرة كبيرة رائعة، كان لها أسماكها، وبطها، ونوارسها ..

سرقها ذات انقلاب، جنرال ليس له قلب، من فراتها، وأسماكها، وطيورها المقيمة والمهاجرة،

وألحقها باسمه لتصبح بحيرة الأسد ..!

شعرت البحيرة بالحزن الشديد، وهي تعيش أسوأ كوابيسها، مع لعنة الاسم الذي تتنفسه صبح

مساء ..اسم الجنرال الذي أعطى لنفسه صفة الخلود، فيما أبناء طائفته يهتفون بتمجيده: ” يا الله

 حلّك حلّك .. حافظ أسد محلك “

وعندما أراد أصدقاء البحيرة من الطيور والأسماك، في لحظة تاريخية فارقة،  إسقاط اسم  

الجنرال الأب، ووريثه المستبد الصغير ، ومناداة البحيرة باسمها الحقيقي، بحيرة الفرات ..!

جنّ جنون الوريث الملتاث وأنصاره، معتبراً أنّ هذا التمرد يشكل اعتداءً على أملاكه الخاصة .

تولى حراس الاستبداد قتل الأسماك بلا رحمة، صعقاً بالكهرباء، وتمزيقاً بالديناميت، لاسيما

الصغيرة منها التي لم تختبر هذا الجنون من قبل، وتلك التي لم تجد طريقها إلى مجرى النهر

 من جديد .

فيما تولى مرتزقة متوحشون اصطياد بطها الوادع، باستثناء تلك التي نفذت بريشها، ووجدت

طريقها إلى رحاب السماوات، حيث لاتطالها الطلقات .

أمّا النوارس التي حالفها الحظ ونجت بحياتها، فقد هجرت مسرح بهلوانياتها كاسفة ذاهلة، على

أمل العودة وقد  تحررت البحيرة من لعنة اسمها.

ألقت النوارس نظرة الوداع الأخيرة على سطح البحيرة المضطرب، ثم تتبعت خرائط “جوجل “

بحثاً عن ملاذاتٍ آمنة، مؤدية دوراناً بهلوانيا تعبيراً عن شكرها ” لجوجل ” الذي غير تسمية

البحيرة على خرائطه، من بحيرة الأسد إلى بحيرة الثورة .

النص الثاني : ( جسور وأقفال )

قال ” السين ” المتشاوف، مخاطباً ” جسر الفنون “، حارس قصص الحب الباريسية، ومقصد

عشّاق العالم الحالمين بالحبِّ الأبدي :

طوبى لك أيّها الموشح بأقفال الحب، وأنتَ تنوء دون تذمر بثقل أقفالك .

قال الفرات وهو يرمق بأسى ” جسري الرقة ” المدمرين،  والصفصاف الباكي المتهدل على

ضفتيه، وفي جزره المتناثرة :

ونحن لدينا جسورٌ وأقفال أيضاً ..

 ولكنها بفعل طغمة الاستبداد لم تعد جسوراً للفنون، ومساراتٍ للعشاق، وأقفالاً للحب ..

وإنّما حولها أعداء الحياة جسوراً للتنهدات، وأقفالاً للزنازين .

ومثلما فعل الرئيس “ساركوزي” وحبيبته الإيطالية “كارلا بروني” ذات لحظة عشق ..

فرغ للتو عاشقان مولّهان من تعليق قفلهما على سياج جسر الفنون البرونزي، ثم ألقيا بمفاتيحه

في السين الشغوف، في تعبير رومانسي عن حبهما الخالد .

في ذات الوقت، وفي لحظة يأس، كان السوري ” فراس زين الدين ” يُلقي بنفسه منتحرا من

على جسر الرئيس في دمشق، وفي جيبه رسالة اعتذار، وطلب مغفرة :

اعتذار من أطفاله الأربعة الذين لم يستطع أن يوفر لهم الطعام والدفء، ما جعل حياته ليس لها

معنى .

 وطلب المغفرة من الله، ليس لأنه قانطٌ من رحمته، وإنما لأنه تصرف بروحه التي لايملكها،

مثلما لم يكن يملك شيئاً في وطنه، سوريا الأسد، ما عدا هويته، التي لا تسمن ولاتغني من

جوع، والتي  لم تكن تضمن له أي حق من حقوق المواطنة، باستثناء تمجيد القائد الرمز .

