انطوان جوكي: كلوي دولوم تروي محنة المرأة الأربعينية العزباء

0

منذ بداية مسيرتها الكتابية، عودت الكاتبة الفرنسية كلوي دولوم (من أصول لبنانية) قراءها على أكثر الابتكارات الأدبية جرأة، واختارت كأرضية لها الخرافة السيرذاتية “autofiction”. “نوع أدبي سمح لها باستعادة السيطرة على حياتها بسلطة اللغة”، على حد قولها، وبتحويل مُعاشها إلى مادة أدبية وابتكار ذاتها كشخصية خرافية، لكن من دون تحديق مفرط في الذات أو تجميلها.

وضمن هذا النوع، وضعت روايتها الأولى، “طفلات أتروبوس” (2000) التي لم تنل حقها من الرواج، بخلاف روايتها الثانية، “صرخة ساعة الرمل” (2001)، التي روت فيها الصدمة التي طبعت طفولتها، أي مقتل أمها على يد أبيها، ثم انتحار هذا الأخير، أمام عينيها. رواية صاعقة من ثلاثة فصول شحذت فيها لغة شعرية فريدة واعتمدت البحر الإسكندري لكتابتها. مذاك، تقود دولوم قراءها بيُسر مدهش إلى داخل اختباراتها الأدبية الطلائعية، فارضة نفسها داخل الساحة الأدبية الفرنسية كأحد أبرز وجوه الخرافة السيرذاتية بفضل أسلوب كتابي تجريبي وغنائي معاً جعلها تؤكد أكثر من مرة أنها تعتبر نفسها شاعرة أكثر مما هي روائية. توكيد لن يعترض عليه أحد في ضوء نثرها المنظوم شعرياً وتطويعها قواعد النحو وفقاً لمتطلبات خطابها، وتلاعبها الحاذق بالكلمات وعبقريتها في ابتكار مفردات جديدة.

إصدار دولوم الأخير، “القلب الاصطناعي” (دار “سوي” الباريسية)، رواية “عادية” مقارنةً بسابقاتها، إذ تنتظرنا فيها بطلة وراوية وبداية و… خاتمتان. نص سهل القراءة تصور الكاتبة فيه عذابات امرأة فرنسية أربعينية عزباء تدعى أديلاييد تتمكن تدريجياً، بعد فترة من التخبط داخل عزلتها والخوف من الشيخوخة الزاحفة، من تفكيك المعايير التي يفرضها النظام البطريركي السائد وبلوغ استقلال عاطفي.

أثر الإنفصال

في مطلع الرواية، نرى أديلاييد وقد انفصلت بإرادتها عن رفيق دربها، بعد سنوات من الحياة المشتركة، وتتهيأ بإثارة لدخول “سوق” الحب مجدداً. لكن حين تفعل ذلك، تكتشف بهلع أن بلوغها سن السادسة والأربعين أدى إلى انحدار قيمة “أسهمها” في “بورصة” العواطف. ولأنها مهووسة بفكرة لقاء رجل جديد والزواج منه بسرعة، بدلاً من معانقة عزلتها والاقتناع بفضائلها كما ينبغي على امرأة نسوية مثلها أن تفعله، تشعر بالذنب. ولتدجين وضعيتها الجديدة كعزباء ومنع مخاوفها من التأثير على عملها كملحقة صحافية في دار نشر باريسية كبيرة، تطلب مساعدة صديقاتها اللاتي يحطن بها، وتتخبط كل واحدة منهن داخل أزمة وجودية على قياسها. مساعدة تتلقاها بتعاضد مؤثر، لكنها لن تمنع إحصاءات سلبية قرأتها حديثاً من الدوران في رأسها أثناء تأدية عملها، وأبرزها أن عدد الرجال في المجتمع أقل من عدد النساء، ويموتون أبكر.

