باريس حصاران ومجاعة 1870-1871وحصارات الأسد التي لم تتوقف منذ 11 عام

0

محمد زعل السلوم، شاعر وكاتب ومترجم سوري، صدر له أكثر من 18 كتاباً مطبوعاً بين الشعر والرواية والدراسات.

مجلة أوراق – العدد16

دراسات

وسط التوتر العام في أوروبا المتعلق بصعود بروسيا والولايات الألمانية، أعلنت فرنسا الحرب على بروسيا في 19 يوليو 1870. بعد استعدادات قصيرة، غزت القوات البروسية وحلفاؤها الألمان فرنسا في بداية أغسطس وتحول الصراع بسرعة إلى سلسلة من الهزائم الفرنسية. بعد شهر من بدء الغزو، استسلم الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث في سيدان. وفاجأت هذه الهزيمة الخاطفة الكثير من المراقبين في فرنسا، خاصة في باريس التي كانت تستعد لدفاعاتها ضد الجيش البروسي الذي يسير نحو العاصمة. بالكاد بعد عشرة أيام من استسلام الإمبراطور، قطعت الجيوش البروسية جميع خطوط السكك الحديدية التي تخدم المدينة. بعد يومين، كانت باريس محاصرة. كان لدى عدد قليل جداً من السكان الوقت للفرار، ومعظمهم من أغنى طبقات السكان. قدرت التقارير من ذلك الوقت أن 300 ألف شخص على الأكثر تمكنوا من الفرار، من إجمالي 1.9 مليون باريسي.

ثم بدأ عذاب طويل. واجه الباريسيون، الذين لم يكن لديهم الوقت الكافي للاستعداد، نقصاً في الطعام واضطروا إلى تحمل شتاء قاسٍ بشكل خاص. توضح المصادر المعاصرة الظروف المعيشية الصعبة للغاية التي سادت طوال هذه الفترة، منذ نوفمبر، أصبح من الصعب العثور على اللحوم. بدأ الجزارون في بيع الكلاب والقطط والغربان والعصافير. تم تنظيم سوق الفئران حتى أمام دار البلدية. ولعل الأمر الأكثر دلالة هو أن تكلفة المواد الغذائية الأساسية ارتفعت بشكل كبير، كما يتضح من التعليقات المعاصرة وعمل المؤرخين: في غضون ثلاثة أشهر تقريباً، بين نهاية سبتمبر ونهاية ديسمبر، تضاعف سعر اثنتي عشرة بيضة بمقدار 13 ضعف. وبينما ارتفع سعر حصة البطاطا عشرة أضعاف. ذكر هنريوت (1871) أن الباريسيين اصطفوا ليلاً ونهاراً للحصول على مواد غذائية أقل وحتى أقل تغذية، والتي لا تحتوي على طعام أكثر من الاسم. كما وصف ارتفاع معدل الوفيات بسبب الجدري والأمراض الأخرى، وعدم تدفئة المستشفيات ونقص الحليب للأطفال الصغار.

في نهاية شهر يناير، أُجبرت المدينة على الاستسلام وأبرمت هدنة تكرس هزيمة فرنسا في بداية مارس 1871. لكن رفع هذا الحصار لم يؤذن بانتهاء محاكمات باريس: كرد فعل على الهزيمة، الحركة الراديكالية للوكومونة سرعان ما دعت إلى ثورة، مما أدى إلى هجوم جديد ضد باريس، هذه المرة بقيادة قوات الحكومة الفرنسية المتمركزة في فرساي، والتي واصلت الحصار بمزيد من الضراوة بسبب طبقة العداء العميقة الكامنة وراء هذا الصراع الجديد. وكانت أقصر بكثير، حتى بلغ الحصار الجديد ذروته في الأسبوع الدموي سيئ السمعة، 21-28 مايو. كان نقص الغذاء خلال هذه الانتفاضة أقل خطورة على ما يبدو مما كان عليه أثناء الحصار البروسي: فلا روايات ذلك الوقت ولا المؤرخون تثير المجاعة أو الوفيات الزائدة المرتبطة بنقص الغذاء، ربما لأن التنقل كان أقل تقييداً بشكل صارم.

