بروين حبيب: أسطورة الشفافية المطلقة

0

يقف المثقّف الذكي على الحياد، في الزاوية التي لا تُرى ولا يُلمَح له فيها طرف، لتقليل خسائره في عالمنا العربي، الذي تعتبر الكلمة فيه أهمّ ما يحدّد موقعه ويحمي مصالحه، وإن كان ظاهريا يمنح لها (للكلمة) مكانة تكاد تكون حقيرة في سُلّم تصنيفات الأشخاص.
ابتكر العرب مقولات تكرّس هذه النظرية، مثلا «لسانك حصانك إن صنته صانك» «إن كان الكلام من فضّة فالصمت من ذهب» انطلاقا من معتقد راسخ في ثقافتنا، فأغلب خلافاتنا سببها كلمة قد تكون مقصودة، وقد تكون أُوِّلت وأُعطِي لها معنًى آخر، وقد تكون غير مدروسة فتمكنت من إحداث هوّة بين طرفين قد تبلغ مبلغا لا تُحمد عقباه. فقول كل شيء طوال الوقت يشكل حماقة، أمّا أسطورة الشفافية المطلقة فهي فكرة غير ناجحة حتى في المجتمعات التي تدّعي ذلك.
يدّعي البعض أنّ التزام الصّمت بشأن مواقف كثيرة، غالبا ما يكون بسبب الافتقار إلى الشجاعة، لكن علينا أن نعرف حجم العواقب في حالة الكشف عمّا نعرفه ونخفيه، لكي نستوعب معنى ذلك الالتزام. فما نقصده هنا حتما ليس إخفاء معلومات طبية أو تجارية أو حتى مخاباراتية، بل آراء تخص الشخص وبإمكانه أن يتلفظ بها في وسطه الضيق، دون الجهر بها، وإن حدث وخرجت للعلن فإن حياته تنقلب رأسا على عقب.
مثل إبداء رأي في صديق، أو في أحد أفراد العائلة، أو نقل خبر يجب عدم نقله، أو ما هو قريب من كل هذا، لكن على صعيد أوسع. يمكن لأي شخص أن ينتقد مديره في العمل لكن بين زملائه، أمّا أن يواجهه فقد يدفع الثمن غاليا، وهكذا فكلما علت المناصب زادت حدّة مراقبة الذات وتقلّص فضاء القول.
تحضرني هنا حكايتان أولاهما عن الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي الذي عاش تجربة السجن بسبب مواقفه رغم سريَّتها آنذاك، فألقي عليه القبض وأدين بالإعدام أولا، ثم أعفيَ عنه وخُفّفت عقوبته إلى خمس سنوات سجنا في مستعمرة جزائية في سيبيريا، نقلها في روايته «ذكريات من منزل الأموات» نُشرت عام 1862، رواية بنيت كلها على معاناة الكاتب، الذي غيّرت هذه المحنة بقية حياته الأخلاقية، فقد تحدّث دوما بامتنان عن تلك التجربة المؤلمة، حيث قال إنه «تعلّم كل شيء منها».
يجد قارئ الرواية عالما غريبا من المجرمين من كل نوع جمعهم سجن واحد، يواجهون المصائر نفسها، من ضيق المكان والبرد القارس، وظروف الحياة غير المقبولة أبدا. نموذج مصغّر لأي بلد تُنتهك فيه الحريات، ويُسحق فيه الفرد مهما علا شأنه أو مستواه العلمي، بحيث يتساوى مع المجرمين والخارجين عن القانون، لكن دوستويفسكي يعيد اكتشاف نفسه في ذلك المكان المقيت، ويخلع الرباط الذي يغمض عينيه، ليرى من حوله جيدا، حتى أنّه يخترق بعينيه جدران أجسادهم، فيسمع نبض قلوبهم وما يدور في رؤوسهم من كلام. يشرّح النّفس البشرية كما لم يشرحها أحد قبله، يتلبّس أرواح الكتل البشرية المعذبة وينقلها إلى نصوصه.. لا شفافية مطلقة إذن إلاّ إذا كان الثمن غاليا جدا. وإن كانت حالة دوستويفسكي صالحة لإسقاطات مشابهة عاشها أدباء آخرون، فإن ألكسندر سولجنيتسين عاش تجارب أكثر قسوة، هو الحاصل على جائزة نوبل عام 1970، وسُجن بسبب رأي أبداه في ستالين في رسالة شخصية لأحد أصدقائه، ولم تنته محنته عند خروجه من السجن بعد موت ستالين، فقد منعت رواياته مجددا، واتهم بالخيانة العظمى من طرف ترسانة من الإعلاميين، شاركوا في تحويل حياته إلى جحيم، فاعتقل مجددا وحكم عليه بالإعدام بسبب روايته «أرخبيل غولاغ». نجا من محاولة اغتيال، وتم نفيه فعاش فترة في سويسرا عند صديق موسيقي، ثم غادر إلى الولايات المتحدة، التي عاش فيها لمدة عشرين سنة قبل عودته بعد انتهاء الاتحاد السوفييتي. كل فصل من حياته رواية عظيمة، كما أغلب الأدب الروسي المثخن بالمآسي، أما قصة روايته «أرخبيل غولاغ» التي صدرت عام 1973 فهي في حدّ ذاتها قصة من أغرب ما روي عن السجون في العالم، فقد أخرجت سرّاً من الاتحاد السوفييتي وتم تسليمها لمطبعة في باريس من إحدى دور الطباعة النّادرة، التي تمتلك خطوطا سيريالية وصف فيها الكاتب معسكرات الاعتقال السوفييتي في غولاغ. تمت كتابتها بين عامي 1958 و1967 على أوراق صغيرة روى فيها شهادات 227 سجينا، إضافة إلى شهادته في معسكرات الاعتقال. يذكرنا هذا برواية «القوقعة» لمصطفى خليفة، مع اختلافات في أساليب التعذيب والتنكيل بالإنسان.

