المُحرم

0

نضال جرجنازي، كاتبة قصة لديها مجموعة قصصية قيد الطبع.

أوراق 19- 20

القصة

تحوم الطائرات في أجواء الرقة كالبعوض تماماً، عندما يقال هنا سورية فاعلم أن كل شيء مغاير لكل المعايير التي اتفق عليها حكماء البشر منذ آدم حتى الآن. لن تجد هنا أية قواعد إنسانية أو دينية ولا حتى أخلاقية، ما يغيظ حقاً لدرجة أن البراكين الخامدة منذ تكون الأرض، قد تنفجر قهراً في القطبين الجليدين، هو قلق هذا البان كي مون، قلقنا كسوريين على ما قد ينتج عن هذه الغازات المقرفة، أضعاف ما اعترى هذا المسكين، لما لا يكف هذا الـ.. عن خزعبلاته، ربما لأن السوريين لم يبادوا حتى الآن عن بكرة أبيهم!

على فكرة هذا ما يجول في خاطر أي سوري حسبنا الله ونعم الوكيل، فلنقترب من الأرض قليلاً حيث السواتر الترابية – موضة هذه الأيام لا حول ولا قوة الا بالله – هنا تحديداً يقبع مشفى لما يسمى الدولة الإسلامية، كان سابقاً مشفى كأي المشافي ولكن على ما يبدو لابد من هذه الرايات السوداء، ما يثير عسف التفكير الممض، هذا العمه الجامح والمعّوج والشغف برايات أصحابها إيمانهم هو رايتهم الخالدة لا تلك الرقعة من القماش التي هي للأسف جعجعة لجحيم له دوافعه فقط ، كأن السوريين بحاجة للمزيد!

إذا دخلت إلى بهو المشفى ستصاب بالذهول من كثرة الوجوه الغريبة، وستكتشف نماذج عجيبة لأبناء أدم، لست الوحيد إذاً، هناك نسيل لأبانا الأول من كل العروق، ولكن عرقك أنت تحديداً سيدلك حتماً على نموذج خاص، رغم أنه ليس فريد عصره، ولكنك ستعرفه مباشرة، آآها.. ها هو ذا رجل يعدُّ نفسه مسؤولًا عن الشريعة الإسلامية في المشفى، على فكرة، لا بد من وجوده وإلا سيقفز أبو جهل من جهنم في أية لحظة ليرجعنا نحن الأغنام السائبة إلى الجاهلية، ما أتفهنا من قطيع غبي سنهلك بدون رعايته.

  لذلك تراه يقف بعنجهية لا تُمارى وبعكظة لا بد منها، بل سرمدية في سحنة أي مسؤول في وطننا العربي، متوسطاً رجلين الأول أصفر الوجه صفيف العينين قصير القامة، والآخر طويل كنخلة سحوق دهمته الشمس لدرجة لا تصدق، كأنه من صلب حام بل هو كذلك بالفعل.

بدأ الشرعي يمارس هوايته المفضلة على شيخ وقف أمامه على مضض: أنت المرافق؟

كان الشيخ يختلس النظر حيث ترامت كتلة بشرية مجللة بالسواد على كرسي متحرك، لم يسمع ما قيل له بداية، فأستأنف الشرعي يخاطبه: هيه أنت ألم تسمع أأنت المرافق؟!

وكأن الشيخ أفاق من سبات اتسعت عينيه وقال: أتحدثني؟!

وعندما هز الشرعي رأسه بالإيجاب، قال بصوت منخفض: نعم أنا هو رفيقها. أقصد تلك التي قلتها تواً.. تعبت المسكينة.. وجاري أبو عقلة تكفل بنقلنا إلى هنا، واضحة كعين الشمس، هل يبتلي سوى الرجال حين تمرض النساء.

_ ما شأني أنا بكل هذه الترهات أنا الشرعي هنا، وأسألك ما دمت مرافقها ما قرابتك بها؟

سهم الشيخ وكأنه علق في الزمن، وقال بعد تفكير ليس بطويل: هي ابنة عم خال.. هي حكاية بعيدة ولكن تربطني بها قرابة لسنا غرباء.

_ بالمختصر أنت مُحرم لها؟

شنف الشيخ برأسه وقال بامتعاض: اتفل من فمك أي محرم عليها أنا زوجها وهي زوجتي!

_ جيد لأنك لست مُحرّماً عليها، لأنك لو لم تكن كذلك لربيت فيك القرود السود.

ابتسم الشيخ بلطف وقال: ما أظرفك يا شيخ قرود سود قال.. وهل عندنا قرود سود!

