الياس خوري: اعتذار مُتأخر من عفاف

0

في الشارع المتفرع من الحمرا والصاعد باتجاه فندق البريستول، يوجد مبنى قديم يعود إلى الخمسينيات، كان في ما مضى فندقاً يُدعى تريامف Triumph. عرفتُ بوجود هذا الفندق في سياق بحث كنت أقوم به منذ سنوات عن السيدة بدور الداهوك التي عُرفت باسم عفاف.
في هذا المبنى المؤلف من ست طبقات، أسست عفاف صالونها الذي عرف شهرة كبيرة في أواخر الخمسينيات، عندما ارتبط بفضيحة اجتماعية وسياسية سنة 1957 في عهد الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون، وقد استُخدمت هذه الفضيحة كأداة تعبئة ساهمت في إطلاق شرارة ثورة 1958.
قامت عفاف بثورة حداثية في ميدان صناعة البغاء، فبنت صالوناً على طريقة «المنازل المغلقة» maisons closes الفرنسية، معلنةً بداية زمن جديد في البغاء، وهو زمن متحرر من قيود المرحلة العثمانية، وهي القيود التي حصرت البغاء في شارع مُقفل، عُرف باسم «السوق العمومي»، كان له مدخل واحد، وتُفرض عليه شروط اجتماعية وصحية صارمة، كأن تمنع العاملات من مغادرة المكان إلا لأسباب طارئة، شرط أن يضعن إشارة محددة تدل على مهنتهن.
صار السوق العمومي مكاناً كئيباً يرتاده متوسطو الحال والفقراء، وهرمت نساؤه، وخصوصاً بعد غياب ماريكا اسبيريدون، التي أضفت على المكان حيويتها الخاصة، وكانت ظاهرة اجتماعية، حتى أن اسمها صار مرادفاً أو بديلاً لاسم بائعة الهوى.
والمفارقة العجيبة أن الشارع الذي اختارته السلطات اللبنانية ليكون مقراً للسوق العمومي، حمل اسم شاعر العرب الأكبر، المتنبي، كأن ضبّة وأمه «الطُرطبة»، لم يكتفيا بقتل الشاعر بسبب قصيدته الهجائية البذيئة، بل لاحقاه وانتقما من اسمه في بيروت.
في أواسط الخمسينيات بدأت بيروت تتحول إلى مدينة جديدة، الرأسمالية المالية تتضخم بسبب تدفق البترو دولار، المصارف شرعتْ في احتلال المتن الاقتصادي، ولبنان صار منتجعاً لأمراء الخليج ومشايخه. واتخذت السلطة في زمن الازدهار الشمعوني صيغة جديدة، من مهرجانات بعلبك إلى بداية تحول شارع الحمرا إلى المركز التجاري والخدماتي للمدينة بدلاً من «وسط البلد» القديم، واجتاح المناخ الكوزموبوليتي المدينة.
كان من الطبيعي أن تنعكس هذه التحولات الاجتماعية على ليل بيروت وعلى أقدم مهنة في التاريخ.
فكانت عفاف.
انفجرت قصة عفاف وبيت الدعارة الذي أسسته على أيدي صحافيين ومحامين كتبوا في الصحف والمجلات «وقائع» مرعبة عن وسائل عفاف في غواية الفتيات وابتزازهن بهدف دفعهن إلى ممارسة البغاء، (تخديرهن وتصويرهن…)، وأصيب المجتمع بالذهول أمام فكرة امتهان فتيات من المجتمع «الراقي» للمهنة. كما سرت أخبار عن زيارات كبار السياسيين منزل عفاف. لكن الفضيحة الكبرى التي انكشفت هي تواطؤ بعض كبار القضاة والأمنيين في تغطية عفاف، ما سمح باتهام العهد الشمعوني بالضلوع في المسألة، وقاد كمال جنبلاط إلى إطلاق شعاره الشهير في وصف حكومة سامي الصلح بأنها «حكومة عفاف».
