علاء الدين حسو، كاتب وقاص وإعلامي سوري، مقيم في غازي عنتاب.
أوراق 19- 20
القصة
1
أنعشتني نسمة شهر تشرين الأول، وأنا المتزنّر بجعبة الرصاص، كلُّ جيب من الجعبة يتسع لمخزن من ثلاثين جثة. كلُّ طلقةٍ تعني جثة. ولكنّه شهر تشرين الأول، بدايةُ موسم قطاف الزيتون، وما أجمل هذا الطقس في حلب، كلّ دفقة من النسمة الباردة تُذكّرني بها، يوم كنت أرها تقفز كالفراش بين أغصان الزيتون، نشاركها القطاف.
بات النهر الذي هُجّن بفرع من نهر الفرات، والذي يخترق حلب من شمالها باتجاه جنوبها، فاصلاً حدودياً بين شرق المدينة وغربها، بين الثائرين والموالين، بين فقراء الحرية والكرامة وأغنياء الجشع والطمع والتسلط. ينشط الذاهبون إلى الغرب صباحاً ويزداد عدد القادمون إلى الشرق مساءً، حين يبسط الليل جناحيه، تتوقف الحركة، وتبدأ لعبة التسلل والترقب على الثغور.
بات النهر مقطّعاً بمعابر، لكل معبر اسم، أطلقت على معبري اسم بارليف الشمالي، أنا اليوم سيّدُ هذا المعبر، الآمرُ الناهي، اقتلُ من أشاء وأنقذ من أشاء، إنها لعبة الألوهية. بدأت أفهم فرعون والملوك والأباطرة، متعة تملك الحياة لا تقارن ولا توصف ولا تشرح، تحتاج إلى التذوق.
أتذكر العمَّ نعسان والد سحر، يوم ذهابنا لقطاف الزيتون في بستانه القريب من مدينة عفرين، صادفت مناسبة تشرين، فحدثنا عن الساتر الترابي المعروف باسم خط بارليف نسبة إلى “حاييم بارليف” القائد العسكري الإسرائيلي الذي تولى قيادة سلاح المدرعات أثناء العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، وتكلف بناء الخط الدفاعى حوالي نصف مليار دولار.
حدثنا كيف هزمت الهندسة المصرية هذا الخط، شرح لنا كيف طرح المهندس المصري، اللواء باقي ذكي يوسف، فكرة استخدام مضخات المياه لفتح ثغرات في خط بارليف، والتي سُجلت كبراءة اختراع، وأصبحت تُدرس في الكليات والمعاهد العسكرية على مستوى العالم، كيف تم تنفيذ الخطة، كيف صُعقت إسرائيل.
ذلك اليوم قررت أن أصبح مهندساً مكيانيكاً، شجعني العم نعسان وقتها، كان مشغولاً بكتابة كتابه عن قرى الشمال السوري، بينما كنا (شلة) الثانوي نُشارك سحر وأهلها قطاف الزيتون. كان من الشلة أخوها خليل الذي غرق في البحر أثناء محاولته اللجوء إلى أوربا عبر تركيا، وحسام الذي بات اليوم على رأس مجموعة تقمع الثائرين.
كان العم نعسان والد سحر وخليل مدرساً للجغرافيا، كان شيوعياً في شبابه، اعتزل العمل السياسي مبكراً، وكنا نسعد بحديثه الجميل عن التاريخ والسياسة، وعن كفاحه. مات قبل سنوات، لا أعتقد إنه أتم كتابه عن قرى الشمال، مثلما لم يقدر أحد منا على إتمام تعليمه، هناك من فشل في الحصول على الشهادة الثانوية، وهناك من نجح بدرجة لم تمكنه الدخول في أي فرع من فروع الجامعة، ما عدا خليل الذي درس الاقتصاد، وسحر التي تصغرنا بعامين التحقت بمعهد المعلمين.
كنت في مكتبي القريب من المعبر حين رأيتها، كانت وحيدة تتقدم بخطوات بطيئة تمسك بيد طفل في السابعة. كانت تعليماتي للعناصر واضحة. لا مخلوق يمر بعد صلاة المغرب. وكان آذان المغرب قد مضى عليه عشرون دقيقة حين اقترب مني مساعدي وقال:
– (معليم) هناك سيدة ومعها طفل تدّعي معرفتك.
حين خرجت عرفتها.