إنّ قوة القول تكمن هنا، فصوت سولجنيتسين كان كافيا ليكشف معاناة ملايين السوفييت آنذاك. صوت واحد بقوة ملايين الأصوات، لكن هل كان الكاتب يعرف عواقب إعلاء صوته؟ هل أطلق صوته بحثا عن خلاص ما؟ أم انتقاما لنفسه على ما ضاع من أيام عمره في السجون والمنافي؟
إن ديكتاتوريات العالم كله لا تنتهي كما يحلم صانعو الثورات، بل تتطوّر وتأخذ أشكالا جديدة، وبالنسبة لسولجنيتسين فقد عاش ذلك التطوُّر، حتى في سنوات حياته الأخيرة، فقد مُنِح فرصة لتناول «وجبته المفضلة من الحرية» قبل وفاته كرسالة وهمية للعالم على أن النّظام تغيّر. الرجل العجوز الذي عاد إلى وطنه كأيّ متقاعد، لم يعد مُقلقا، وكل ما قاله سابقا، تمّ تثبيته في سجلاّت الماضي. وآمل أن أكون مخطئة في رأيي هذا.
السؤال الذي يعود إلى الواجهة اليوم هو هل يمكننا قول أي شيء متى وأينما شئنا؟
نعم لقد كثرت مواقع التواصل الإجتماعي، لكن الحريات بدأت تضيق، فالتشهير والشتائم العنصرية، والفكاهة السوداء وازدراء المثليين، أصبحت ضمن العناصر التي تتسبب في حظر الناشطين على الويب، وهم يعتبرون ذلك تطاولا على حق من حقوقهم. هل هناك حدٌّ لحرية التعبير؟ إن كانت إجابة سبينوزا التي نعرفها منذ أيام الدراسة الثانوية مقنعة لنا آنذاك، وهي فعلا مؤسسة لديمقراطيات كثيرة، فإن الزمن لقّن تلك الديمقراطيات دروسا أخرى ما دفع بها إلى تشريع قوانين تتناسب مع تغيرات الرّاهن، لجعل حرية التعبير متوفرة بتهذيب، أو لنقل بتعبير صريح معتمدة على الألفاظ الأكثر لطفا والأقل إثارة للحساسيات والكراهية، من أجل فرض احترام الآخر. هل يجب أن نتذكر ما أحدثته رسوم «شارلي إيبدو» من هزّة أمنية وردود فعل عدوانية لنشعر بمدى خطورة قول كل ما يدور في أذهاننا؟ بإمكان الجميع أن يفكّر كما يشاء، فحرية التفكير حق طبيعي لكل فرد، لكن «هناك مخاطرة في الاعتراف الأعمى بكل الآراء» كما قال العالم والفيلسوف النمساوي الإنكليزي كارل بوبر في مقالته «المجتمع المفتوح وأعداؤه» (1945) هو الذي نبّه إلى أن الإفراط في التسامح يخلق اللاتسامح.
تنقذنا الفلسفة في إيجاد الأجوبة حين نتعثّر في الغالب بالمفاهيم السياسية المعقدة، والمرجعيات الاجتماعية التي تتحكّم في البشر، وفق إفرازات الغرائز لا وفق استخلاص الحكمة من التجارب بعقلانية. على هذا الأساس تم اشتقاق تعريف سيادة القانون على أنها شكل معياري ومؤسسي لاحترام الحريات، بدءا بإدراك حرية الفرد السلبية وحريته الإيجابية في النسيج الجماعي الذي لا يمكن فصله عنه.
وقبل أن نحسم الأمر بشأن الشفافية المطلقة لنتفق على أنه «لا يوجد إنسان لديه ذاكرة كافية للنّجاح في الكذب» كما قال إبراهام لينكولن، حتى لا نعتبر الكذب – وإن كان أبيض – بديلا جيدا لقول الحقيقة، يبقى أن نقف عند خيارات صعبة، فالكذب أسهل من قول الحقيقة، والخيانة أسهل من الالتزام، والصمت أسهل من الصدق. اتخذ البعض الطريق السّهل وأدرك البعض الآخر أن السّعادة تأتي بصعوبة!

*القدس العربي