بسبب «كورونا» تأخرت عن معرض مثير ينظمه متحف الهجرة في باريس: «بيكاسو هذا الغريب». ما علاقة الرسام الشهير بالهجرة والمهاجرين؟ الجواب بسيط: عاش ثلاثة أرباع القرن في فرنسا يرسم وينحت بدون أن يفلح في الحصول على جنسيتها. جاء إليها في العام الأول من القرن الماضي وكان في العشرين. ومات عام 1978 عن 91 عاماً، إسباني مثلما جاء.
في ربيع 1940، وبكثير من التكتم، سعى بيكاسو لأن يصبح فرنسياً. كانت الحرب العالمية في بداياتها. خشي أن يبعدوه إلى إسبانيا بسبب التقارب ما بين الألمان ونظام الجنرال فرانكو الحاكم في مدريد. كتب خطاباً إلى وزير العدل ألبير سيرول جاء فيه: «أتشرف بطلب تجنيسي وألتزم بتسديد ما يترتب عليّ من حقوق الختم». ومرت الأشهر ولم يتلق جواباً. والسكوت عند الفرنسيين ليس من الرضى بل يعني الرفض.
كانت دوائر الشرطة الباريسية تعرف بيكاسو من قبل أن يصبح شهيراً. فقد راقبه مخبروها منذ حلوله في المدينة ضيفاً على تاجر لوحات من بلدياته يدعى بيير ماناش. وبما أن ماناش كان من جماعة الفوضويين فقد انسحبت الصفة على ضيفه الشاب.
لمع اسمه وأقبل هواة الفن على اقتناء أعماله. دفع في عام 1939 أكثر من 685 ألف فرنك للضرائب، أي ما يزيد على ربع مليون يورو بحساب هذه الأيام. لكن التقارير بقيت تلاحقه حتى تراكم لدى الشرطة ملف ضخم يحمل اسم بيكاسو. وكانت بوابة العمارة أنشط الجواسيس. وعندما احتل الألمان باريس نقلوا ملف بيكاسو إلى عاصمتهم. خسر هتلر الحرب واجتاح الجيش الأحمر برلين واستولى على الملف. وبعد نصف قرن عاود الملف الظهور في أرشيف المخابرات السوفياتية. وكان لا بد من مفاوضات طويلة بين باريس وموسكو لاستعادته. عاد في شتاء 2000 وأودع ضمن وثائق وزارة الداخلية.
قبل عشر سنوات، تمكن أحد محرري صحيفة «الإكسبرس» من الاطلاع على الملف. ذهل وهو يكتشف كيف كان المخبرون يتابعون الفنان في كل تحركاته ويحصون أنفاسه. نقلوا ما كان يتفوه به. أدرجوا عناوين أكثر من عشرين منزلاً عاش فيها، منها المبنى الذي ما زال قائماً في الحي اللاتيني، 7 شارع «غراند أوغستان» حيث رسم لوحته «غيرنيكا». كتبوا أنه يتلقى زيارات من أشخاص مجهولين. يخرج ليلاً ويعود متأخراً. تصله صحف ذات عناوين غير مفهومة. تضمنت التقارير شكل معطفه وقبعته ولون بشرته وشعره الأسود وشاربه المائل إلى الشقرة. وأخطأ المخبرون في تقدير طول قامته. كتبوا: 1.60 سنتمتراً وكان أقصر بثمانية سنتمترات.
زادت المراقبة بعدما تعرف بيكاسو في روما على راقصة باليه روسية تدعى أولغا خوخلوفا. ولما أراد الزواج منها أخضعوه لتحقيق خاص لدى دائرة شؤون الأجانب. وفي 12 يوليو (تموز) 1918 تم الزواج في مبنى البلدية ثم في الكنيسة الأرثوذكسية في شارع «دارو». وكتب العريس، للمرة الأولى، اسمه الكامل في العقد: بول دياغو جوزيف فرنسوا جان نيبوموسين كريبان رويز بيكاسو. وكان شهود العقد جان كوكتو وماكس جاكوب وأبولينير.
بقي أهم فناني القرن العشرين يعيش في فرنسا ببطاقة إقامة يجددها كل خمس سنوات. واستمر ملفه في التضخم، لا سيما بعد انضمامه للحزب الشيوعي ونشاطه في الحركة العالمية لليسار. لكنه لم يتطرق مطلقاً لموضوع طلبه الجنسية ولم يكرره واعتبر الرفض مشيناً. كان قد عقد العزم ألا يعود إلى موطنه إلا بعد موت فرانكو. ويشاء القدر أن ينطفئ بيكاسو في منزله بجنوب فرنسا قبل سنتين من رحيل الجنرال.
*الشرق الأوسط