أعرفُ (سحر) ولو من بين ألف امرأة. لو كانت متدثرة بمئة غطاء، هو الحبُّ الذي لا سلطانَ لك عليه، يقلبُّك كيفما يشاء، أنت الذليلُ وإن كنت سلطان عصرك، وأنت المكرّمُ وإن كنت تحت سيف جلادك، ثمانية أعوام مضت، لم أنس صورتها، نفسها، ضحكتها، مشيتها. كانت تدنو مني وتدلّل، تطلب فألبي سعيداً ولو على دمي، لم أنسَ يوم طلبت مني التبرع بدمي لأخيها، يومها كنت سأقدم كلّ دمي بفخر واعتزاز.
كانت تقف على الطرف الآخر، تمسك بالطفل بيدها اليمني وتحمل حقيبة بيدها اليسرى.
سألته ماذا تريد، التفت إليّ وقال:
– لا نعرف، قلنا لها ممنوع العبور فقالت أريد معلمك.
في حالات الحربّ تفقد كل المشاعر، تنقلب كل المعارف، لا تثق حتى بالسلاح الذي بين يديك لا تعرف متى يخيب ظنك، تستعصي رصاصة فتكون القتيل بدل القاتل. إنها معركة لا خيار لنا فيها، ولا مجال لك الا الخيار، الهرب أو القتال أو الاستلام لا خيار رابع، قلت لمساعدي:
– حسنا دعها تعبر، وأرسل معها بعض الشباب حتى تصل بيتها.
كنت أعلم أنّه لا سرافيس بعد المغرب. تنسحب الناس الي بيوتها أو مخابئها، تنتظر الصباح أو الموت، كان الليل أشد وطأة من النهار، أصوات المدافع كالعقرب لا تعرف متى تلسعك، في النهار ترى الطائرات تعرف على الأقل مكان تدميرها. هرول مساعدي إلى نقطة العبور وتحدث معها ثم عاد مسرعاً وقال وبلهجة فيها خبث:
– (معليم)، قالت تريد رؤيتك.
الحب، لا يموت ولا ينام، كالطنين المستمر يبقى في رأسك، تحاول تجاهله بالموسيقى أو الضجيج، وما أن يسود السكون يظهر ويعكر صفوك. لم أجرؤ على تجاهلها، شعرت بسطوتها كربّ العمل، مهما علا شأنك، فأنت تقف أمامه متلعثماً، ثمة صوت خفي يدفعني أن أجرّجرها، أجردها من ملابسها واتركها للعناصر الجائعة، كم كنت أحلم ذات يوم أن أفعل بها ذلك حين قررت التخلي عني، والزواج من حسام، هي اختارت حسام، مع أن والدها رفض حسام، وكذلك خليل أخوها الذي يربطني معه دمي الذي قدمته له ذات يوم.
كانت سحر تشاركنا النقاشات، تعزف على العود وتغني مع أخيها خليل، حفلات رأس السنة كان لها مذاق خاص في بيتهم، لكنها اختارت حسام، كانا أكثرنا جدالاً ونقاشاً، وكثيراً ما انتزعت الجلسة الأسبوعية بسبب صدامهما، وكان أثر صاعقة ارتباطها به كبير جداً.
لم نكن نصدق، حسام الذي قرر ترك الشلة فجأة بعد آخر اعتقال للعم نعسان. مسكين العم نعسان، لقد اعتزل الكلام وتفرغ للكتابة بعد خروجه من المعتقل، وذلك بعد سبعة أيام من انتفاضة آذار 2004، كنا مع خليل وأحمد الذي انضم إلينا نتحدث عن ضرورة الهجرة إلى مكان يحترم الإنسانية.
الخبر الصاعق كان في ربيع 2005، اجتمعنا مرة أخرى في بيت العم نعسان كما كنا من قبل، كنا سعداء ثمة تغير سيحدث، بلادنا ستكون أجمل، ولكن العم نعسان كان صامتاً، وحين أردنا التحرش به، سألناه عن كتابه أين وصل؟ ابتسم وقال “عفرين وحدها ثلاثمئة وخمسين قرية، كل قرية حكاية، تحتاج إلى كتاب، ما بالك الشمال السوري؟”.
كان خليل قلقاً أيضاً. وكان أحمد وجميل الذي التحق بنا مستغربان من سحر. في آخر جلسة – توقفنا بعدها – كنا نرقب سحر، سحر التي دخلت بشكل آخر. سلمت باقتضاب ثم قالت” اعتذر منكم لتأخري ويعتذر حسام عن الحضور”. بُغتنا، حين سمعنا اسم حسام الذي ترك الحي وانتقل إلى غرب المدينة، سألتها: “حسام الذي نعرفه؟” ابتسمت وهي تشير إلى الخاتم في يدها:
– نعم، كن حذراً هو خطيبي، وسنتزوج بعد أسبوعين.