قال الأخيرة وحلق ببصره حيث هامة الأفريقي وما لبث أن نزل من شاهق النخلة إلى ذلك الأسيوي القصير، وأكمل وهو يتنهد لسبب ما: وأم لسبعة قرود أقصد سبعة أبناء، المصيبة أن الحياة لا تكتمل إلا بهذه الـ.. واحدنا يقضي شبابه يجمع القرش فوق القرش ليجلب لنفسه هذه المصيبة. ندت على وجه الآسيوي ابتسامة وأوشكت أن تصبح شيئاً أخر لولا أنه تداركها. تابع الشرعي جيد ما دمت مُحرماً لها تستطيع الدخول معها لغرفة العمليات.

ذهل الشيخ: ماااذا تقول؟

رفع الشرعي عقيرته ومد عنقه ناحية الشيخ: بما أنك مُحرم لها تستطيع أن تدخل معها إلى غرفة العمليات.

كأن أحدهم صفعه بقوة رجع خطوتين ألى الوراء، حيث أستند إلى الجدار، ونظر إلى الأفريقي علناً هذه المرة ليتأكد أن الكلام لم يصدر عن أحد قد يعجن الكلمات ويلوكها لتخرج بهذه الدرجة المفزعة، فابتسم الأفريقي موضحاً على طريقته هذا اللغز، وقال برقة بالغة على أساس إنه أبو الأسود الدؤلي: مُهرم.

تغصن وجه الشيخ وقال: رغم أنك دعست بحافرك على البقل، لكن فهمنا ما تعني، لا يا ابن أخي هذه ثقبنا أذنها التي بعدها؟ لم تستطع ابتسامة الآسيوي التي رغم كبتها، اتسعت تطلب الاستزادة وتحولت رغماً عن صاحبها إلى حمحمة، لكنها لم تمنعه من التعبير عن فصاحته فقال: أتقصدين دخوله معك لغرفة العمليات هيء.. هيء؟

تنهد العجوز هو يرمقه بتأن قبل أن يرجع للسجال مع الشرعي وقال يهز رأسه باستنكار: الشيخ الثاني أتى ليكحلها فعماها، لكن مفهومة، هنا وضعنا الجمّال، أجدّ هي أم مزاح، عيب.. أقصد.. لا يجوز يا شيوخ أنا عمكم أتهترون بي بهذه الطريقة، أتسخرون من بياض الشيب في رأسي؟! قطب الشرعي حاجبيه: عن أي هتر تتحدث هل سبق ولعبنا معاً في الأزقة ليكون بيننا مزاح أبي طفل مقارنة بك، هو ما سمعت ستدخل معها إلى غرفة العمليات؟

صحل صوت الشيخ من الانفعال: ما شأني أنا لأدخل معها، هي المريضة أنا سليم معافى، أهذا جزائي لإسعافها، اصدقوني القول أليست هي من طلبت ذلك، أنا أعرفها ناعمة الملمس ولسعتها للقبر، حتماً هي من تصر الآن على دخولي، عمكم ليس غبياً، البارحة بعت خروفها البني وإذ بها تئن وتعنّ ليلاً، تريد أن تخرج النقود من جيبي بطريقتها الخاصة، أنا أفهم كيدهن عظيم، حسناً قولوا لها النقود لن نختلف عليها، لكن غرفة العمليات: لا وألف لا.. ولا حتى في أحلامها. والتفت حانقاً حيث كان الكرسي المتحرك قابعاً وفوجئ أنه اختفى في مكان ما فكمد وجهه. أخذ الشرعي يشرح: يا تيس لأن وجودك ضروري جداً، يحب أن تكون موجوداً.

اهتاج الشيخ: ما معنى دخولي معها، لا تقل لي أن الجرّاح لا يجيد عمله إلا بوجود أحمق مثلي، أنا مثلاً لا أجيد الغناء لأرفه عنه، إذا كان مصراً جداً سأصفق له قرب باب غرفة العمليات ليطرب أثناء بقر بطن زوجتي، أضحكوا كيفما شئتم، لكن لا تقنعوني بأن من قضى عمره يدرس ليلبس تلك الـ.. ما أسمها.. ينتظر مني حضوراً سحرياً، أعرف أنها.. ولكن ما ضرورة وجودي، لست تيساً لهذه الدرجة.. لذا ادخل أنت يا شيخ بالنيابة عني فأنت شخص مهم جداً هنا وأمثالكم – شمل رفيقه ببصره – يفهمون كل شيء، نعم تفهم كثيراً أنت بالذات – قالها وهو يكزّ على أسنانه – وهل يعقل أنك دااابة  مثلاً.. لا سمح الله.. لا حاشاك أن تكون كلباً ابن كلب لا أبداً، قل له بكل وقار عمك أبو مصلح يهديك السلام ويقول لك إذا كانت مرارة العجوز بليت فليرم بها بعيداً.. أساساً هي شيطان بثوب امرأة بمرارة، أو بدونها، الطحال كذلك إذا كان يغني يا ليل يا عين فليرمه أيضاً، لا أريد قلة أدب في بطن العجوز، أنا مصر على أن يبذل قصارى جهده لترجع العجوز شابة وإلا سأبقيها في عهدته يجب أن يفهم ذلك جيداً، النقود ما دامت ستخرج بحفض، مناسبة وحصلت.

