يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تعلم الدرس اللبناني جيداً. جاء الرجل إلى بيروت بعد انفجار الرابع من آب -أغسطس، مبشراً ببرنامج إصلاحي تغييري للإنقاذ، فوقع في المصيدة اللبنانية، وكان مصير مشروعه التلاشي، فعاد لبنان إلى نقطة الصفر داخل الصراعات القبلية والطائفية، ونجت الطبقة الحاكمة من المحاسبة.
هل كان الرئيس الفرنسي جدياً في محاولته الإنقاذية المجهضة، أم كان الإنقاذ المزعوم محاولة لاستعادة مجد استعماري، ما لبث أن اصطدم بحقيقة أن فرنسا فقدت دورها القديم، وأن لعبة رسم سياسات الشرق الأوسط تتخطاها؟
هذا السؤال لم يعد مهماً، وخصوصاً أن الزمن تكفل بالإجابة، وأن اللعبة الفرنسية بقيت أسيرة مصالح شركة توتال، وحلم إعادة إعمار مرفأ بيروت والسيطرة عليه.
وسط المظاهرات الصاخبة في باريس والمدن الفرنسية ضد تعسفية الرئيس الذي فرض قانوناً جديداً للتقاعد رفضته كل اتحادات النقابات، وغير مقبول من ثمانين بالمئة من الفرنسيين، تساءلت أين أنا؟
المشهد يذكر بالانتفاضة الشعبية اللبنانية تشرين 2019. مظاهرات كبرى، احتلال الساحات، اشتباكات ليلية بين المتظاهرين والشرطة، والنفايات تتكدس في الشوارع. وكنت في بعض اللحظات أتساءل هل أنا في بيروت أم في باريس؟
وكان سؤالي خاطئاً، لأنه رغم المظاهر والأشكال فالواقع هنا مختلف، الكهرباء لم تنقطع والمخابز لم تقفل أبوابها والدولار لم يحلق.
المشهد مختلف، فالدولة لا تزال تعمل كالمعتاد، لا أثر للانهيار في بنية المؤسسات.
هنا يدور صراع اجتماعي طبقي كبير، في بنية دولتية متماسكة.
السلطة تريد تحميل عجز صناديق التقاعد للعمال والموظفين والنقابات، واليسار والعمال يريدان أن تتحمل الطبقات الرأسمالية هذا العبء.
وماكرون، الابن المدلل للقطاع المالي والمصرفي، يمثل مصالح الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وهو بالتالي يقود المواجهة مع العمال.
غير أن السلطة الفرنسية في مأزق صعب، فماكرون لا يملك سوى أغلبية نسبية في البرلمان، أي أن حزبه يمتلك أكبر كتلة في الجمعية الوطنية لكنه لا يمتلك الأكثرية، كما أنه عاجز عن التحالف مع الجمهوريين، الذين ضمر وجودهم السياسي، لكنهم يملكون وحدهم تقديم طوق النجاة للرئيس وحكومته، فأنقذوا الحكومة وتركوها على حافة السقوط.
أما الحزبان الكبيران، اليسار واليمين المتطرف، فإنهما لا يستطيعان التحالف نتيجة الخلاف السياسي والأيديولوجي بين قوى ائتلاف اليسار واليمين الفاشي.
المحصلة هي أن لا أحد يستطيع إسقاط الماكرونية، كما أن ماكرون لا يستطيع أن يحكم إلا عبر اللجوء إلى استثناء موجود في الدستور، كي يمرر «الإصلاح» الحكومي دون تصويت، لأن سقوطه في البرلمان كان مؤكداً.
المعارضة لا تستطيع أن تحكم، والرئيس لا يستطيع أن يمرر قراراته بشكل ديمقراطي.
هذا هو المأزق.
ماذا فعل الرئيس الفرنسي كي يجد حلاً لهذه المعضلة؟
الحل الماكروني هو عدم البحث عن حل، نترك الأمور عالقة إلى حين يتعب المضربون والمحتجون.
أي الرهان على الزمن.
النيوليبرالية تستخدم الزمن كسلاح للقتل البطئ.