كلهم يعرفون طبعي، لا أغضب بسرعة، ولكن إن غضبت لا أهدأ بسرعة، لكن ذلك اليوم كان التحول الأكبر في حياتي، تحولت لبركان، صفعتها وخرجت من المنزل دون رجعة، ثمانية أعوام مضت، سمعت وفاة والدها بعد عامين، لم أحضر الدفن ولا العزاء، قاطعت كلّ صديق كان يذكرنا بهم، حتى خليل دمي الذي يسري في شرايينه لم أعد أكلمه، كان خبر زواجها قنبلة مزقت قلبي.
مع هبوط الليل، تنقلب المدنية إلى وكر عقارب، وتبدأ مدافع النظام تلسع، فأمرت مساعدي:
– دعها تدخل غرفة المراقبة وسأحضر بعد قليل.
كانت غرفة المراقبة أكثر الغرف تحصينًا، راقبت مساعدي يخبرها، ثم يساعدهما في اجتياز النهر عبر كاشف الهاتف، ما أصعب فتح جرح التئم، ابتسمت رغم الألم، كانت تدوس على بضع حجرات رصفت عرض المعبر كأنها قنابل أرضية، كان الطفل أكثر رشاقة، ولكن خطواتها كما هي، كأنّها سحر ابنة السادسة عشرة لا الثلاثين.
2
عدت إلى مكتبي، كانت غرفة حراسة في مصنع قديم تم قلعها وجلبها إلى هنا، تحوي الغرفة طاولةً وكرسياً وسريراً حجرياً، جلست على الكرسيّ، لا أعرف ماذا أفعل. هي الآن في غرفة المراقبة، تنتظرني، معها طفل في السابعة وحقيبة، نظرت إلى سريري الذي ارتاح فيه لساعات أو دقائق، نعم أكثر من مرّة فكرت فيها، أتذكر تلك الليلة التشرينية، يوم قطاف الزيتون، كيف جلسنا معاً في غرفة طينية، سحر وخليل والعم نعسان وزوجته عدلة وحسام. كيف الكلّ نام وبقيت انتظر سحر التي أومأت لي ألا أنام، كيف انسحبت من مكاني وتبعتها لخارج الغرفة الوحيدة، جلسنا تحت شجرة كبيرة، قبلتني فلم أعد أشعر ببرودة الطقس، لم أشعر بالكون، كنت متحداً معها، كانت دقائق ساخنة كحبات الزيتون المطعمة بدبس الرمان، كان نهداها كرمانتين لم ينضجا بعد.
دخل مساعدي بأدب وسأل “هل أجلبها إلى هنا؟” عبست في وجهه ونهضت متجهاً نحو غرفة المراقبة، ندم مساعدي لا شك، كلمة جلب جارحة، هو معذور، لا يعرف تاريخنا، نحن لا نعرف تاريخ بعضنا البعض، لا وقت لذلك، جمعتنا الحربّ ووحدة الهدف، في الحربّ الأولويات تختلف، تختلف القواعد، الأوامر تكون أشد صرامة وأكثر دقة.
حين دخلت غرفة المراقبة، كان عنصران يحاوران الطفل، كان يجيب بحرارة، وكانت تراقبهم بخوف مغطى بالفرح، لم أر في عيني سحر (سحر) التي أعرفها، نهضت مع نهوض العنصريين، خاف الطفل، ابتسمت في وجه الطفل الذي حضن أمه وأغمض عينيه.
حزّ في نفسي المشهد، كان الأطفال يبتسمون حين رؤيتي، اليوم يخافون، إلى هذه الدرجة تغيّرنا، الحربّ تغيّر النفوس والأشكال، تُكبّر الإنسان، تُغيّر شكله. أغلب الذين أعرفهم فقدوا الكثير من أوزانهم، أسودّت وانتفخت جيوب عيونهم، شحبت وجوههم.
كانت أنيقة كعادتها، فقط وضعت غطاء على رأسها، وبعض الخصلات المتملصة من الغطاء يدل على تمردها، راقبت يدها لم أجد خاتم الزواج، كان الخاتم الفضي المطعم بالياقوت يزين سبباتها، كانت هديتي لها قبل اسبوع من اعتقال والدها، لا زالت تحتفظ به إذا، جلست على كرسي حديدي قريب منها، كانت العيون الأربعة تتكلم، قالت:
– أريدك أن توصلني إلى تركيا.
