عبد الرحمن الإبراهيم، شاعر سوري من قرية الغدقة في ريف إدلب، له ستة إصدارات الشعرية، وجديده قيد الطباعة كتاب “أظافر الأنبياء”
مجلة أوراق- العدد 15
أوراق الشعر
البردُ فيروسٌ جديدٌ..
واسْمُه في معجم الأخلاق: وَغْدُ
سُمٌّ بناب عصابةٍ
لَسَعَتْ عروقَ الشّمس فانطفأ اللظى
وتغّلْغَلَتْ لتقيم – بعد الإغتصاب –
على رماد نهودها عرشاً..
تربَّعَ فوقه (أي فوق صدر الشّمس) بَرْدُ
مَنْ يوقظُ الغيمَ المدثَّرَ في سرير البحر..
والشّمسُ الجميلة لم تعدْ تنمو سنابلُ شعرها
صبحاً على خدِّ النّهارْ؟
مَنْ يُجلِسُ الغيماتِ..
يرفعُ رأسها بالدّفءِ عن خَدَرِ الطحالبِ..
ثم يُلْبِسُها فساتينَ المطرْ؟
من في غيابِ الشّمس..
يمسحُ ما تراكمَ من جليدٍ..
عن جفونِ عيونِها
لتصُبَّ فوق الزَّعترِ البردانِ..
دمعاً دافئاً؟
من يا ترى؟ والشّمسُ بَرْدُ
جفَّ الحنانُ بطرده..
من قلب ذاكرة الترابْ
أعصابُ أهدابِ الجّذور تجمّدَتْ
سدّتْ متاريسُ الصقيع دروبَها
والبردُ منهمكٌ بترسيخ العماءْ
من في غياب الدفءِ، يعرفُ دَرْبَهَا؟
والدّفءُ عكّازُ الجّذورْ
من ذا يترجمُ في ظلام الأرض..
قصَّةَ شوقها.. للغاتِ آلاف الزهور..
وبلهجة الرّمان والزيتون والتين الصّبورْ؟!
والبردُ أميٌّ فجورْ
من أيَ رَحْمٍ
سوف تنجبُ حبّةُ القمح النّحيلةُ سبعةً
في كلِّ سنبلةٍ رغيفٌ للجيّاع..
وبطنُ هذي الأرض بردُ؟!
*
عبثاً جويراتي.. كسالى القبَّرات..
تُضيفُ ريشاً ثانياً لثيابها.. والرّيشُ بَرْدُ!!
هرَعَتْ إلى الوكر المدفَّأ بالأغاني والأماني..
للفراخ القادمات مع الربيع المرتجى
والوكرُ بَرْدُ!!
فتحاشدتْ بالزّقزقات..
تقيمُ حول الكوخ قدَّاسَ الفراق..
ويمَمَتْ نحو الجنوب بهجرةٍ
وجنوبنا كشمالنا المطعون.. بَرْدُ!!
*
رغم الأبابيل التي تُلقي على الإرهاب فوق مضاجع الفقراء..
من سجيلها (وبكلِّ عطفٍ)
ما تيسّرّ من براميل الجحيمْ!!
والرّاجمات (المحسنات) تمدُّهمْ
وعلى مدار البرد تُّصليهمْ عناقيداً مسعرَّةً..
من الكرم المخصَّب باللظى
والكرم صاحبه كريمْ!!
ومدافعٍ نّضَجَتْ حديثاً من عيار جهنّمٍ
فأضافها للبرد.. بَرْدُ!!
رُغمَ السّخاءِ العالميّ بكلِّ ما ملكَتْ سَقَرْ
فالبردُ بالموت اغتنى
والدفءُ (شبَّرَ) فانتحرْ
لم تحترقْ إلّا الضمائرُ في البشرْ
*
مستثمرٌ في الله (أي في البرد)..
يلهجُ بـ (الضّحى) مسترزقاً
و (النّاسِ) مُتقيّاً بها شيطانَه
أمّا الحسودَ فبـ (الفلقْ)
متحمّسٌ لله..
يربُطه بحضرة أو بغبطة أو بحُجّة سادنِ الفيروس..
حبلٌ مِنْ لّحى.. أيْ من ذَهَبْ!!
مُتخصّصٌ بمخيماتِ النازحين من البلدْ
وإلى البلدْ
والهاربينَ إلى الذئاب من الأسدْ!!
يتلقَّطُ النُزَلاءَ من إخوانه في الله..
يُنجيهمْ من البرد المريعْ
وبركعةٍ وعلى مسافة دمعةٍ
من جفنِ قلّةِ حيلتي
لَبِسَ المكانُ خيامَه
متدفئاً بدموعِ مَنْ بعروقهمْ جَمُدَ النّجيعْ
وتقاسمَ النّزلاءُ أشباهَ الخيامِ وبالتّساوي..
بينَ آلامِ الجميعْ
صَفَنُوا على أبوابها
وتَعوذَبوا بالبرد مِنْ أجوافِها!!
لكأنّها رئةُ الصقيعْ
وطنٌ فظيعْ
الخيمةُ الثكلى يراودُها المموَلُ..
وقتما صرخَ الرضيعْ
وقعتْ على كفِّ المخيّمِ بغتَةً
(من غير طلْقٍ موجعٍ)!!
أُولى ثمارِ الزّمهريرْ
فبِطَلْقَةٍ مِنْ مدفعٍ
تُعفى جميعُ مواخضِ الخيماتِ..
