انطوان جوكي: ياسمينة خضرا يسترجع تاريخ الجزائر بعين بصيرة 

0

منذ مجموعته القصصية الأولى، “آمين” (1973)، ما برح الكاتب الجزائري الفرانكفوني ياسمينة خضرا (واسمه الحقيقي محمد مولسهول) يشيد صرحه الأدبي بموهبة ونشاط نادرين يشهد عليهما عدد أعماله الروائية والقصصية الذي تجاوز الـ30. أعمال حصدت جوائز عريقة كثيرة في الغرب، واقتبست منها أفلام عديدة، لكن قيمتها الأدبية الأكيدة لا تفسر وحدها كل هذا الاهتمام الذي تحظى به. فثمة عامل آخر، في نظرنا، يؤازر هذه القيمة ويعززها، وربما يتفوق عليها في الأهمية، ونقصد تلك الإنسانية المؤثرة التي تسقي جميع نصوص هذا الكاتب وتجعل من كل منها أمثولة حب وحياة، زمننا في أمس الحاجة إليها.

أمثولة خضراء الجديدة نتلقاها في روايته الجديدة، “الأبرار” (دار “ميالي بارو”)، عن طريق شخصيتها الرئيسة وراويها، ياسين، الذي يسرد لنا كيف ولماذا وجد نفسه يوماً في خنادق الحرب العالمية الأولى، وكيف أفلت بجلده منها ليقع في مصائب أكبر لدى عودته إلى وطنه، واجهها، واحدة تلو الأخرى، مسلحاً فقط بإنسانيته التي لا تتزعزع، وبقناعة يلخصها قول الشاعر عمر الخيام التالي: “إذا أردت أن تسلك طريق السلام الدائم، فابتسم للقدر إن بطش بك، ولا تبطش بأحد”.

أجساد وأرواح

ياسين راع فقير من جنوب الجزائر استدعاه مطلع عام 1914 قائد المقاطعة التي يعيش فيها وعرض عليه صفقة مروعة: الذهاب إلى الحرب تحت اسم ابنه، مقابل وعد منه بتقديم مزرعة لعائلته وتوفير الحماية لها. ولأن هذا الرجل “كان يملك أجسادنا ويسكن أرواحنا”، يقبل ياسين الصفقة ويمضي سنوات أربع على جبهة فردان حيث رمي بفوجه الذي كان يتألف حصراً من جزائريين. معمودية دم يختبر خلالها أعنف وأقبح ما في الإنسان، وفي الوقت نفسه، أخوة السلاح التي لا يقوى على لحمتها الموت ولا الزمن. وهو ما يفسر تقاطع مساره في ما بعد مع مسار بعض “إخوته”، أحياناً بطرق غير متوقعة.

thumbnail_Couverture du livre.jpg

رواية “الأبرار” بالفرنسية (دار ميالي بارو)

في نهاية الحرب، أي حرب، لا يطمح الناجون من جحيمها سوى إلى “حزم أمتعتهم وصدماتهم وأشباحهم” وتركها خلفهم، لكن هذا لن يكون من نصيب ياسين. فحين يعود إلى دياره، يجد أن القائد الذي لا يعرف سوى الخداع والخيانة والاستعباد، لم يف بوعده له، وبدلاً من عائلة سعيدة وهنيئة في حياتها، كانت تنتظره صدمة تواري زوجته وطفليه عن الأنظار، ونية القائد في التخلص منه، فيفر من القرية ويهيم على وجهه، آملاً أن تقوده خطواته الضائعة إلى الاجتماع مجدداً بأسرته.

ولحسن حظه، يضعه تيهه على درب أخيه في السلاح، سيد، الذي يساعده على استعادة بعض من توازنه وما يشبه الحياة الطبيعية، لكن ما إن يبدأ في الأمل بأفق جديد ممكن له، يجبر على الفرار مجدداً واستئناف تيهه. ويشاء القدر أن يلتقي هذه المرة بأخيه الآخر في السلاح، زورق، الذي كان قد صار قائداً حربياً يقود معارك دموية ضد المستعمرين في منطقته. فصل عنيف يتورط ياسين فيه ضد إرادته، لكنه يختبر خلاله أكبر قدر من السعادة، إثر لقائه وزواجه من الشابة مريم التي ستعرف كيف تواسيه من ألم من فقدهم.

وبعد فترة هناء قصيرة مع “وردة الصحراء الرقيقة” هذه والابن الذي سيولد من علاقتهما، يبطش قدره مجدداً به. فبينما كان يظن أنه “تحمل كل مصائبه بورع وبات يستحق جائزة ترضية”، يجد نفسه مرة أخرى من جهة الجانب المعتم للجنس البشري، فيضطر إلى المكافحة سنين عديدة للخروج من الجحيم الذي هوى داخله. محنة ينقذه منها عناده في ملاحقة أشباح أحبائه المفقودين، وسلوكه الذي تتحكم به الاستقامة والصدق والشجاعة، وخصوصاً عدم استسلامه للتشاؤم، حتى حين كان كل شيء في حياته يدعو إلى ذلك.