– مملكتي هنا. حدودي لا تتجاوز المعبر.
– تقصد بارليف الشمالي؟
– نعم بارليف الشمالي.
كانت تقول لي أنها تفهم لماذا أطلقت على معبري بارليف، وكانت تحاول أن لا تظهر أنها ما زالت تحبني.
نظرتُ إلى الطفل الذي احتضنها ثم سألتها:
– ابنه؟
– بل ابننا؟ لهذا جئت إليك.
العنصران تتطلعا فينا، ثم استعدا للخروج فأوقفتهما وسألتها:
– من تقصدين؟
– إنه نعسان، ابني قبل أن يكون ابنه.
هنا سمحت للعنصرين بالخروج، ثم همست:
– لو يعرفوا من أنت لما خرجت حية، لماذا أتيت؟ وهل يعلم ما تقومين به؟
داعبت الطفل ثم قالت:
– لا يعلم. ربما عرف الآن، لقد هربت، إنه طفلي، لا أريد له الحياة هنا، أنت تعرفني.
تحاشيت النظر وقلت وأنا أراقب الطرف الآخر للنهر:
– كنت أعرفك قبل الزواج منه.
– كنت مجبرة، كان عليّ دين.
التفت إليها، وجدتها مستعدة للمواجهة، قوية كعادتها رغم ما هي فيه:
– أي دين؟
– هو من أخرج والدي من المعتقل، والثمن هو الزواج.
طبع حسام الوصولية. استفاد في فترة التسيعنات موجة قدوم مواطنو الجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي بعد انهياره للتجارة، وكان له أصدقاء كثر من الأمن والمخابرات، استطاع خلال فترة قصيرة من بناء شبكة علاقات مكنته دخول عالم العقارات، وبات من أعيان المدينة الجدد، إلى أن بدأت الثورة فتحول إلى أشد القامعين للحراك الثوري.
رجعتني مداعبة أناملها لرأس الصبي إلى جلساتنا الخاصة في منزل والدها يوم مرض خليل واحتاج لدم وكانت زمرتي من زمرته أو سلبي.
– كيف عرفت أني هنا؟
– أخبرني خليل قبل أن نفقده.
– خليل؟ لم أره.
– أحمد أخبره. التقيا في استنبول، أحمد نجا هو في ألمانيا الآن.
– وهل يعرف حسام ذلك.
– نعم يعرف أنك الآن مسئول عن هذا المعبر، لذلك عليك الإسراع في تأمين مكان لي، وإيصالي إلى تركيا.
– ولماذا لا تذهبين إلى عفرين؟
توقفت عن مداعبة رأس الصغير الذي غفى:
– عفرين لم تعد لنا هي بيد رجال قنديل.
اقتحم مساعدي الغرفة لاهثا وقال:
– (معليم) في تحركات نحونا.
تشبثت سحر بالطفل الذي استفاق من غفوته:
– أرجوك لا شك هو، أنقذني منه.
كان معبري مدعوماً فهو أهم معبر وآخر معبر شمالي المدينة، كان عدد الثوار يتضاعف ليلاً. ولكن هذه المرة كنت أكثر قلقاً.
طلبت من عنصرين مرافقة سحر وابنها إلى بيتي السري القريب من هنا، وكانت ثمة منازل عشوائية فتحت على بعضها البعض كطريق سري، ينتهي إلى شارع فرعي حيث بيتي.
رفضت سحر. قالت بأنها لن تتحرك خطوة من دوني، لكني كنت حازماً فقلت:
– بل ستذهبين إلى بيتي اليوم.
أمسكت سحر بالطفل وحمل العنصر حقيبتها واتجهوا نحو الطريق المؤدي الي بيتي.
3
كانت التحركات مثيرة في الجهة المقابلة، لم أعتد عليها منذ فتح هذا المعبر، طلبت من مساعدي طلب تعزيزات. وبعد أن اتصل، أخبرني بمجيئ أبي الليل.
نادراً ما يأتي (أبو الليل)، بل لا يأتي، وإنما يرسل عناصره، فهو مشغول مع القيادات العليا هو ضابط الارتباط، حضوره يدل على خطورة الأمر، دقائق معدودة وحضر أبو الليل، كان كما هو، لحية طويلة، لباس أسود، ولولا لمعة أسنانه السليمة البيضاء لكان متحداً مع الليل، لهذا هو أبو الليل، وكان هذا لقبه منذ مراهقته لسواد بشرته. وكثيراً ما كنا نقول عنه (جميل) الأسود. كان آخر من التحق بشلتنا، وأول من التحق بالثورة، ومن السباقين لرفع السلاح دفاعاً عن منطقتنا. كان أكثرنا حماساً للتغيّر بالسلاح. كان مهندس التفجيرات الليلة في محلات الشبيحة في منطقتنا.
