الياس خوري: المجدليات وانتظار القيامة

0

صورة الميلاد في الأيقونة البيزنطية تلخص الحكاية. الطفل الذي ولد في مغارة في بيت لحم، يولد ملفوفاً بكفن. فالميلاد يحمل في داخله سر الموت على الصليب، والموت هو عتبة القيامة.
هذا ما تعلمته من جورج خضر، فمطران لبنان الذي يحمل على كتفيه حكايات مئة عام من البحث عن الكلمات في ظل الكلمة التي صارت اسم يسوع الناصري، رأى الكفن وأشار إليه، فأضاءت الكلمات الأيقونة، وفهمت معنى عنوان رائعته «فلسطين المستعادة».
لم أسأله عن الحكايات التي وردت في أناجيل مرقص ومتى ولوقا ويوحنا، حول زيارة مريم المجدلية لقبر الناصري في فجر اليوم الثالث. فالذين كتبوا الأناجيل رووا الحكاية كما سمعوها، لأنهم لم يكونوا شهوداً لها. البعض يرى في هذه الحكايات تناقضات تضع علامة استفهام على صدقية الحكاية من الناحية التاريخية العلمية. غير أن القراءة الأدبية، التي يمكن أن نطلق عليها أيضاً اسم القراءة الروحية، ترى في هذه الروايات غنى يعبر عن روح الحقيقة، التي تصنع الذاكرة والرؤيا.
هل ذهبت المجدلية إلى القبر صحبة مريم أم يعقوب؟ أم كانت مع «مريم الأخرى»؟ أم مع مجموعة من النساء؟ أم لحق بها بطرس ويوحنا؟ أم كانت وحدها؟ لا يمكن الجزم بأحد هذه الاحتمالات، كلها ممكنة، وكلها تقود إلى المكان نفسه.
غير أن ما ورد في إنجيل يوحنا عن لقاء المجدلية منفردة بيسوع الناصري، حين لم تعرفه فأنّبها ثم منعها من لمس طيفه، هو الحكاية الأكثر جمالاً:
«ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء فنظرت يسوع واقفاً ولم تعلم أنه يسوع. قال لها يسوع يا امرأة، لماذا تبكين ومن تطلبين. فظنت أنه البستاني، فقالت له يا سيد، إن كنت أنت من حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه. فقال لها يسوع يا مريم. فالتفتت وقالت ربوني، الذي تفسيره يا معلم. فقال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى ابي وأبيكم وإلهي وإلهكم». (يوحنا 20: 13-17).
هذه الحكاية جرت في فلسطين وفي مدينة القدس، يومها احترم الاحتلال الروماني وعملاؤه من رؤساء الكهنة والشيوخ اليهود حرمة الموت، فدفنوا المصلوب في قبر له عنوان، ما سمح للمجدلية بزيارته.
لم تذهب المجدلية وحدها كما جاء في روايات أخرى، بل أخذت معها مجموعة من المريمات، لكنها كانت المرأة التي رأت السر الذي تكلم معها.
رأيت طيف المجدليات حين شاهدت أم ناصر حميد محاطة بصور أبنائها الأسرى والشهداء. وقفت «أم المؤبدات» صامدة في مخيم الأمعري وروت عن استشهاد ابنها ناصر، أو «الأسد المقنّع»، في سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد إصابته بمرض السرطان وتعرضه، كغيره من الأسرى المرضى، للإهمال الطبي القاتل.
تراءى لي مأتم الشهيد، ورأيت «كتائب شهداء الأقصى» يعودون بأسماء جديدة، كي «يَرِثوا السماء من السماء»، كما كتب محمود درويش. وعاد صوت والدة إبراهيم النابلسي وهو يستلُّ الضوء من الدمع. رأيت مجدليات فلسطين يذهبن إلى القبر كي يشهدن بأن الشهداء يعودون أطيافاً بثياب براقة تشبه ثياب الرجلين اللذين رأتهما المجدلية حين وجدت القبر فارغاً.
غير أن رؤيتي اصطدمت بحائط عنصري سميك، منع الشهداء من الاستراحة في قبورهم، وفتح صفحة جديدة سوداء في سجل الوحشية الإسرائيلية.
فناصر الشهيد، لن يُسلّم إلى أهله كي يعانق الأرض التي قاتل ومات من أجلها، بل سيوضع في الثلاجة كي يكمل الحكم الإسرائيلي بسجنه سبعة مؤبدات وخمسين عاماً في ثلاجة الموتى. لا تتعجبوا، فالموت الفلسطيني له أشكال لا عدد لها، فقد أشارت «الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء» إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يحتجز 118 جثماناً في الثلاجات، بينها 12 طفلاً و11 أسيراً، كان الشهيد ناصر أبو حميد آخرهم، إضافة إلى سيدتين، كما يحتجز 256 جثماناً في «مقابر الأرقام».
يوم الثلاثاء 20 كانون الأول – ديسمبر 2022، نقل جثمان الشهيد ناصر أبو حميد من مستشفى «أساف هاروفيه» في سيارة إسعاف تابعة لِـ «نجمة داوود الحمراء»، ومحاطة بالجنود الإسرائيليين، متجهاً إلى المركز الوطني للطب العدلي في أبو كبير، حيث سيكمل مؤبداته في الثلاجة.
عنوان المركز: شارع ديرخ بن تسفي 67، تل أبيب – يافا 6108401، رقم الهاتف: 5127878 – 03.
ماذا نقول لمجدليات فلسطين؟
هل نطلب منهن أن يذهبن إلى الثلاجات ليطلبن الشهداء في المراكز الإسرائيلية المخصصة لقتل الروح؟
أم نطلب منهن الصبر حتى يفقد الصبر صبره؟
أم ماذا؟ وسط موج الأسئلة التي كنت أعتقد أن لا أحد يمتلك جرأة الإجابة عنها، قرأت مقاطع من مسرحية مدهشة للأسير وليد دقة، بعنوان: «الشهداء يعودون إلى رام الله».
خفت من العنوان، لأنه أخذني إلى مرحلة بدايات الشعر العربي الحديث، حيث احتلت رموز الانبعاث مساحة كبرى في نتاج شعراء الحداثة. لم أستسغ يوماً فكرة الانبعاث كما رواها الشعراء، ولم أُعجب بطائر «الفينيق» الذي ينبعث من رماده. وكان تأويلي لهذا الشعر أنه جزء من أيديولوجيا الموجات الانقلابية التي قادت العرب إلى الهزائم.
لكنني كنت مخطئاً، فشهداء وليد دقة يوقظون المجدليات، وينهضون من الموت كأطياف من نور.
تخرج أطياف الشهداء من الثلاجات ومقابر الأرقام، مستعيدة المعنى، ومحولة الكلام إلى فعل والألم إلى حلم.
الشهداء يعودون إلى رام الله والقدس ونابلس وجنين وحيفا ويافا والكرمل، وقيل إنهم عادوا إلى مخيم شاتيلا أيضاً.
افتحوا أعينكم أيها الناس كي تروا نجمتهم التي رآها الرعاة منذ ألفي سنة في ضواحي بيت لحم، وستدلكم نجمة الشهداء إلى الطريق التي تنتظركم.
***اليوم الثلاثاء 27 كانون الأول- ديسمبر 2022، في الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، كل فلسطن على موعد مع أم ناصر حميد ومع أمهات الشهداء في مسيرة تنطلق من باب مخيم الأمعري باتجاه حاجز قلنديا للمطالبة باستعادة جثمان الشهيد القائد ناصر أبو حميد.

“القدس العربي”