بداية دعونا نعطي القيمة الأدبية لأي مجموعة قصصية لأنه من المتعارف عند العامة أن المبتدئ بالكتابة عليه أن يبدأ بكتابة القصة القصيرة حتى يتمرس بفن الكتابة ثم ينتقل للرواية، لكن الحقيقة خلاف ذلك فالقصة القصيرة فنٌ مركبٌ أكثر من الرواية وهذا ما ذكره المفكر الارجنتيني اندرسون هيمبرت حين قال: “القصة القصيرة تحتاج إلى ضغط المادة وهذا الضغط يحتاج إلى وحدة شاملة دالة رغم تكثيف الأحداث والحفاظ على جودة اللفظ وسعة الصور والخيال وهذا ما لا يتاح لكل مبدع;”
سأبدأ في دراستي أولاً من الإهداء الذي بات يعتبره نخبة علماء النص جزءاً من القصة لأنه يرسم ملامح دالّة على شخصية الكاتب الذي يدين بالامتنان لبعض الأشخاص المقربين الذين كانوا عوناً له في حسن إتمام هذا العمل، فنجد القاص هنا يهدي المجموعة مع الشكر للكاتب /زياد السراج/ الذي قام بالمراجعة اللغوية والنحوية للقصص بالرغم من وضعه الصحي.. ثم لننتقل بعد ذلك لإعطاء سمات لهذه القصص:
1: الوفاء للبيئة الفراتية التي ينتمي لها فالفرات وأهله دائماً حاضرون وهذا ما يسمى في النقد جغرافية إنسانية نفسية
2: الجرأة في السرد: وكسر بعض قيود المجتمع الشرقي بما يتعلق بنظرته نحو المرأة والدين والمجتمع، فهو بأجزاء من كتابته دائماً يرفض المجتمع وهذا الرفض ليس ضدية هدم أو شر يحمله نحو المجتمع بل هي ضدية للكشف فهو يسلط الضوء على بعض السلبيات في المجتمع لتنبيه القارئ والثورة عليها، ولا يكتفي بذلك بل يقدم صورة حياة موازية بديلة عنها وصل لها بقناعته بعد أن تخطى الستين، ويتمنى لو أنه عاش العمر من أوله فسلك هذه الحياة الموازية وترك خلفه حياة الموروثات القديمة.
3: التكتيكية في السرد: فنحن لو قمنا بقراءة تحليلية للقصص سنجد أنها متشابهة من حيث الأسلوب اللفظي بجزالته ومرونته في آن معا، رشاقته وصلابته جماله المفردات وقبحها، وهذه التناقضات هي التي جعلت المجموعة متفردة متميزة، فالكاتب متمرس لدرجة يعرف أين يجب أن يعلو في اللفظ وأين يهبط، وأين يشعل خيال القارئ بهوس التحليل والاستنتاج، وأين يهبه الحدث مكشوفاً.
4: الإيجاز في اللفاظ والعمق في الصورة، ويبدو لقارئ القصة أنه أمام حالة سينمائية مدهشة وهنا تكمن العبقرية. فالمشهد في السينما يحتاج كي ينجز إلى ديكور وإضاءة وفنانين درجة أولى وكومبارس وموسيقا وحوار وو وو
أما في الحالة السردية للقاص أيمن ناصر فهو قد امتلك إعجاز ما أسميه الرسم بالكلمات وكيمائية الصور بخلق صور جديدة غير مسبوقة، فهو قادر فقط بمفرداته أن يحول خيال القارئ إلى مشهد سينمائي حقيقي.
