ماذا تفعل حين يحتلك ألم غامض الملامح، لا تستطيع أن تحدد مكانه، لأنه يجتاح كل أعضائك من دون أن تمتلك القدرة على القبض على مصدره؟
ألمٌ يسيطر عليك، كأنه آتٍ من مكان لا مكان له، لكنه هنا، كشبح خفي يسكن أعماقاً لا تعرف أنها موجودة، كأن ما يتألم فيك ليس جسداً بل روح. فحين يضرب الوجع الروح، يفقد الجسد قدرته على المقاومة ويصير صدى.
هل أستطيع القول إن روحي يؤلمني، ولكن من أين جاء هذا الشعور، وكيف يمكن معالجته؟
الفكرة التي اجتاحتني هي أنني في حاجة إلى قراءة الشعر. فالشعر الذي يتغلغل في الذاكرة ويصير جزءاً من تلافيفها هو الملجأ حين يفقد المرء القدرة على الكلام ولا يستطيع أن يئن أو يصرخ وسط شعب كامل يئن من الألم.
لكنني أشعر اليوم بأن الشعر الكثير الذي انطبع في وجداني صار ناقصاً. الشعر الذي حفظته ورويته وكان رفيقي في الحب والبهجة وفي الحزن ومواجهة الصعاب، لم يعد يستطيع أن يخترق جدران هذا الألم.
كنت ولا أزال أعتقد أن الأدب يفتح آفاق المخيلة التي تعيد صوغ الحاضر في لغة تتجاوز اليومي والواقعي، فإذا بي أكتشف أن الشعر صار جرحاً ينزف في وجداني، كأن الكلمات القديمة التي كانت تتجدد وتجدد قلبي لحظة استعادتها، فقدت بريقها.
ما مصدر هذا الألم، هل هو الروح أم أن ألماً آخر يهيمن على وجودي؟
لم أعد أطيق «النق السياسي»، فالسياسة هنا في لبنان وهناك في الوطن العربي صارت تكراراً مملاً لكليشيهات البكاء والحنين والوقوف على أطلال ثورات الربيع العربي، التي صارت مجرد ذاكرة لا تتذكر.
لكن وبعيداً عن الكلام السياسي، فإنني أشعر أن مصدر هذا الألم وهذه الحيرة هما في مكان ما، نطلق عليه اسم الوطن.
نعم أيها الناس، وطني يؤلمني. وهو ألم أخرس. ألم مزدوج ومحيّر: إنه ألم الاحتضارالذي يهيمن على الحياة في بيروت وبقية مدن المشرق العربي، احتضار طويل لزمن يموت ولا يموت، يترنح ولا يسقط، يهوي ولا يمضي.
هذا الألم يشلّنا ويقودنا إلى العجز. كيف يمكن إنقاذ بيروت من بيروت؟ وكيف نستطيع أن نتأقلم مع هذا المناخ الذي تزدوج فيه الأشياء: فقر يترافق مع غنى، وبطر بلا حدود، وتترنح فيه المعاني، ويستعاد من خلاله لغو الطوائف.
شعور بلا جدوى البقاء ولا جدوى الهجرة. الاحتضار وحشي حين يصرخ ووحشي حين يصمت. أرى خريطة أوطاننا العربية وهي تتمزق بأيدي المستبدين واللصوص والقتلة الذين تسيدوا عليها، وحولوها إلى ملعب لأحذيتهم ونزواتهم، فأهانوها وأسلموها للطامعين وفتتوها.
زمن يحتضر لكننا نشيح أعيننا كي لا نرى، فنغرق في بياض اليأس. واليأس كالموت أبيض، ولا تبدده سوى كلمات تحوّل بياض الموت إلى أزرق الحب والبحر والسماء.
أين نعثر على هذه الكلمات؟
غير أن هذا الألم يمتلك وجهاً آخر واسماً آخر، إنه أيضاً ألم المخاض. ومن لا يفتح جوارحه لهذا الألم الثاني، لا يستطيع أن يفهم ألم أرواحنا.
قد تكون رؤية إشارات المخاض بالغة الصعوبة، لأنها تدور في الزنازين المظلمة أو في الأماكن الهامشية، وتهمس بدل أن تقول، وتبحث عن كلماتها بدلاً من أن تردد كلاماً عتيقاً فقد ماءه.
لكن علينا أن نعترف بأن هناك مكاناً تتكشف فيه أبعاد العلاقة التي تربط الاحتضار بالمخاض، وفي هذا المكان يتم تلخيص المعاني التي ترتطم بوحش عنصري عالي الصوت، يتفاخر بالجريمة، وينتشي بالنار.
هذا المكان اسمه فلسطين، هنا تمتزج الأشياء، فما نشعر به كاحتضار يأخذ شكل المخاض، وما يحسبه المحتل علامات ولادة «أرض إسرائيل الكاملة»، قد لا يكون سوى بداية الاحتضار.
في جنين نرى علامات الولادة وهي تتجسد صموداً ومقاومة، وفي ترمسعيا رأينا علامات الاحتضار وهي تتخذ شكل النار التي تحرق كل شيء. ورأينا المستوطنين الأوغاد وهم ينتشون بصرخات الموت.
هناك في جنين وترمسعيا يلتقي النقيضان، احتضار زمن يموت، ومخاض زمن لم يولد بعد.
ميزة فلسطين أنها تلخص احتمالات العرب، وفضيلة بيروت أنها مرآتهم. وفي هذا اللقاء بين الاحتمالات والمرآة، وبين الولادة والموت، يقبض علينا ألم الروح الذي صار امتداداً لأوطاننا المؤجلة. نشعر بالحاجة إلى كلمات جديدة وإلى الشعر كي ينتشلنا من نثر الموت الذي يحتل حياتنا.
لا تسألوني من أين سيأتي هذا الشعر؟
هل كان بدر شاكر السياب قادراً على تفسير كيف هطل المطر في روحه؟ وهل استطاع محمود درويش أن يشرح لنا كيف سالت ذاكرته وصارت شلالاً موازياً للدم الذي يسيل؟ وهل استطاع أحد أن يكتشف سرّ مثنى امرئ القيس وسط ظله الذي غطى صحراء العرب؟ وهل سأل أحد المتنبي عن زمنه الذي صار فوق الزمن؟ وهل تساءلنا كيف نستطيع أن نمشي على رفاتنا مثلما مشى المعري؟
الموت الذي يحاصرنا واضح وبسيط، فهو كالمستنقع ساكن ويأخذنا إلى غيبوبة دائمة، أما الولادة فهي موعدنا، وهو موعد مغطى بالدم والحروق والخسارات التي تفرش الأرض باحتمالات البداية.
وحين نختار الولادة ونذهب كي نلتقي بأرواحنا، نكتشف أن الفدائي الجديد هو شعرنا ونثرنا، وأننا معه نصوغ لغتنا التي تتفتّح في جروح الروح.
(القدس العربي)