انطوان جوكي: الفرنسي كريستوف كلارو يروي أسرار اختلال الوعي بسخرية سوداء

0

قراءة الكاتب الفرنسي كريستوف كلارو هي دائماً تجربة مثرية بقدر ما هي مبلبِلة. فبعد سلسلة الروايات التي رصدها للغوص في حالات اختلال الوعي والإدراك، سواء بسبب اضطراب الهوية، كما في “كوسموز” (2010)، أو تحت تأثير المخدرات، كما في “كل ماسات السماء” (2012)، تناول في سلسلة أخرى العلاقات البشرية من زاوية العنف، كما في “اختبار التصادم” (2015) و”خارج مقبرة موطني الجماعية” (2017). وها هو يبدأ بروايته الجديدة، “مادّة”، سلسلة جديدة سيربط نصوصها خيطٌ أحمر هو فكرة “اليمبوس” (les limbes). رواية غامضة ومعتمة تقع أحداثها على تلك الحدود المبهمة بين حياة وموت، وسيستتبعها كلارو بنصّين: الأول هو كتاب مذكّرات حول قصة عائلة فرنسية مرتبطة بالجزائر (“البيت الأصلي”)، والآخر سيرة متخيَّلة لشاعر توفيّ في سن الثانية والعشرين (“الطفل المتحجِّر”).

خلف رواية “مادّة”، التي صدرت حديثاً عن دار “أكت سود” الباريسية، هنالك تلك المادّة الغريبة التي تُسمّى “إكتوبلازما” ويمكن أن تعني طبقة الهيولى الخارجية للجسم، كما يمكن أن تعني إشعاع جسم الوسيط. مادّة غير أكيدة، كي لا نقول مشكوك بأمرها، تتجلّى تارةً على شكلٍ سائل وتارةً على شكلٍ ضبابي أو طيفي، ومن المفترض أن تشكّل دليلاً على استمرارية الكائن الحيّ بعد وفاته. مادّة نادرة إذاً رأى كلارو فيها ركيزة مثالية لولوج وتأجيج روابط شخصيّته الرئيسة ــ بونوا ــ بالموت.

بونوا يتيم، لكن ليس أيّ يتيم. فوفقاً للمرأة التي ستحتضنه وتؤدّي دور “العمّة” في حياته، ينتمي هذا الفتى إلى أتعس أنواع اليتم الثلاثة، يتم الوالدَين. ولحسن حظّه، يسمح اعتناؤها به بنسيان شيئاً فشيئاً ذلك المأوى المروَّع الذي أمضى فيه سنواته الأولى. وفعلاً، وبهدف إعادة “ترميمه”، تعمد هذه الـ “عمّة” إلى إعداد جميع أنواع الأطباق الغريبة له، لاقتناعها بأن وحدها الوجبات الدسمة قادرة على تلطيف قلقه وهوسه بالموت. ولا عجب في ذلك، فهي مهووسة بالطبخ، نراها على طول الرواية تخلط بجرأة ومن دون منطق المالح بالحلو وتحضّر أطباق وحلويات لا تخطر ببال وعسيرة الهضم، وذلك بموازاة الجهد الذي تبذله من أجل شراء أملاك العجزة الذين يعيشون في جوارها ضمن ظروفٍ أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها مشبوهة.

مادّة غير مرئية

في كنف هذه المرأة، يكبر بونوا بسلام وطمأنينة نسبيّين لا ينكّدهما سوى تساؤله الثابت والاستحواذي حول ما تخبّئه “عمّته” في غرفة نومها الممنوعة عليه، وحول سرّ تواريها الثابت خلال الليل، مرّة في الأسبوع. أما عشرته فستقتصر عليها وعلى صديقاتها الثلاث العجوزات المولعن بأفلام الرعب وبالأرقام القياسية في مختلف الميادين. لكن في إحدى الليالي، خلال سهره على ميّت بطلب من “عمّته”، يكتشف بونوا موهبة فريدة لديه، موهبة التقاط مادّة “الإكتوبلازما” غير المرئية للناس العاديين والتي ستسمح له حين يلتهمها بالاتصال بالأموات وبتلقّي على شكل رؤى بعض ذكريات تجاربهم الحسّية الحميمة. رؤى لا تلبث أن تجعل منه وسيطاً روحانياً في غاية المنفعة لـ “عمّته” وصفقاتها المشبوهة، وأيضاً لمارغريت لاحقاً، وهي فتاة من جيله خضعت مراراً لعمليات اختطاف على يد مخلوقات فضائية، وسيضطّر هذا الفتى معها إلى مواجهة قوى أكثر فأكثر معتمة، قبل أن يعرف كَشْفٍ أخير وصاعق…

وكما في جميع روايات كلارو السابقة، لا القصة التي يرويها لنا ــ على أهميّتها ــ ولا أحداثها وتطوّراتها المشوِّقة هي ما هو أساسي في روايته الجديدة، بل مناوراته اللغوية وتكثيفه جمله بالصور والدلالات والأسئلة الجوهرية، ومزاوجته علم نشر القرائن وفنّ الارتقاء بالخطاب بواسطة الدعابة السوداء، من دون أن ننسى استطراداته الغزيرة التي يقارب بها مواضيع أصبحت ثابتة وعلامات فارقة لديه. وفعلاً، منذ بداياته، ما برح هذا الكاتب اللامع ــ الأكثر موهبةً في المشهد الأدبي الفرنسي الراهن، في نظرنا ــ يثير احتكاكاً لجوجاً بين العادي والخارق من أجل بلوغ إشراقات أدبية وشعرية ذات أصداء فلسفية. وفي “مادّة”، يذهب بهذا الفن إلى أقصى حدوده الملتبسة، مستعيناً بموضوع استحضار الأرواح كحيلة لإدراك غايته، بعد إعادة العمل بعمقٍ على عناصره الثقافية الشعبية.

والنتيجة؟ سردٌ آسِر بنثرٍ مدهش بالتفافاته وملتهب بصوره الشعرية المبتكَرة، ينزلق كلارو بواسطته تحت جلد فتى يتيم لاستكشاف بحساسيّة وبصيرة نادرتَين كيف ينظر اليتيم ــ أي يتيم ــ إلى نفسه والعالم، وما هي الأسئلة المؤلمة التي تراوده وتقضّ مضجعه. استكشاف يسمح له بسبر أسرار الهوية والولادة والموت، والغموض المؤسِّس الذي يلفّ وجودنا في هذا الكون، وبتذكيرنا في طريقه كم أن مسألة ما نلتهمه من قوتٍ مادّي وغير مادّي تبقى جوهرية سواء في الأدب أو خارجه.

باختصار، “مادّة” هي رواية التحوّلات بامتياز، تتخفّى تحت قناع كوميديا سوداء لتقودنا داخل بحثٍ مدوِخ بقدر ما هو مُمِضّ، تتفكّك خلاله قناعاتنا وتتوارى مع تواري الحدود بين حياة وموت. ولخطّها، لجأ كلارو إلى كتابةٍ تستحضر بالحركة التي تتحكّم بها ــ حركة التهام ذاتها واجترارها ــ بعض نصوص أنتونان أرتو. حركة لا هوادة فيها… حتى انبثاق تلك الشرارة الكاشِفة من قلب العدم.

المصدر: اندبندنت

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here