انتظارات كافافي!

0

محمد نور الحسيني، شاعر ومترجم كردي سوري مقيم في ألمانيا

مجلة أوراق العدد 13

شعر

لماذا أتخيلكَ ضريراً

تقودُ طاقمَ عملٍ

خبراءَ آثارٍ وحفارينَ..!؟

لماذا أتخيلكَ بعكازةٍ أبنوسية

وفمٍ أدردَ

تخطُّ مكامنَ

في الصباحِ

وبؤراً

في نورِهِ

طبولاً

لمجيئهِم..

مزاميَر

تحتملُ بزوغهُم كالكمآتِ..

تدفقَ خيامٍ ومعسكراتٍ..!؟

هنا يجبُ أن تنتفخَ الدروبُ

هنا شروشٌ رطبةٌ

هناك أسئلةٌ ممتدةٌ كالفحيحِ

هنالِكَ

هنالِكَ

يمتد شجرٌ وخرنوبٌ ورقيمٌ مطمورٌ

ومنعطفاتٌ

سيتدفقون فيها كالجنونِ

يلهثونَ خلفَ قرميدٍ متفتتٍ

هل يكفي هذا اللهاثُ

هل تكفي هذه الحيرةُ

لبثِّ النبضِ

أخافُ عليكِ من الذوبان

أخافُ عليكِ من الوَدَقِ!

ومن حُمَّىَ الآبارِ

وشَغَفِ الأعماقِ

ولسعاتِ التنقيبِ

أخافُ عليكَ أن تجريَ في المساربِ

أخافُ عليكَ من ضُحَى الغَيْرَةِ

أخافُ أنْ تلَبْثَ في هذا التلِّ

كالسأمِ

لاغَمَامَ يظلِّكَ|..

لا أنثىً تدثِّرُكَ

بأناشيدِ صدرِها..

أخافُ أن تكون الوعلَ أو ظلالَهُ

بقَرْنَيْهِ الكليلين

أخافُ أن تنتظرَ نفسَكَ

يركضُ الوعلُ فتتَبعُهُ

تركضُ الغزالةُ فتتبعُهَا

يا لقرنيه الجميلين!

يا لعينيها الجميلتين!

يا لجنونِ النيازكِ المتطايرةِ من خطاهما!

يا لسهامٍ تُدَحْرِجُ بصيرتي!

من عليائها إلى فتنةِ الترابِ

كنتمْ نياماً

أتعبتكمُ المتونُ والهوامشُ

وكانت بصحبتي

متماسكةً ككلامٍ متماسكٍ

أحصي فقراتِ ظهرِها

كما أحصي كلماتٍ من ذهبٍ

ثمةَ سطرٌ لا يتَّضِحُ

ثمةَ أنفاسٌ ناعمةٌ

كعبورِ الفراشاتِ

ثمةَ منحنياتٌ وارفةٌ

وغضونٌ ممتلئةٌ بالترحابِ

لكن أيضاً

ثمةَ رقيمٌ مهجورٌ

ثمّةَ وعلٌ طريدٌ

يجدُ فسحتَه في الهضبةِ

الهضبةُ السائلةُ بالنورِ وبالهجران..

