قد يبدو من الأمور الحتمية أن تمرّ مسيرة أي إنسان عربي العاطفية بنزار قباني، شاعر الحب والمرأة والرومانسية، والثورة على ما كان تقليداً في زمنه.
في زمن نزار، كانت الكتابة عن حبيبة ماكرة ومثيرة أو حبيبة تحت “الدوش” أو على السرير، بمثابة مخاطرة حقيقية، ذلك أننا نتكلم عن منطقة خارجة من فلسفات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأطروحات الحب المثالي الذي لا يمكن أن يُنسى أو يضمحل، الحب الذي يتعذّب ويعذِب وتهزمه المسافة والوداعات التراجيدية.
أتى نزار ليصف نساءه الكثيرات بالقوة والعناد والعنفوان والحرية والشجاعة، ولقب حبيباته بـ”سيدتي”، رافعاً المرأة المقموعة والمهمّشة إلى مرتبة السيدة. وبذلك نمّط من حيث لا يدري العلاقة بين الجنسين إنما بشكل جديد، بحيث نقل صولجان السيادة من الرجل إلى المرأة، وبدا ذلك شهامةً وجرأة.
لذلك كنا نأخذ نفساً طويلاً من الثقة حين نقرأه أو نسمع قصائده مغنّاة، ونشعر بغرور جارف فيما نسمع قصيدة “يا مستبدة” مغناة بصوت الفنان العراقي كاظم الساهر، “أنت التي أسميتها تاج النساء إقسي على قلبي ومزّقيه لو أساء… يا مستبدّة”. إنها حالة غريبة تنتابنا ونحن نشعر بقوة السيطرة والاستبداد والقدرة على القسوة على رجلٍ متيّم مستسلم لمازوشيته برشاقة شعرية فاتنة. لكنّ الأمر يستغرق بضع سنوات من الوعي النسوي والاجتماعي لتكتشف أي امرأة أن ليس هذا هو المطلوب فعلاً، وليس المطلوب أن تنتقل المقصلة من يد الرجل إلى يد المرأة، لأن العلاقة ستبقى غير متكافئة في كل الأحوال، وستبقى علاقة جلاد وضحية، ذلك أن القوة تستوجب ضعفاً بالضرورة في هذا السياق.
قال نزار للنساء إنهن أقوى من الرجال، وإنهنّ قادرات، وتحمّل لأجل ذلك انتقادات لاذعة، إذ اعتُبر شعره خروجاً عن الأخلاق والأعراف العربية والإسلامية. شعره في الواقع كان خروجاً عن مفهوم الحب الممل الساذج، حيث لا شيء سوى الطوباوية والعذرية وبراءة الأطفال. إلا أن هذه المبارزة بين المرأة والرجل بين من هو الأقوى، لم تعد ما نريده حقاً، ولم نعد نشعر بأي نشوة حين يقال لنا إننا أقوى وأهم وأعظم. إنه زمن يجب أن ينتهي، وتقفل حلبة الحرب، لمصلحة العدالة والمساواة الحقوقية والاجتماعية والقانونية، بدل استنزاف طرف على حساب آخر وتدمير المزيد من النساء بحجة أنهنّ أردن الحرية.
ذهب نزار في مكان آخر إلى تنميط جديد ربما يعكس صراعه الداخلي، حين وصف المرأة بالرسولة ووصف زوجته بلقيس يوم توفيت بالقديسة، وفي ذلك تنميط جديد للنساء، ووصاية على صورتهنّ، وهو شكل آخر من الذكورية، التي يعبّر عنها نزار في مكان آخر، ناسفاً أطروحات حرية النساء بضربة واحدة، إذ ينصّب نفسه فارساً لهن جميعاً:
“لم يبق نهدٌ أسود أو أبيض… إلا وزرعت بأرضه راياتي
لم تبق زاوية بجسم جميلة… إلا ومرت فوقها عرباتي
فصلت من جلد النساء عباءة… وبنيتُ أهراماً من الحلمات”.
وهو خطاب يتناقض مع ما ورد في قصيدة أخرى حين يقول “ثوري على شرق السبايا… والتكايا… والبخور”، وكأنه يقول في المحصلة، ثوري على الرجال الآخرين، المهم أن تبقي في عداد نسائي- جارياتي.
وهو منطق لا شك تأثرت به مجتمعاتنا، ذلك أن نزار كان من أبرز الشعراء وأبرز الثائرين يومها وكان مثالاً لرجال ونساء اعتقدوا أنه رمز للرجل المختلف والمتعاطف مع المرأة. وليس التحرر منه ومن أفكاره بالأمر السهل، إذ ما زالت نظرياته في الحب والعلاقات تحكم كثيرين، على أساس أنها مرجع التقدمية والتحرر والثورة على السائد.
لا شك في أن نزار عكس في شعره وأفكاره المأساة التي عاشتها أخته لأنها لم تستطع الزواج بالرجل الذي أحبّته، فانتحرت أو قُتلت كما تقول بعض المصادر. من هنا ربما كانت دعوته للنساء إلى التحرر والتجاوز، وقد قال عن رحيلها، “قتلت نفسها بكل بساطة وبشاعرية منقطعة النظير لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها… صورة أختي وهي تموت من أجل الحب محفورة في لحمي”. إلا أن موت أخته بهذه الطريقة لم يكن كافياً من أجل تحرير قصيدة نزار تماماً من الخوف ومن محاولات تكبيل النساء بصور نمطية وأفكار متناقضة في أحيان كثيرة، فأتى ما كتبه نزار متأرجحاً بين تطرفات كثيرة، “فضاجعي/ من شئت أن تضاجعي…/ ومارسي الحب… على أرصفة الشوارع…” و “فلن تكوني امرأة/ إلا معي…”، في نهاية القصيدة، و”شكرا لكم… فحبيبتي قتلت/ وصار بوسعكم أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة/ وقصيدتي اغتيلت وهل من أمة في الأرض تغتال القصيدة؟… وسيعرف الأعراب يوماً أنهم قتلوا الرسولة”. في كل تلك التطرفات، بين المرأة التي تمارس الجنس في الشوارع وبين تلك التي ستبقى معلّقة في حبال رجل واحد، والمرأة الرسولة والقديسة… تخضع النساء للمزيد من الذكوريات الجديدة و”التقدّمية” والمدّعية، وللأسف ما زالت كثيرات ضحية القتل والانتحار والعنف والتكبيل… وليس للشاعرية أي علاقة بالأمر… إنها تراجيديا يا نزار…
(درج)