كلاسيكية، رومنطيقية ورقيقة، تعجز أديلاييد عن التقرب من رجلٍ إن لم تنجح مسبقاً في تخيل نفسها معه في وضعية حميمة تُرضي تطلعاتها. وبما أنها لم تعد شابة، تستنتج بسرعة أن فرص لقائها بـ”الأمير الفاتن” باتت نادرة. ففي الحفلات التي تتردد عليها، قليلون جداً هم الرجال العازبون، وفي حال تواجدوا، تراهم مهتمين حصراً بالنساء اللاتي يصغرنها سناً، ولا تملك القدرة على منافستهن. ووجود صديقاتها حولها هو الذي سيمنعها من الغرق، وأيضاً حقيقة أنها مفعمة بالحياة وشجاعة، تندفع في اتجاه الضوء، على الرغم من شكوكها وأزمات اكتئابها، مزعزعةً الطرقات المعبدة سلفاً ومكافحةً من أجل تشييد توازن شخصي وحياة متناغمة قدر المستطاع “هكذا ستسير أديلاييد على دربها، غير محتاجة إلى أحد، باستثناء صديقاتها وذلك التعاضد النسائي الذي سيشكل مركز حياتها، فتكرس نفسها لعملها وتصبح ماكينة حرب. لن تندم أبداً على شيء، وستعرف كيف ترضى عن مصيرها، وحتى كيف تحسنه. ستصبح العزلة مسكنها الطبيعي، فضاء لحريتها ونظامها البيئي”.

وهذا تحديداً ما يجعلنا نرى في “القلب الاصطناعي” تكملة روائية لبيان دولوم النسوي، “يا أخواتي العزيزات” (2019)، الذي بلورت فيه نظريات جديدة وجريئة في مفهوم “التعاضد النسائي” كأداة قوة للمرأة، وكبديل عن النموذج البطريركي ووعد بمستقبل قائم على المساواة بين الجنسين. لكن المثير في روايتها هو ليس تشكيلها تطبيقاً روائياً ناجحاً لهذه النظريات، بل الطرافة التي تعتمدها لسردها، على الرغم مما ستعانيه بطلتها خلال رحلة بحثها عن الحب.

الطابع الإبتهاجي

وفعلاً، تشحذ الكاتبة لخط نصها أسلوباً فريداً من نوعه ذا طابع ابتهاجي. وكما في رواياتها السابقة، تلجأ إلى تلك الجمل القصيرة القاطعة مثل سكين والتي تحضر مستقلة مثل قصة قصيرة، وفي الوقت نفسه، تبدو مرتبطة بصرح يتجاوزها وتساهم في تشييده. لكن أبداً لا يقع خطابها في المرارة أو الغضب، على الرغم مما يسيره من نقدٍ لاذع يستهدف الرجال عموماً الذين يظهرون في حلة باهتة، ولا تسلم منه النساء اللاتي يبدوّن مليئات بالعيوب أو التصدعات، وفي مقدمهن أديلاييد التي يتسلط عليها هاجس الزواج بطريقة تتراوح بين المضحك والمبكي.

وعن طريق المهنة التي تمارسها بطلتها، تخط دولوم أيضاً بورتريهاً قارصاً لمحيط النشر في باريس، بشخصياته وكواليسه وتسوياته المعيبة، فاضحة هرولة دور النشر خلف الجوائز الأدبية وانحرافها في اتجاه سياسة تجارية لا أدبية بامتياز. محيط على صورة المجتمع الفرنسي عموماً، المثير لليأس بذكوريته التي غالباً ما تفضي إلى عدم مساواة المرأة بالرجل على مستوى فرص العمل والمناصب والرواتب.

ولا يكتمل عرضنا لمكامن ثراء هذه الرواية من دون الإشارة إلى تطعيم الكاتبة نصها بمراجع موسيقية غزيرة، متوقفةً خصوصاً عند تلك التي حصدت نجاحاً كبيراً خلال الثمانينيات. مراجع تحضر ضمن القائمة التي تؤلفها أديلاييد لنفسها بعد افتراقها عن رفيق دربها وتسهم، بإصغائها إليها باستمرار، في تلوين حياتها الجديدة.

باختصار، “القلب الاصطناعي” رواية ممتعة وحية، واقعية بقسوة، راهنة بشكلٍ رهيب، ونسوية بقوة. رواية تقارب ببصيرة موضوعات طارئة مختلفة تمسك بنا وتسائلنا، نساء ورجالاً على حد سواء، وتروج لواجب تعلم العزلة الإيجابية الخلاقة، مهما بدت هذه المهمة عسيرة في مجتمعاتنا الحديثة حيث تبقى الحياة الزوجية والعائلية نموذج الحياة الطبيعية ومعيارها.

*اندبندنت

  • صورة الروائية الفرنسية كلوي دولوم (منشورات سوي – باريس ـ  الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية)