“اندماج” السوريين في بلدان تغريبتهم.

0

نجم الدين سمّان

كاتب سوري

مجلة أوراق العدد 12

الملف

في شهر آذار 2020 يكون السوريّون قد دخلوا السنة العاشرة من تغريبتهم بعد ثورتهم ضد الاستبداد؛ وتلكَ.. أكبرُ تغريباتِهِم في العصر الحديث بعد تغريبتهم إلى الأمريكيتَين قبل مئتين وخمسين عاماً؛ بل إنها أكبرُ تغريباتِ الشعوب العربية بعد التغريبة الفلسطينية منذ عام 1948.

وفي التغريبة الأولى إلى الأمريكيتَين نجح سوريّو بلاد الشام: السوريون واللبنانيّون في تأسيس مكانةٍ علميّةٍ وثقافيةٍ لهم.. وبخاصةٍ في البرازيل؛ حيث ما يزال “المشفى السوريّ اللبنانيّ” أفضلَ مشافي أمريكا اللاتينية حتى اليوم؛ كما تشكَّل ما يُعرَف باسم: “أدب المِهجر”؛ الذي ضمّ أسماء لامعة كجبران خليل جبران ومي زيادة وميخائيل نعيمة.. الخ؛ كما أنشأ سوريّو بلاد الشام آنذاكَ جمعياتِ ونوادٍ اجتماعية وثقافية وأصدروا العديد من الجرائد والمجلات.. بينما هم يندمجون في مجتمعاتهم الجديدة دون أن يقطعوا حبل الصُرَّة بينهم وبين بلدانهم؛ وما بين يومياتِ تغريبتهم وبين مهادهم الثقافي العربيّ.

فهل يفعل المُهجّرون السوريّون الجُدُد ما فعله أجدادُهم المهاجرون إلى بلاد الله الواسعة؟.

*- تشظيّات التغريبة

ينقسم السوريّون في بلدان تغريبتهم الآن -كما هُم في بلدهم- إلى ثلاثٍ: ثلثٌ مع الثورة ضد الاستبداد والفساد.. وقد دفعَ بعضَ ضرائبها تهجيراً واقتلاعاً من بلده؛ وثلثٌ من الرماديّين الذين يتخَفَّون وراء ذريعة “نَفيِ الذرائع أمام النظام الأسديّ” خشية أن يُحاسِبهم هذا النظام.. إذا ما زاروا سوريا مرّةً أو عادوا إليها ذاتَ يوم؛ وكأنهم على يقينٍ بأنّ نظام الاستبداد باقٍ إلى الأبد!؛ فلا يُشاركون في اعتصامٍ ضد جرائمه؛ ولا في تجمُّعٍ؛ ولا في جمعيةٍ أو منتدى؛ ويُحوِّلون الحديثَ عن المقتلة السورية إلى الحديث عن ملذّات المطبخ السوري؛ كما لو ان الدمَ السوريَّ لم يُلامس أرواحهُم.. ولا هُمُ سمعوا بالمذبحة المُستمرة منذ 8 سنوات!؛ ويقتصر دورهم على “البَصبَصة” في تجمعات السوريين الفيسبوكية؛ والتعليق بعباراتٍ باتت سِمَةَ حضورهِم الرماديّ: – الله يفرّجها؛ الله يطفّيها بنوره؛ إن شاء الله نرجع.. وترجع سوريا أحلى ممّا كانت!.. الخ.

أمّا الثُلث الأخير.. فهو من مُناصِرِي النظام الأسديّ؛ وبعضُهم كان يدرس كمُوفَدٍ رسميّ إلى جامعات أوروبا وسواها؛ ثمّ استفاد من أزمةِ شعبِهِ بطلب لجوءٍ أو بمُستَنَد إقامةٍ دائمةٍ أو مُؤقته؛ وبعضُهُم رَكِب “سُفُنَ الموت” مع المُتضررين الفعليين من استبداد الأسد.. فحصل مثلَهُم على اللجوء؛ وبعضُ هؤلاء.. مُشارِكٌ مَيدَانيّ في سفكِ دَم إخوتِهِ السوريين؛ وهؤلاء.. يصمتُ بعضُهُم أحياناً حين يتمّ الحديثُ عن استبداد النظام؛ وأغلبُهُم يُنافِحُ عنه.. مُرَدِدِينَ كالببغاءِ عِباراتِ النظام الأسديَّ عن الإرهاب والمؤامرة الكونيّة والانتصار عليها!.

وفي هذا الثالوث السوريّ: مُعارِضِين ورماديّين ومُؤيِدين؛ قائمةٌ طويلةٌ ومُشترَكَة من السلبيّات والايجابيّات والتناقضات؛ ومن الأوهام أيضاً؛ حملوها داخلَ حقائبهم؛ وكانوا قد عاشوها نهجاً ومُمارسةً داخلَ بلدِهِم الأمّ؛ ويُمارسونها اليومَ في بلدان تغريبتهم!.

*- مُفارَقات التغريبة وصدمتها الأولى

ينتقل المُهَاجِر أوالمُهجّر من بلده الأمّ إلى بلدان الهجرة والتهجير وهو يحمل معه كلَّ مَوروثاته الثقافية واللغوية والعقائدية والدينية وسواها من تأثيرات الاصطفاف المذهبيّ وحتى المناطقيّ والعشائريّ؛ وأول ما يصطدم به.. التغيير في نمط العيش والسلوك وحتى في أنماط المَلبَس والمأكل؛ كما في ثقافة المواطنة؛ وفي حقوق المواطنة؛ وفي غيرها من الحقوق ومن الواجبات؛ وبخاصةٍ إذا كان قادماً ممّا يُسمّى بالعالم الثالث.

حكى لي كثيرون عن ردّة فعلٍ لا شعوريّة تنتابهم في تغريبتهمٍ حين يمرُّ بهم رجلُ بوليسٍ أوروبيّ.. تُماثِلُ ردّةَ فِعلِه من مُخابرات نظام الاستبداد الذي قَمَعَهُ ثمّ هَجَّرَه!.

كما يشعر المُهجَّرُ أو المُهاجِر بالغُربة عن مُجتمِعِهِ الجديدٍ والمُختلِف جذرياً؛ فيلجأ على الفور للبحث عَمَّن سبقه في الهجرة من السوريين أو العرب أو المسلمين؛ وهكذا تنشأ تجمّعات “غيتو” للمهاجرين في هوامش المُدن الغربية/ الغريبة عنهم أيضاً؛ ولهذه التجمعات تناقضاتها وسلبياتها.. تصِل في الغالب إلى إعادة تشكيل ما حملوه من بلدانهم في حقائب عقولهِم ومشاعرهِم؛ على ذات الأسس الدينية والمذهبيّة والمناطقيّة التي عاشوها قبل الهجرة الطوعيّة أو التهجير؛ كما أن بعضها يتجلّى عن “مافيات” في الظلّ يُشكّلها مُهاجرون: ومنها.. مافيات زنجيّة إفريقية في كلّ أوروبا؛ أو جزائريّة في فرنسا بشكلٍ خاص؛ أو تركية في المانيا.. الخ؛ وبعضها يُنشِئُ سوقاً سوداء في الظلّ؛ وبعضُها.. أنتج إرهابيين؛ وحتى مُوزّعين للمخدرات.. الخ.  ولا يعني هذا التوصيف الواقعيّ.. أن قوانينَ الهجرة واللجوء مثاليّةٌ وبخاصةٍ في الاتحاد الأوروبيّ؛ وأنّ تلك الدول لا ترى اللاجئ إلا رقماً في سوق العمل؛ بل تخصُّه بالأعمال من الدرجة الثالثة والرابعة حتى لو كان يحوز شهاداتٍ علميةٍ عالية؛ ولكن حتى في أفضلها: قوانينُ اللجوء في البلدان الاسكندنافية تتكرَّرُ مصائرُ المهاجرين ذاتُهَا؛ فيعيشون في الهوامش الأوروبية وليس في قلبها؛ سوى عند مَن يطمَح ويجتهِد ويُكافِح ليندمج ويُثبِتَ نفسه في مجتمعه الجديد؛ وقليلٌ من هؤلاء المُندَمِجِين يحافِظُون على “شعرة معاوية” ما بين ثقافة مُجتمعاتهم الأم؛ وما بين ثقافة مُجتمعاتهم الجديدة.

لا أقصد بالثقافة هنا.. تعريفَهَا العربيّ التقليديّ الذي يحصِرُها بالأدب والفنون؛ وإنما كلَّ تجلياتِهَا عند الشعوب بما يتضمَّنُ: خلفيَّتها التاريخية والحضارية؛ وبالطبع.. فولكلورها وعاداتها وتقاليدها وأنماط سلوكها اليوميّ والدينيّ؛ وحتى أنماط ملابسها وأطعمتها وموسيقاها الشعبية.. الخ.

ومن المُفارَقة أن نلمَسَ التطرّفَ ذاتَ يمينٍ وذاتَ يسارٍ في نظرة المُهاجرين إلى بلدان لجوئهم؛ وإلى أنفسهم أيضاً؛ كما إلى أقرانِهِم من المُهاجرين؛ ومِن المُفارقة أن يصلَ بعضُ المُهاجرين إلى جَلدِ الذات؛ أو إلى جَلدِ أبناء جِلدَتِهِم ونَعتِهِم بالتخلّف؛ والتطيُّر من التعامل معهم ومن المشاركة الإيجابية في تجمعاتهم؛ أو يتطرّف بعضهم دينياً.. فيُسمّون الدول الأوربيّة التي استضافتهم: دولاً كافرة؛ مُنكفِئين داخل “غيتو إسلاميّ أكبر” مُضادٍ لأيِّ اندماج حضاريّ مُنفتحٍ على العصر وعلى الآخرين.

فهل سيندمج السوريون الجُدُد مع مجتمعات تغريبتهم؛ مع احتفاظهم بهويّتهم الثقافية والدينية كمُسلمين سوريين مُعتدلين.. ينبذون العنف باسم الإسلام والقتلَ والعملياتِ الإرهابيّة الدموية التي يقوم بها مُسلمون مأزومون إلى درجة سفكِ دماء الأبرياء؛ لأنهم فقط من دياناتٍ أخرى؟!.

*- السوريون في فرنسا.. نموذجاً

يرغبُ أغلبُ المهاجرين السوريين بألمانيا والدول الاسكندنافية بأكثرَ ممَّا يرغبون باللجوء إلى فرنسا؛ بسبب بطء إجراءات اللجوء في جمهوريةٍ من ورقٍ وروتينٍ؛ وأيضاً بسبب تناقضات “سياسة اللجوء الفرنسية” ذاتِها؛ كما أعلن وزير الدولة الفرنسي المُكلّف بالعلاقات مع البرلمان كريستوف كاستنير، وهو الناطق السابق باسم الحكومة الفرنسية، في 18 يناير/ كانون الثاني 2018:

“إن فرنسا تُواجِه فشلاً في سياسة الاندماج التي تتبعها في مجال سياستها المُتعلقة بالهجرة”؛ مُضيفا بأن: ” المبادئ الإنسانيّة والوسائل البراغماتيّة تتعارضان بالفعل”!.

وكان وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف قد أدان تصريحاتٍ أطلقها رؤساءُ بعضِ البلديّات في فرنسا أبدوا رغبةً في استقبال لاجئين “شرط أن يكونوا من المسيحيين”، مُعتبراً أن هذا التمييز بين المسيحيين وغيرهم مُضِرّ.

وبالنسبة للسوريين فلا إحصائيات رسمية ونهائية عن عددهم في فرنسا منذ 2011؛ والعدد التقريبيّ لا يتجاوز 75 ألفاً بقليل؛ وبهذا تكون فرنسا أقلّ بكثيرٍ من السويد وألمانيا في هذا المجال؛ ويعود هذا الى ضغط جماعة اليمين المُتطرِّف “لوبين” وحتى من أحزاب الوسط ومن يمين الوسط كحزب “ساركوزي” التي تُطالب بإيقاف كلِّ أشكال اللجوء؛ أو تقنينها بشكلٍ كبير كما في حزب “ماكرون” ذاته الذي يتأرجح بين يمين الوسط وبين اليمين ذاته؛ مع نزعة نيوليبرالية واضحة؛ مع الإشارة في كل مناسبة إلى أنهم حُرَّاس العلمانية في الجمهورية الفرنسية.

لكن هذا لا يُعفِي اللاجئين أيضاً.. من استسلامهم للبطالة المُرِيحة: سكناً وتأميناً صحياً ومجانيّة تعليمٍ وتخفيضاتٍ في وسائل النقل العامة وإعفاءً من الضرائب ومساعداتٍ من جمعيّات المجتمع الفرنسي: المَدَنِيّة والكَنَسِيّة في آنٍ معاً؛ مع راتب لجوءٍ شهريّ أو تعويض بطالة.. حتى لو أنهما يكادان يكفيان الاحتياجات الأساسيّة في حدّها الأدنى؛ فيما اعتبر كثيرٌ من الفرنسيين بأن اللاجئين يعيشون من ضرائبهم التي يدفعونها للدولة.. وهي ضرائبُ عالية ومُركبَة؛ بينما أغلب المهاجرين لا يعملون.. أو لا يرغبون في العمل؛ كما تُوجد عوائقُ مُركبَة حتى لأصحاب الشهادات العليا من اللاجئين ليحصلوا على عملٍ يُناسِب مُؤهلاتهم؛ ومنها: اتقانُ الفرنسيّة بشكل جيدٍ جداً بالنسبة للأطباء والمهندسين والمعلمين؛ إضافةً لفترةٍ قد تطول.. ريثما يتمُّ تعديلُ شهاداتهم واعتمادها كوثيقةٍ في عقود العمل؛ ولدورات تأهيلٍ يتضمّن أغلبُها دراسةَ موادٍ جديدة؛ ثمّ قد لا يعمل في مجالاتِ تخصّصهم سوى الأطباء منهم؛ وأعرف لاجئاً سورياً حاصلاً على الماجستير في العلوم الإنسانية؛ ويُجِيد الفرنسيّة بشكلٍ جيّد؛ وقد حصل على الإقامة الدائمة منذ عامين؛ وتقدَّمَ بطلبٍ للعمل.. فبات يتلقى عروضَ عملٍ كسكرتير؛ أو كمُرافقٍ لذوي الحاجات الخاصة؛ ومُؤخراً.. أرسلوا له فرصةَ عملٍ مع الحيوانات الأليفة؛ تتضمَّن غسيلها بالشامبو وتنشيفها وتسريحَ شعرِها الأليف!.

هكذا لا تُتَاحُ لكثيرٍ من اللاجئين سوى الأعمال الهامشيّة أو المُؤقتة؛ برواتبَ أقلّ بكثيرٍ عمَّا يتقاضاه الفرنسيّ؛ حتى أنها بعد اقتطاع الضرائب منها؛ تكاد تزيدُ بقليلٍ عن المُساعدة الشهرية له.. كمُقيم!.

ومع ذلك.. ثمّة حالاتٌ فرديّةٌ لبعض اللاجئين استطاعت أن تعبر كلَّ هذه المَعُوقات وتحجِزَ لها مكاناً ومكانةً في المجتمع الفرنسي؛ بينما تسود مُفارقةٌ ساخرة يتداولها اللاجئون: “لتُصبحَ لاجئاً معروفاً ومُعترفاً به في فرنسا.. عليك أن تُصبح: لاعبَ كرة قدمٍ؛ أو مُغنياً للراي والراب؛ أو عارِضَةَ أزياء”!.

أمّا المُفارقة غير الساخرة.. فهي الأكثرُ دقةً؛ حين لا يتذكر الرأي العامُ في فرنسا وغيرها إيجابيةً واحدةً لمُهاجرٍ أكثرَ من يومين.. كأن يجِدَ حقيبةَ نقودٍ في الميترو فيُسلِّمها للبوليس؛ بينما يتذكرون سلبيّات اللاجئين؛ وبخاصةٍ حين يقومُ أحدُهم بعملٍ إرهابيّ.. فكيف إذا كان من أصولٍ عربية أو إسلامية.

والمُتتبِع لصفحاتِ تواصُلِ اللاجئين السوريين في فرنسا.. مثلاً؛ ولأسئلتهم ولنقاشاتهم.. سيرى بشكل بانوراميّ كركوبةَ خيطانٍ مُتداخلة من المشاعر والانتماءات والأفكار المُسبَقة؛ كما مِنَ المعارك اللفظيّة والشتائم؛ حيث يقوم بعضُ المشرفين على تلك المجموعات بحذفها فيما بعد؛ وبعضهُم يتركها في غياب الضوابط والمعايير.. كوثيقةٍ عن تخبّط السوريين وضياع بوصلتهم حتى فيما يتعلّق بالشأن الوطنيّ العام لبلدهم الأم.

يحتاج سَبرُ واستقصاءُ حالِ السوريين في فرنسا وسواها.. إلى مقالةٍ قادمة؛ بل.. إلى دراسات اختصاصيّة ومُعَمّقة؛ وبخاصةٍ بعد أن تحوّلت سوريا للأسف الشديد.. من بلدٍ للجوءِ الأقوام والشعوب على مَرِّ عصورها؛ إلى أولِ البلدان في تصدير اللاجئين في القرن الواحد والعشرين.

وكنتُ قد كتبتُ قبل عامين.. قصيدةً بعنوان: “لستُ لاجئاً.. يا أبي” أختِمُ هذا المقال بمقطعٍ منها:

“أصعبُ لجوءٍ عِشتُهُ في بلدي

يا أبي؛

وكًنّا المُعتَقلِين.. أيضاً؛

منذُ أولِ انقلابٍ عسكريٍّ

إلى انقلابِ الوَحشِ الكبير.

لاجئين كُنّا في بلدنا.. يا أبتي

بينَ كلِّ راشٍ ومُرتشٍ؛

من حولِنَا.. الفاسدونَ

وقُطعانٌ.. من الطبّالين؛

على يسارنا.. رفاقُ الخديعةِ

وعن يميننا..

عمائِمُ سماسرةِ الدُنيا والدِين”.