في خضم حربين استغرقتا ما يقرب من تسعة أشهر، تم إغلاق المدينة تماماً من منتصف سبتمبر 1870 حتى نهاية يناير 1871، قبل أن تُحاصر مرة أخرى من منتصف مارس إلى نهاية مايو 1871. تهمنا عدة جوانب هنا. أولاً، قصر الوقت الذي اضطر فيه السكان إلى الفرار قبل الحصار البروسي يخفف من تأثير الاختيار عن طريق الهجرات في السكان المحاصرين. ثانياً، نظراً لأن هذه المقاعد كانت محدودة في المكان والزمان، فإن عدد السكان المدروسين صغير جداً أيضاً، ولكن يمكن التعرف عليها بسهولة. أخيراً، سرعان ما أصبحت المجاعة الواسعة النطاق الناجمة عن الحصار الذي دام أربعة أشهر السبب الأول للوفاة، إن لم يكن بشكل مباشر على الأقل بسبب المرض الذي تسبب فيه. فيما تسببت الحرب نفسها في وقوع إصابات قليلة.

الجيد في الدراسات والأبحاث الفرنسية أنها تمكنت من إحصاء ضحايا الجوع خلال الحصارين ومقارنتها بالوفيات الطبيعية ومعدلاتها قبل وبعد الحصارين من خلال دوائر النفوس الباريسية، وبذات الوقت تمكنت من دراسة تأثيرات ذاك التجويع بعد الحصارين على المواليد وتطورهم وتأثيرات الصدمة والتروما على الباريسيين، ومعدل أعمارهم بعد تلك الحربين، وكيف تأثرت أطوال الذكور من خلال دفاتر الخدمة العسكرية للأطفال الذين ولدوا خلال الحصار ومدى أعمارهم وتاريخهم الصحي، لكن هذا لم يحصل حتى اليوم بالمقابل في سوريا حيث عمد النظام السوري منذ 2011، بداية الثورة السورية بسياسة الحصار والتجويع كسلاح حرب، فمن منا ينسا حصار مدينة درعا وبيان الحليب لإنقاذ الأطفال، وعمل النظام على خلق تقسيمات مسامية على طول الجغرافية السورية وعرضها، عبر حصار جيوب الثورة في العاصمة دمشق ومحيطها من المنطقة الجنوبية للغوطتين الشرقية والغربية.

تعرض السوريين إن لم نقل جميعهم فمعظمهم لحالات متنوعة من الحصار والتجويع وآخرها حصار مخيم درعا 2021، ومن ينسى حصار حلب الكبير عام 2014، حتى تدميرها والسيطرة عليها عام 2016، وحصار حي الوعر وغيرها من أحياء حمص، ومخيم اليرموك والحجر الأسود ولعدة أعوام، فضلاً عن داريا والمعضمية. والكثير الكثير من المدن والبلدات والقرى السورية، وحتى التحالف الدولي ضد داعش استخدم استراتيجية الحصار والتجويع كما في الباغوز وارتكب بحق المدنيين الأبرياء مجازر عدا ضحايا التجويع، عدا الحصارات التي نفذها حتى الجيش الحر بالريف الغربي لدرعا استهدفت القرى الستة التي كانت داعش تسيطر عليها.

ينقص السجلات السورية الكثير من الإحصاءات على الأسلوب الفرنسي لمعرفة حجم الكارثة الناجمة عن أساليب الحصار، فمن منا ينسى كيف اضطر أبناء المنطقة الجنوبية من دمشق في اليرموك والحجر الأسود ويلدا وببيلا وصولا لبيت سحم، كيف اضطروا لأكل أوراق الشجر والقطط والكلاب ومن ينسى مآسي حصار الغوطة الذي امتد لأعوام طويلة، أعتقد دراسة هذه الحالات تحتاج للكثير من الدقة والمتابعة والتوثيق. في بلد قتل فيه نظام الأسد ما لا يقل عن مليون سوري مستخدماً كافة وسائل القتل بما فيه سلاح الحصار والتجويع.