مِنْ طلْقِ الولاداتِ العسيرْ
كيف التي بالموت – ممّا في مضامينِ المخيّمِ –
تستجيرْ!!؟؟
وطنٌ قتيلْ
جذّتْ ضفائرَها الكرومُ وأشْعلتَها..
للخيامِ الحافياتِ من الأمانْ
والبردُ.. بَرْدُ!!
قطعَتْ أصابِعَها الكرومُ وأضْرَمَتْها
ثُمَّ كسَّرَتِ الزُّنُودَ وأحرَقتها
للخيام العارياتِ من الحنانْ
والبَرْدٌ.. بَرْدُ!!
*
أُوّاهُ يا كوخي الذي عيناكَ – رغم البرد.. والعتَماتِ – ما زالتْ..
تَنُوسُ كما الفوانيسِ العتيقيةِ..
بينَ أهدابِ الضبابْ
في بال حزنكَ دائماً
للرّوح تتْرُكُ مَطْرَحَاً
بينَ العذوبة والعذابْ
أفكلّما أرَّقْتُ تحتَ الشّاي جَمراً..
أرَّقَتْ عيناكَ قلبي..
ثُمَّ أحْضَرَتِ الغيابْ؟!!
الوقتُ غير مناسبٍ لقراءتي
فاقرأ بهيبةِ وِحْشَتِكْ
ما شئتْ من أدبِ المشاعرِ..
في أمُومةِ نَعْجَةٍ مرَّتْ بوهمِ وليدِها
ريحُ الذئابْ
تالله تفتأٌ تنبشُ الصورَ الحبيبةَ..
ثمَّ تمسحُ غبْرَةَ التاريخ عنها..
كيْ أرُّشَ على سُهادِ جُفونها
شَوقاً تخضَّلَ بالعتابْ
أتظنُّ “عشتارَ” القصيدةِ أشْرَكَتْ في كُحلها
أيْ آمنتْ بعقيدةِ الفيروس..
فاختنقَ الهوى متأثراً بالبرد..
حتّى مات في حوض القوافي غيلةً
حبقٌ ووَرْدُ؟!!!
البردُ أرحم صدمةً
من أنْ يُقَالَ..
: يمامةٌ صَبَأَتْ
وما عادتْ تُغَطّي ذكرياتِ ضلوعها
بقطيفتين من الهديل لينتشي بالدّفءِ..
(رغم الوغْدِ) تحت جناحها
شوقٌ وَوَجْدُ
ما هكذا للرّوح يبدو
فلَعَلَّه في البرد يَخْرَفُ حَدْسُنَا
فَيُشَمُّ مِنْ ريحانةِ الأشياءِ ضِدُّ
*
مِنْ خيمةٍ حدباءَ..
بعضُ عروقها قُطِعَتْ بعَرْبَدَةِ الهواءْ
خرَجَتْ تَلُّفُ على أنوثتها القتيلةِ..
فَرْوَةً لشقيقها
أَخْفَتْ بِكُمَّيْهَا قصيدةَ مِحْبَسٍ
وأصابعاً، للبرد فيها غايةٌ
ليستْ صليلَ (الكرتعةْ)
وروايةً تشْتَمُّ دفءَ فصولها
مِنْ جمرِ ذاكرة الأساورِ..
والأساورُ مُفْزِعَةْ!!
عَزَفَتْ على ناي التأوّهِ..
قبلما سألتْ: وماذا (أيّها البردانُ) بَعْدُ؟
قلتُ: الذي ما مِنهُ بُدُّ
ووعظتها كمثقفٍ وكعارفٍ بالبرد..
ثمَّ كمشفقٍ
: لا تُسْرفي بتناول الآهاتِ والآخاتِ..
خلّيها لما قدْ يستجدُّ
فلكلِّ بَعْدٍ في كتابِ الَبَرْدِ بَعْدُ
عادتْ تكرّرُ بازدراءٍ..
: ثمَّ ماذا أيّها البردانُ بَعْدُ
فأجبتها متفلسفاً
: في الثلج.. أيْ في البرد يا ابنةَ خيمةٍ
تتشابهُ الطرقاتُ
تُصْبحُ كلُّها كطريق “حمزة”* ..
ما لها قدمٌ تَجُدُّ
صَرَخَتْ: “وماذا بعدما أعطاكموا……..”
عَثَرَتْ بغُصَّتها الحروفُ فأجْهشَتْ لهنيهةٍ
ثمَّ انتشتْ، وكأنّها اتّقَدَتْ بمسٍّ..
من حنان عيونه
ومضتْ تُوَصِّلُ ما تقطّعَ من نشيج حروفها
: “غنمتْ جلودُ نسائكمْ
دفئاً وفيراً من دماء جراحه
ليزُجَّه في برد جوف القَبْرِ.. بَرْدُ”!؟
وبَكتْ بدفءِ عيونِه ما تشتهي
وجفونها كالغيم ترتجلُ النجومَ..
وهكذا يبكي الإباءْ
(والله لو تبكي القصيدةُ مثلَها
لنقشتُ بالدّمع المُقفّى..
ألفَ شمسٍ في السّماءْ)
وصَحَتْ أساورُها على وقع الخيولِ..
العابراتِ من الدماء إلى الدماءْ
وبكبرياءٍ صعبةٍ
حَلفَتْ بعزّةِ بوطه.. تتوعّدُ
: “سأدوسُ رأسَ عصابةِ الفيروس يوماً”..
هكذا وعدتْ، وحزنيَ يشهدُ
مَنْ آمنتْ بحبيبها
وبأنّه سيظلُّ كالأمواج حيّاً دافئاً
وعلى شواطئ قلبها يتجَدّدُ.