لمعت أسنانه حين وصل، ضحكته مرعبة، اقترب وصافحني كمن يعزي صديق، سألته عن سبب قدومه، مستفسراً عن وضع أهلي، هز رأسه نافياً، وسأل العناصر إن كانت هناك إشارات تدل على الهجوم؟ فأشاروا بالنفي ولكن التحركات اليوم أكثر من السابق.
مسد ذقنه ثم أمسك بذراعي آمرا العناصر:
– انتبهوا الشيطان ينام والعدو لا ينام.
قادني جميل الذي كان أصغر الشلة إلى مكتبي، في الحرب القيادة للأقوى ومن غير الشباب، هو الذي عيني قائداً لهذه النقطة. كنا (شلة) شهادة الثانوي، لم يتقدم أحد منا للجامعة كما ذكرت، انشغلنا في أمور أخرى، كان لكل واحد منا مهنة يكسب منها، وكان أبو الليل يملك مصنعاً يدوياً لصناعة البطاريات، كان مؤمناً بالفكر اليساري، تخلى عن ذلك مع انهيار جدران برلين. انقطع عن جلساتنا وتحول إلى جماعة صوفية، إلى أن بدأت الثورة. كان يمقت الظلم ويكره المخابرات، أذكر مرّة كيف سحق رجل ادعى أنه عنصر مخابرات في حارتنا ورغب التعدي على ابنة أرملة سمعتها لم تكن جيدة، كان زعيم حارتنا، كل من يدخل الحي يعرف من هو أبي الليل، وهو اليوم سيد منطقة.
دخلنا المكتب، كان من عادته إرسال قوائم المطلوبين، كنا نقبض عليهم ونسلمهم له، سألته هل من قوائم جديدة؟ نفى ثم جلس على السرير وطلب مني الجلوس قربه ثم قال:
– اتصل بي.
– من؟
أخرج سيجارة وأشعلها ثم قدمها لي مبتسماً:
– أبو المجد، كل شلة الثانوي تعرف حكايتكما، لو سألت أي ساكن في الحارة سيقول لك: عبد المجيد يذوب عشقاً بسحر، وأنه لم يتزوج وإن وصل الثالثة والثلاثين لأنه يعشق سحر.
غببت نفساً عميقاً من السيجارة، وأصغيت له، فعلمت بأن حسام حصل على رقم أبي الليل من أحمد، وأنه على علم بتحركاتنا، وهناك من يوصل له الأخبار، ومن ثم سألني عن سحر، فأخبرته ما حصل، سألني:
– ماذا نويت؟
– ماذا تريد مني أن أفعل؟ طبعاً لن أردها .. من الطبيعي تلبية طلبها.
كان يتصبر، لا بد أنه اتخذ قرارا وسينفذه، ولكن الرابط الذي بيننا جعله في هذا الوضع فقال:
– أبو المجد، حسام يطلب اعادتها، وإلا سيتحول الضغط إلى هنا؟
– مستحيل ولو على دمي؟
هنا نفذ صبره، وارتد إلى وضعه القائد وقال بلهجة بآمرة:
– لقد طلبت من العناصر احضارها من بيتك وسأرسلها فوراً إليه، لا يهمني وضعها، يهمني ما نحن فيه، قضيتنا أكبر من قضيتك الشخصية، وهذا المعبر يسمح لآلاف الناس الهروب من جحيم النظام وشبيحته، لا نريد أن تسقط بوادبست بارليفك الشمالي ونحرمهم.
– هل نسيت ليلة النفعية؟
كان سؤالاً مباغتاً بكل تأكيد، جلس على حافة الكرسي، أطرق قليلا ثم أخرج علبة التبغ وأشعل سيجارة وبدأ يعب من دخانها بأسلوبه المعروف حين يفكر في أمر هام، يسحب عدة سحبات دفعة واحدة، يبلع نصفها ثم يخرج الباقي من منخريه.
ليلة النفعية هي الليالي الشهيرة التي شهدت نقاشا طويلاً بين أفراد الشلة، كان حسام يؤكد بأن عصر اليوم هو عصر الفلسفة الأمريكية، وأن النفعية هي المحرك اليوم.
نهض دون أن ينظر إلي آمراً:
– غداً احمل ما ترغب واختر موقعاً آخر.