الياس خوري: عرين الحرية

0

بالأمس رأيت يوسف إدريس بعيني ذاكرتي. كنت أشاهد مقطع فيديو لشباب من مخيم شعفاط وهم يحلقون رؤوسهم على الصفر متشبهين بالفدائي المطارد عدي التميمي، بهدف منع قوات الاحتلال من التعرف إليه واعتقاله، وتساءلت عن السر الذي جعل من الكل واحداً، ومن الفرد جموعاً.
أما ما علاقة الكاتب المصري الكبير بهذه المسألة، فهي حكاية تستحق أن تروى.
التقيت يوسف إدريس للمرة الأولى في عشاء جمعنا في بيروت إلى مائدة محمود درويش في أواسط السبعينيات، وكان الرجل مبهراً. فعدا عن إعجابي بسحر قصصه، رأيت في شخصيته تجسيداً لصورة الكاتب؛ لطف ودماثة وعينان ملونتان في وجه مصري أسمر.
جلست أرضاً وأنا أنظر إليه، وفجأة التفت إليّ وسألني لماذا أنظر إليه طوال الوقت، ترددت قليلاً قبل أن أقول «لأنك تشبه الأدباء». انفجر الرجل ضاحكاً ونظر إليّ وقال «سرك باتع يا ولد».
أردت أن أخبره أنني كنت عضواً في مجموعة من الشابات والشبان التي عملت في إطار محو الأمية في منطقة النبعة، وسط البيئة العمالية، وأننا أعدنا كتابة قصته «سره الباتع»، لتلائم أنصاف المتعلمين، كجزء من محاولتنا التثقيفية التي كانت مرتبطة برؤيتنا للتكامل بين نضال العمال والفلاحين، ومعركة التحرر الوطني التي كانت المقاومة الفلسطينية رأس حربتها. يومها وكان ذلك عام 1972، نشرنا كتيباً مسحوباً على الستانسيل بعنوان «السلطان حامد» ووزعناه على العمال.
لكنني خجلت، فأن تكون في حضرة كاتب عظيم قرأته وأعدت قراءاته مرات لا تحصى، يجعلك عاجزاً عن الكلام.
تذكرت يوسف إدريس وقصته القصيرة «سره الباتع»، المنشورة في مجموعته «حادثة شرف» (1958)، وأنا أرى شباب مخيم شعفاط يتقمصون عبر تصفير شعر رؤوسهم الفدائي المطارد، كي يحتضنوا فكرة المقاومة في أجسادهم مثلما احتضنوها في عقولهم وقلوبهم.
دارت حكاية السلطان حامد في قرية شطانوف، وهي إحدى قرى الدلتا. وفحواها أن فلاحاً مصرياً مبتور البنصر ويضع وشماً على عينيه قتل أحد جنود الحملة الفرنسية، انتقاماً لفلاح قتله جنود الاحتلال. وبدأت حملة التفتيش عن القاتل «الإرهابي»، فقام كل شباب القرية والقرى المجاورة بقطع أصابعهم ودق الوشم على وجوههم. وبعد نجاح جيش الاحتلال في قتل حامد، بنى له الفلاحون مقاماً كبيراً، فجن الحاكم العسكري الفرنسي، ولم يكتف بهدم المقام مرتين، بل قام جنوده بتقطيع جسد حامد ورميه في قرى متعددة، فقام الفلاحون ببناء مقامات في العديد من القرى تحمل اسم السلطان حامد الذي تحول إلى رمز للمقاومة.
القصة بنسختيها الإدريسية الساحرة والشعبية تتضمن تفاصيل مذهلة وممتعة، فالأدب هو الوعاء الذي يعيد صوغ التجربة الإنسانية، ويكشف معانيها.
في شعفاط رأينا عبر الرؤوس الحليقة أدباً أجمل من الأدب. الناس يقاومون وهم يعلمون أنهم يصنعون المعاني، ويصوغون الحقيقة التي هي نتاج تمسكهم بالحق.
لا أدري ماذا سيكون مصير بطل عملية شعفاط، لكن ما أعرفه أن هناك فكرة جديدة زرعت في قلوبنا، وأن هذه الفكرة عصية على الموت.
تأملوا معي هذا العرين الذي صارته نابلس، بعد استشهاد إبراهيم النابلسي في أحد أزقة المدينة القديمة. انظروا إلى جنين التي سقط على ركام بيوت مخيمها القائد الشهيد «أبو جندل»، وتأملوا معي كيف يتحول عرين الأسود إلى عرين كل فلسطين.
ما أعرفه هو أن يوسف إدريس لم يكذب حين كتب قصته، لكن ما هو أكثر أهمية اليوم، هو أن المئات يكتبون. حبرهم دمهم، وأوراقهم أرضهم، وعيونهم سماء تحتضن حلم الحرية.
قرية شطانوف في مصر ليست خيالية، فهي إحدى قرى مركز أشمون التابع لمحافظة المنوفية وكان اسمها كفر شندي. هدم الفرنسيون قلعتها المملوكية القديمة وأقاموا على أنقاضها قلعة جديدة، وبدلوا اسم القرية ونسبوها إلى القلعة الجديدة chateau neuf. أما مخيم شعفاط في فلسطين فقد أخذ اسمه من البلدة التي أقيم عليها وتنسب إلى الملك الروماني شافاط. وهو مخيم يختنق بالجدار والمستعمرات الصهيونية التي تحيط به، ويعيش محنة أهالي القدس.
في الحالتين نحن أمام حقيقة يصنعهما المسمى وليس الاسم، ففي شطانوف حكاية تشبه الأساطير، وفي شعفاط ونابلس وجنين والقدس أسطورة حية تشبه الحكايات.
ما يفعله الفلسطينيات والفلسطينيون اليوم هو أنهم يكسرون حجاباً غطت به سلطة فلسطينية عاجزة قضيتهم.
لا يزال من المبكر إطلاق اسم على ما يجري اليوم، هل هو هبة شعبية مسلحة، أم بدايات انتفاضة شاملة، لكن ما هو واضح وجلي هو أن هناك صفحة قديمة تطوى، اسمها صعود المستسلمين على هزيمة الانتفاضة الثانية.
الدرس الذي نتعلمه هو الدرس البديهي، فالوحدة الوطنية يصنعها الميدان، أما مفاوضات إنهاء الانقسام بين قوى متسلطة وعقيمة فهو أمر لا يقود إلى مكان.
إنه انقلاب في الوعي يصنعه جيل جديد من المقاومين يقول لأنه يفعل، فيأتي كلامه «حفراً وتنزيلاً»، ولا يجد أصداءه الأساسية إلا في كلام الأسرى ونتاجهم الثقافي وإضراباتهم عن الطعام. نحن أمام خريطة فلسطينية تتشكل وتبنى رموزها، فبعد رمز الكوفية الذي صنعته ثورة 1936، يأتي رمز الرؤوس الحليقة، معلناً أن البحث عن الأفق لم يتوقف، وأن المعركة الكبرى تدور في فلسطين.

*القدس العربي