موحشاً ينعرجُ

وينبسطُ

تتلاطمُ من حوله الغمغماتُ

كأن سيحدبُ على القَطَا

كأن سيطوي انتظاراتِه

كجناحين كسيرين

إذ يتمعَّنُ بحَدَقتين فاغرتين

في عجرفةِ الحجلِ البرِّي

في خصرِه المنحوتِ

في دقةِ منقارِه

في جناحيهِ المتدفقين

كأنما لِتَوِّهِ قد نهض من سِفَادٍ

الحجلُ المترجّلُ لتوهِ

من الإدانةِ

الوعْلُ المترجّلُ لتوهِ

من الذبحِ

الغزالةُ المترجّلةُ لتوِّها

من ترمّلها

كلاهما في الأسحارِ

يترجلانِ

كبومتين بنفسجيتين

تحطّانِ على أفاريزِ الحجراتِ

تنعقان بكلامٍ مبهمٍ

عن الرقيمِ ذي الفلز المتوردِ

عن هذا الخلطِ المتعمدِ بين

بيكيت وكافافي

اللابثين في مساحةٍ موبوءةٍ

بالحفرياتِ

عمّ نبحثُ في هذه الثرثرةِ

من اللقى والرُقُمِ

خُوَذٌ تلمعُ كأيقوناتٍ مزيفةٍ

بنادقُ مدهونةٌ بعواءِ الذئاب

أنهارٌ محجوبةٌ بالغطرسةِ

كمْ ستظلُّ مربوطاً إلى ذاك العمود

كم رصاصةً ستنتظرُ

كم خبيراً بمللكَ

كم عُصابة على عينيك

كم طلقة خلبية..!؟

من شاهقٍ ستتهاوى

لن تكونَ المسافةُ كافيةً

لننتظركَ

لن تكونَ بقاياكَ كافيةً

لتتناهشكَ الجوارحُ

لتؤاخيكَ

لتتغذى منكَ وتغذيكَ

يلزمُكَ حصانٌ فحسبُ

حصانٌ يرمحُ كالوَلَهِ

قَطَعَ أرسانُهُ

داسَ بابَ الحظيرةِ

نافضاً عن ظهره السّرج البلَيد

حصانٌ أرمضته ليالي الغثيانِ والتأففِ

حصانٌ سيقضمُ من الحديقةِ

ما يشاءُ

فلتكنْ في فمِهِ

قضمةٌ من السُنْدُسِ

وفي جبهته طلقةٌ

لكنها لن تكونَ في انتظارِه

هو ضيفُها

لكنها لن تكونَ في انتظاره

جميلتَهُ

ذاتَ الفمِ العذبِ

والعينينِ الليليتيِن

والحواجبِ الرقيقةِ

والقامةِ الهيفاءِ

حتى الإعياءِ

ترقَّبهَا

حتى الغثيانِ

تلمَّظهَا

لأنها لم تكنْ موجودةً أصلاً

لذلك لن تكونَ كومندانها

لن يأتيَ أورليانو

ليحفرَ في عروقِنا

باحثاً عن قرني الوعل الذهبيين

في عروقنا الناشفةِ

هذا فجرٌ قائظٌ

هذا فجرٌ كاذبٌ

لن يسريَ الطِّيبُ في الأوردةِ

أبوابُ الكَرْمِ لن تُشْرَعَ

ستظلُّ تكتم ُأنفاسكَ الحجراتُ

ستفركُ عينيكَ طويلاً

وبين لافحٍ من الشجن

ولافحٍ من الغبطةِ

ستعودُ إلى الشِّعابِ

مجللاً بالنعاس

متوجاً بالضُّحى والرطوبةِ

تركضُ في الشّعابِ

على غير هدىً

وبعكازٍ

وبفمٍ أدردَ

وبعينينِ غائمتين

وبملامحَ أوديبيةٍ

وحيداً وأعزلَ

ستتوهُ قليلاً

لكنكَ تعودُ القَهْقَرَى

كبدائيٍ تألفُ المرعى الخصيبَ

تقضمُ الندى

ترشفُ الحبقَ

من المنحنى الرخيِّ

تبزغُ في الربيعِ

تهيجُ شعابَكَ بالزهورِ النافرةِ

كلما ذابتْ ثلوجُ طوروسَ

كلما هبّ هواءٌ رومانسيٌ

تزدادُ نضارةً

تتبرعمُ ضفتاكَ مروجاً

تخضَوْضِلُ

بالبرقِ والبصيرةِ

تغدو فخاخاً بهيجةً لاستدراجهِ

لتنقيةِ روحهِ

من برقِ المغامرةِ

وتنظيفِ أنفاسِهِ

من لهاثِ الحنقِ والإقدام..

الهضبةُ معدَّةٌ سلفاً ومرتّبةٌ

لدفن نظراتِه الحديديةِ

الهضبةُ ذاتهُا

ستغدو تحفةً محاطةً بأطواقِ الورد

بالمباخرِ

ستغدو المكانَ الأوحدَ

لتذوبَ فيه

الأقدامُ من الضنى

وتتقشفُ فيه الركبُ من الانتظار

ولن تنفرجَ الكربُ

ولن تلمعَ في بؤرتِهِ ذؤاباتُ مشاعِلِ المنتظرَينَ

عواءُ ذئابٍ جريحة فحسبُ

تترددُ في دمِ رجلٍ أعزلَ ووحيدٍ

بقوةٍ  يضغطُ على صدغيه ويصيحُ

لا تنتظرْ أحداً

لا تنتظرْ يا كافافي

لا تنتظرْ من جديد..! ..