5: قدسية المرأة: ما يلفت انتباهي دائماً في كتابات ايمن ناصر هو تمجيده للمرأة، فهو يعطي المرأة دائماً الحالة الفضلى في المجتمع، وكأنها روح الحياة ومدار الكون، هذا كان واضحاً لي في روايته روجين، وأيضاً هنا كان واضحاً في احترامه للمرأة في أكثر من قصة، مثل رائحة الخبز، ومدى تعلق البطل بزوجته فاطمة أو -فاطم- كما كان يناديها، وأيضا في قصته.. “نورهان” التي أظهرها امرأة حديدية قوية مثقفة شامخة لا تقبل الظلم وفي نفس الوقت لا تغدر،
وبدا ذلك جليّاً بداية قصة -الجرف- هو كان يراجع بمخيلته مذعوراً كابوساً مخيفاً يتكرر معه كل ليلة عن يدٍ مُحنّاةٍ مليئة بالحلي تدفعه من الجرف فترديه في الهاوية، وهنا ينطق القاص بكلمة حق تجاه المرأة على لسان البطل فهو كان رافضاً رفضاً قطعياً أن تكون هذه المرأة زوجته -نورهان- رغم أن اليد في الحلم تشبه يد زوجته بنقوش الحنة والحلي الذهبية إلا أنه لم يصدق ما رآه وصرخ قائلاً:
“لا.. لا نورهان لا تغدر بي حتى لو حلماً”
المرأة إذن كانت عند أيمن ناصر مقدسة، كما أنها أيقونة للجمال والحب ولذة الجسد، هي أيضاً أيقونة حنان ومودة ورحمة
كانت تلك قراءة سريعة للمجموعة القصصية (رهان الغيم)، وسأكتفي الآن بدراسة نقدية سريعة أيضاً للقصة التي حملت عنوان المجموعة وهي قصة /رهان الغيم/:
هذه القصة قدّم لها الكاتب بأسلوب رومانتيكي رقيق بالرغم من الحس الشبقي الذي يبدو للقارئ السطحي فقط، ومصطلح رومانتيكي لم يجد له النقاد حتى اليوم تعريفاً، لكنه يُعرف من سماته من مثل: “توقد العاطفة والخيال الجامح والمفردات العذبة واللغة الشاعرية”.
قصة رهان الغيم تحمل بعداً نفسياً للبطل الذي خرج حديثاً من السجن، والبطل كان مصاباً بهلوسة عصبية نفسية سببها مرض نادر يدعى صرع الفص الصدعي، والمصاب به عادة ينتقل رجوعاً إلى وقت ماض، كما وجدنا في شخصية الدكتور متعب المبارك في رواية روجين، أو قد يكون عبارة عن هلاوس تصيب حواسه وهذه الهلاوس مليئة بالإحساس ومليئة بالألفة، ويرى المصاب تهيئوات مُفصّلة لوجوه وأجساد بسبب نشاط زائد في المخ، وقد لا يكتفي المصاب فقط بالرؤية بل قد تشترك كل الحواس، فيستطيع أن يكلم الشخصية ويشمها أو ينفرد معها في حالات حب متقدمة..
البطل سامي هو سجين سياسي لخص الروائي أيمن ناصر من خلاله وضع السجناء السياسيين لحظة خروجهم فالحبوب التي تدسها لهم الحكومة في طعامهم هي حبوب تسلبهم أثمن ما قد يتملكه إنسان وهي سلامة العقل والفكر واستمرارية النسل..
يخرج سامي خجلاً من مدينته وجسرها، ومن كرامة الحرية التي سُجن لأجلها، فهو خان كل ذلك حين اعترف تحت التعذيب ليضمن إطلاق سراحه.
الغيمة التي أسقطها بهلوساته بعد خروجه هي الحرية وآاه كم كانت جميلة وفاتنة وممتعة لكنها سرعان ما تركته وحيداً مهملاً مزدرءاً من الناس ورحلت عنه، وذلك لأن الحرية لا نستحضرها بالأمل والأمنيات بل بالعمل والصدق والثبات..
وصل سامي لبيته ولمّا يعلم بعد أن فقد أيضا زوجته. كل ما شاهده أمام البيت هم صبية يلعبون ويمرحون ويتأملون السماء مشيرين إلى غيمة أخرى سقطت، فكثيرة هي الخيبات في هذا الوطن وطريق النصر لايزال بعيداً.
*سيريا مونيتور