النص الثالث : ( قد تتشابه الجسور والأنهار )

صمت مهيب أمام جلال الذكرى، تقطعه بين الحين والآخر،همهمات محتشمة للتعبير عن

الحزن، وعيون مسبلة تستحضر وجوه الراحلين، وبتلات بيضاء وحمراء تتساقط كالدموع من  

على سياج جسر سان ميشيل، كلما عصفت الريح بأكاليل الزهر المنضدة على جانبي لوحة

تذكارية مثبتة بإحكام مكتوب عليها :

( من هنا كانت الشرطة ترمي الجزائريين في نهر السين، في 17 أكتوبر 1961)

قال الفرات : كثيراً ما سمعت أنّ الاستبدادَ واحدٌ وإن تعددت أشكاله، وأن الطغاة متشابهون وإن

اختلفت ألوانهم وألسنتهم وجنسياتهم ، أمّا أن تتطابق جرائمهم كما لو كانت مستنسخة، فهذا

لاينقصه بالمقارنة مع مجزرة حلب، إلّا لوحة توضع على ضفة نهر قويق  تقول: هنا وجد  

سكان حي بستان القصر صبيحة 29 كانون ثاني 2013 عشرات الجثث، لأطفال، ونساء،

 وشيوخ، مقيدي الأيدي والأرجل، ومكممي الأفواه، تمت تصفيتهم بدم بارد من قبل قوات الأمن

السوري .

قال السين : قد تتشابه الجسور والأنهار، وقد يتشابه الطغيان والطغاة، ولكن الاختلاف في وعي

الشعوب وحيويتها .. طبيعة استجابتها للتحديات، وحركة الفكر فيها ..

 وربما يكون صحيحاً أنّ كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها، لذلك احتاجت فرنسا

لعشرات الثورات، والكومونات، والانتفاضات، والمظاهرات، من أجل أن  تحظى بحكومة تملك

الشجاعة والصدق  لكي تنصب مثل هذه اللوحة على جسر سان ميشيل، تكفيراً عن ذنبها،

واعترافاً بجريمتها ..

ومن أجل أن يمتلك الشعب الوعي وقوة القانون، لكي يشجب هذه الجريمة ..

ولكي  يستطيع مواطن أن يقول للرئيس  ” ماكرون ” أنت موظف لدي ..

 ولكي يقبل الرئيس برحابة صدر هذه الحقيقة التي كرّسها الدستور .

قال الفرات : ومن أجل أن نحظى بالحكومة التي نستحقها، والدستور الذي نريد، فالثورة

مستمرة منذ عشر سنوات، وستبقى كذلك، وتبقى نواعير حماة تردد صدى أهزوجة  “

القاشوش” : ” يا الله ارحل يا بشار” إلى حين سقوطه ..

 فيما معزوفة الموسيقار العالمي السوري مالك جندلي، ” سوريا نشيد الأحرار ” يتردد صداها

في المحافظات السورية الأربعة عشرة .

—————————————————————————————–

هوامش النص الأول

1- وللفرات بحيرة : بحيرة اصطناعية ضخمة في سوريا، بطول 80كم وعرض 8كم، تشكلت

خلف سد الفرات، وسميت بحيرة الأسد .

2 ـ بحيرة أونغيان : بحيرة صغيرة جميلة، في الضاحية الباريسية Enghıen les bans

3 ـ الجنرال : حافظ الأسد الذي وصل إلى السلطة بانقلاب 13 نوفمبر 1970 ، وأعلن نفسه بعدها بعام واحد كأول رئيس علوي للجمهورية السورية، محولا سوريا إلى جمهورية وراثية .

4 ـ خرائط غوغل : Google Maps بعد أربع سنوات من قيام الثورة السورية، أعيد تسمية

بحيرة الأسد على موقع البحث غوغل، ليصبح بحيرة الثورة .

هوامش النص الثاني :

1 ـ جسر الفنون : pont des arts  جسر حديدي وسط باريس، على نهر السين، تم افتتاحه

1984 ، أخذ شهرته من اٌقفال العشاق التي تعلق على سياجه، للتعبير عن الحب الخالد .

2 ـ جسور الرقة : تناوب كل من النظام السوري وروسيا والتحالف وداعش على تدمير معظم

الجسور التي كانت مقامة على نهر الفرات داخل الأراضي السورية، خصوصاً في محافظتي الرقة ودير الزور .

3 ـ فراس زين الدين : خبر تناقلته وسائل إعلام محليه ، وقد عثر على وصيته بعد أن قام بإلقاء

نفسه من على جسر الرئيس، وسط العاصمة السورية دمشق .

هوامش النص الثالث :

1 ـ لوحة جسر سان ميشيل : إشارة إلى اللوحة التي نصبت على جسر Pont Saınt Mıchel

تخليدا لذكرى مقتل العديد من المتظاهرين الجزائريين الذين خرجوا إلى شوارع باريس تلبية

لدعوة جبهة التحرير 1961 وتم إلقاء العديد من جثثهم من على جسر سان ميشيل في نهر

 السين .

2 ـ مجزرة حلب : ارتكبتها قوات الأمن السوري في تاريخ 29/ 1/ 2013 في حي بستان

القصر، وذلك بإلقاء أكثر من مئتي جثة لمعتقلين بالفروع الأمنية في نهر قويق في حلب

  3ـ القاشوش: إبراهيم قاشوش، شاب سوري من مدينة حماة، كان يؤلف الشعارات والأناشيد

وينشدها في المظاهرات، ظفرت به قوات الأمن ، وقامت بذبحه واقتلعت حنجرته، وألقته في نهر العاصي .