لعبة الاستعمار

وتجدر الإشارة هنا إلى أن القصة التي يسردها خضراء في هذه الرواية، وإن كانت أحداثها تدور خلال زمن استعمار فرنسا للجزائر، فإن الشخصيات التي تهيمن عليها جزائرية، والمجتمع الجزائري هو الذي يتم تفحصه فيها بالعدسة المكبرة. مجتمع يبدو ممزقاً بين خاضعين للاستعمار ومستفيدين منه ومتمردين عليه، وبين أثرياء وبؤساء. ومع أن الفرنسيين يحضرون في فصولها المرصودة لأهوال الحرب العالمية الأولى كضباط يتحكمون بالجنود الجزائريين، ما يكشف الجور والاحتقار اللذين عومل بهما هؤلاء الأخيرون خلالها، وأيضاً في صفحاتها المرصودة لإقامة ياسين في السجن بضع سنوات، لكن خضراء يتقصد تغييبهم لسرد قصة جزائرية صرف في سياق استعماري.

ولإنجاز ذلك، يبتكر حول شخصيته الرئيسة شخصيات ثانوية عديدة تضارعها في مدى تعقيدها، وتشكل إما مرجعاً مسارياً لها، أو عقبة يتوجب تجاوزها أو شخصية مرشدة تسدد خطاها وتساعدها على السير إلى الأمام، وفي مقدمتها: صديق ياسين الوفي، سيد، الذي يحضر كشاب يرغب في الاستفادة من معجزة نجاته من خنادق الموت للانتشاء بملذات الحياة، وزورق الذي تدفعه مشاعر الغضب والكراهية داخله إلى شن حرب شعواء على المستوطنين الأجانب في وطنه بعد عودته من فردان، فيصبح “زورق الأحمر”، وقريبة ياسين، الشابة عبلى، التي تفتننا بضراوتها ووفائها لعائلتها.

لكن قيمة هذه الرواية الضخمة (523 صفحة) لا تقتصر على ثرائها بالشخصيات الغنية بالألوان والمجسدة بقوة، بل تكمن أيضاً في نقاط أخرى كثيرة، لعل أبرزها البراعة اللافتة في تشييد صرحها المعقد. تشييد يقوم على استثمار خضراء الثابت الفصول المرصودة لجحيم الحرب العالمية الأولى، بغية نسج تشعبات لا تحصى منها وتطعيم القدر المأساوي لبطله باللقاءات والمغامرات. فصول لم تفاجئنا مقارنة أحد النقاد الفرنسيين قوتها الإيحائية بما كتبه رولان دورجليه وموريس جونوفوا عن الحرب المذكورة، فلغة خضراء المدهشة في جمالياتها وقدراتها التعبيرية تشكل في هذه الرواية خير أداة لتأجيج مشاعر قارئها وتعزيز الاندفاع الوجداني الذي يستحوذ عليه على طول نصها.

ألبير كامو

تكمن أيضاً قيمة “الأبرار” في المآل الذي شاءه صاحبها لمسار بطلها، وكل ما يمكننا أن نقوله فيه، من دون إفساد متعة قراءتها، هو أنه مشج إلى أبعد حد، يصدي بحكمة وإنسانية تستحضران نصوص ألبير كامو. ففي الوقت الذي لا يزال فيه غضب الجزائريين قوياً على فرنسا بسبب فصل الاستعمار ومآسيه، يسير خضراء رسالة جريئة من خلاله مفادها أن النقمة لا تشكل حلاً أو سبيلاً لبلوغ السلام الداخلي، ولا بد بالتالي من تجاوزها لتشييد الذات على أرضية سليمة.

وهذه الرسالة بالذات هي ما يجعل من الرواية ملحمة رائعة تمتحن فضائل بطلها وأخلاقه الحميدة، بموازاة تناولها كل تقلبات تاريخ الجزائر الحديث، وأيضاً “قصة حب”، كما أصاب ناشرها في تقديمه إياها للقارئ: حب الجار، حب رفيق(ة) الدرب، حب الحياة، ذلك النهر الهادئ تارة، والهائج تارة أخرى، وحب الحب الذي يشتعل داخل أولئك الذين “يمضون حياتهم في حمل النور إلى حيث يهدد الظلام بتحويل النهار إلى ليل”.

رواية عن الأمس إذاً، ولكن أيضاً عن الأمل بغد ينهض فيه الأبرار، مثل ياسين، لتجنيبنا الأسوأ.

*اندبندنت