انتهت القضية في المحكمة حيث حُكم على عفاف بالسجن ثلاث سنوات، بعدما رفض الشهود- الضحايا، أي الفتيات، الإدلاء بإفاداتهن، وانتهت حكاية عفاف بمقتلها عام 1970، وقيل إن القاتل هو شقيقها، واعتُبر الحادث جريمة شرف!
في غمرة الفضيحة صكّ الكاتب سعيد تقي الدين عبارته الشهيرة «عفاف التي تُحاضر في العفاف»، وصارت هذه العبارة مثلاً، وجواباً على خطب السياسيين الفاسدين الذين يدعون إلى الصلاح والإصلاح.
لا أسعى في هذا المقال إلى تبرئة عفاف أو إدانتها، فالمسألة لا تزال غامضة. وعلى الرغم من أن القاضي جورج ملّاط، أشار في أحد فصول كتابه «القاضي يتذكر» إلى فضيحة عفاف، فالمسألة لا تزال في حاجة إلى البحث والعودة إلى الأرشيف.
لماذا علينا إذاً الاعتذار من عفاف؟
نعتذر منها لأننا نشعر أن على هذا الزمن الذي نعيشه أن يعتذر من زمن عفاف.
ففي زمن عفاف كان هناك شيء اسمه الفضيحة، وكانت الفضيحة تهزّ الرأي العام، وتُسقط زعماء، وتبهدل قضاة ورجال أمن، وتشكّل أداة محاسبة في يد المجتمع.
وفي زمن عفاف كان هناك قضاة شجعان في مواجهة قضاة فاسدين، وكانت الصحافة تتمتع بهامش كبير من الحرية وليست أسيرة مطلقة للتمويل الخارجي الذي صار أداة المستبدين العرب لقتل الصحافة وتعهير أقلام العديد من كتابها.
وفي زمن عفاف، عاشت بيروت تحولات الحداثة، ودفعت ثمنها، فالمدينة- المرفأ، صارت مرآة التحولات والصراعات في المنطقة. وفي صخب ثورة 1958 التي تزامنت مع حكاية عفاف، أعيد بناء توازنات المنطقة عبر إعادة التوازن إلى نظام لبناني هش، بإجراءات إصلاحية، كان النظام الطائفي يمانع بشراسة ضدها.
وفي زمن عفاف بدأ انهيار السوق العمومي بنمطه العثماني التقليدي. صحيح أن السوق كان في حاجة إلى الحرب الأهلية كي يُقفل، لكن زمن عفاف أعلن نهايته.
زمننا نسي معنى كلمة فضيحة، لأن فضيحته الوحيدة هي أنه لا يعترف بوجود الفضائح، ويمتلك قدرة عجيبة على ابتلاعها وتدويرها.
زمننا يعتذر لأن الكلمات فقدت معانيها كلها، وصارت ممسحة بين أقدام قادة المافيا اللبنانية الذين صنعوا للبنان خرابه الشامل.
ففي زمننا صار «العفاف» خطاب العهر السياسي الذي لم يرَ في كوارث لبنان، من الحرائق التي اشتعلت عشية انتفاضة 17 تشرين إلى الانفجار القيامي في المرفأ، سوى تأكيد للتسلط وإمعان في تكرار المكرر فوق خرائب الأرواح اللبنانية الهائمة.
زمن خرجت فيه «نخب» اللصوص من حياة الناس بشكل كامل، لأنها تعيش إنكاراً شاملاً لجريمتها، وتريد اليوم فرض هذا الإنكار على المجتمع، مثلما فرضت النسيان في زمن الإعمار الوحشي.
كما ترين يا سيدتي، فاعتذاري مؤقت؛ لأنني كغيري من أبناء انتفاضة تشرين، سنبقى نراهن على الولادة الصعبة للمعاني، حيث سيخرج «الحي من الميت».
وفي انتظار هذا الخروج، ومن خلال زجاج المدينة المطحونة بالدمار، وسُحب الغاز المسيّل للدموع، وإيقاع الرصاص المطاطي الذي فقأ العيون، نعتذر اليوم كي نستطيع في يوم آتٍ لا محالة، أن لا نعتذر.

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here