تذكرت تصريحاً نسب إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حول أزمة تدحرج العملة اللبنانية وغلاء المعيشة، حين قال: «بيتعودوا».
وفي انتظار أن يعتاد الناس على التشويه النيوليبرالي للديمقراطية، تدور معركة الرئيس الفرنسي مع المجتمع.
أغلب الظن أن الرئيس الفرنسي قرر أن الحل هو عدم البحث عن حل، على الطريقة اللبنانية.
ربما تعلم ماكرون الدرس اللبناني، وأعجب بالطريقة التي أدارت بها الطبقة الحاكمة اللبنانبة أزمتها عبر التأجيل والتسويف مع ما تيسر من القمع، بحيث نسي اللبنانيون مظاهراتهم الصاخبة المطالبة بإسقاط النظام، وهاجروا إلى منافي الخوف والبحث عن لقمة العيش وسط الركام.
السياسات النيوليبرالية التي هيمنت على اقتصاديات أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة تفتح الطريق أمام صعود التيارات الفاشية، فالماكرونية سوف تكون الجسر الذي يعبر فوقه اليمين الفرنسي الفاشي إلى السلطة.
المعركة ضد النقابات مفصلية، لأنها تدور حول المستقبل الفرنسي الذي يبدو قاتماً، فالمسألة تتجاوز الصراع على قانون التقاعد لتطاول التوازن الاجتماعي – السياسي، الذي تقوم النيوليبرالية بتدميره لتخلق من حولها فراغاً سياسياً، يسمح بتجاوز الديمقراطية ويقوم بتأسيس بنية سياسية ملائمة لحمّى الحروب الاستعمارية التي ستكون أوروبا إحدى ساحاتها الرئيسية.
أمام مشهدية المظاهرات والاحتجاجات لم أستطع أن لا أستعيد بيروت في لحظة توهجها قبل أن يأتي انفجار 4 آب- أغسطس ليضعها أمام حقيقة مأساتها.
«بيروت في باريس»، قال صديقي المهاجر اللبناني إلى فرنسا، ونحن نقف وسط المظاهرات الكبرى في باريس يوم الخميس الماضي. «منذ مجيئي إلى باريس أرى بيروت في كل مكان».
«إذا كانت هذه هي مشاعرك، فلماذا لا تعود»؟ سألته.
«لأنني لا أرى بيروت إلا كأطلال أرواحنا»، قال.
«هل يعني هذا أنك تقيم في لا مكان»؟ سألته.
تجاهل الرجل كلامي، وقال إنه يشارك في المظاهرة «لأنها تشبه مناخات الثورة في لبنان».
«لا أعتقد أن الفرنسيين سيوافقون على هذا التشبيه، لأنه سيعني أن النقابات ستُهزم كما حصل في لبنان»، أجبته.
«اسمع»، قال، «بعد هزيمة بيروت صارت كل المدن معرضة للهزائم، نحن افتتحنا خراب العالم عبر خرابنا الذي سبق كل هذا الخراب».
استهوتني فكرة التشابه بين بيروت وباريس، هذه فكرة تستحق أن نتوقف عندها طويلاً، غير أن الفكرة تبددت سريعاً، مع الانعطافة اللبنانية التي افتتحت صراعاً طائفياً جديداً على اعتماد التوقيت الصيفي. هذه اللعبة هي آخر مبتكرات طبقة الفاسدين واللصوص لتأكيد هيمنتها، ولإشعال حرب أهلية لا تسفك فيها الدماء بل يسفك فيها الزمن.
لا يوجد من هو أكثر تفاهة وسخافة وتذاكياً من حكام لبنان، الذين تفوقوا على أنفسهم مع هذا الصراع على التوقيت، محولين الزمن إلى أداة لحرب أهلية لا يجرؤون على خوضها، وإلى غطاء يحمي فسادهم وصفقاتهم.
بيروت التي ابتليت بالانحطاط لم تعد تشبه إلا نفسها، رغم إصرار بعض اللبنانيين المهاجرين على تحويل عاصمتهم جزءاً من حنينهم الوهمي إلى زمن مضى.
*القدس العربي