وسط بحلقة الشرعي الغاضب وسعال الآسيوي المتواتر وهو متوقع على نفسه يرتعش ضاحكاً والهيء هيء تحولت لهوء هوء.

أخذ الشيخ يتأوه وهو يقول: للأسف أن دماغها النتن بالأعلى وألا لكانت رائعة منه أن يخلصني من تلك القذارة بالجملة. كل هرطقة الشيخ وهزله للهرب من جحيم فكرة دخوله معها لم تجدي نفعاً.

 انفجر الشرعي أخيراً وجأر بوجهه: عامل فيها مهرج، وتخلط الحابل بالنابل على فكرة أنتم العامة لا تختلفون عن الحمير في شيء، ستدخل رغماً عن أنفك، لأن وجود رجال غرباء معها بدون مُحرم حرام سيعتبر الجميع زناة حتى عجوزك زااانية، أفهمت الآن يا صاحب الرأس الصدئة.

تضخمت تفاحة آدم في عنق الشيخ وقال بصوت غليظ، لكن مكبوت:

أتريدون أن تخرجوا الشرع من..؟ وأشار إلى مكان ما في جسده.

تشظّى الآسيوي ضحكاً منذ أن عرج الشيخ على طحال زوجته وسط جولته تلك، ولكن في هذا التوقيت بالذات جلجلت قهقهة الافريقي الهادئ الرزين بصوت قوي جامح شأن الحنجرة الرخيمة الفخمة لأبناء القارة السوداء، لدرجة أن جمهوراً لا بأس به تجمع حولهم.

التفت الشرعي ناحية رفيقيه وقال بعد أن زفر بضيق صدر: تضحكان وأنا أخوض غمار بهامته وحدي. رجع لجبه الشيخ: هذه فتوى جديدة ويجب تطبيقها، حباً بالله اعترض عليها أيها التافه، لنتسلى برأسك قليلاً ونحن نقذف روحك إلى السماء.. شحب الشيخ وجفت الدماء في عروقه، حتى أن يده اليسرى تحديداً بدا له أنها انفصلت عنه، رغم ثقلها الذي يثبت أنها لا زالت معلقة بكتفه فأردف يتعتع: أنا لا أعترض ولكن.. أيجوز الأبناء لهذه ال..

_ طبعاً يجوز.

ضرب الشيخ قدمه على الأرض من شدة الانفعال وقال: الأوباش وكأنها تخصني وحدي وليست أماً لهم،  فقط لو كنت أعلم بهذه الفتوى من قبل، ما العمل الآن كيف أتي بهم، واحدهم الآن يسند خاصرة زوجته خشية أن تتعثر في مشيتها، بينما حاوية نفاياتك أقصد القدر تقلب على راسي وحدي، أباها ذلك التسعيني الخرف الذي لا يساوي في سوق الرجال ملء أذنيه نُخالة حتماً كان سيصلح لهذه المهمة، المصيبة أنه فطس منذ يومين، ماذا كان سيحصل لو تأخر في نفخ روحه قليلاً، عاندت روحه إلا أن تصعد إلى فوق الآن تحديداً،  صحيح هو خنزير ولكنه سيفي بالغرض، أقسم كان سيقوم بعمل جليل لأول مرة في حياته القذرة، فقط لو أجلها قليلاً، كنت سأدعو له بالرحمة طول عمري. ابتسم الشرعي بنوع من التعالي وقال: رجعت لهسهسة المجاذيب، لما الحنش ولوي الحنك كل ذلك لن يجديك نفعاً على فكرة، اتبع الجرّاح إلى غرفة العمليات والا سأرمي بعجوزك خارج المشفى.

بداية لم يستجب العجوز وحرن في مكانه يتمتم بشيء ما حتى زعق الشرعي: بسرعة.

بتذمر رد الشيخ وبمقلتين حمراوين: سمعت لست أطرش.

 في غرفة العمليات استلقت عجوز على منضدة الجراحة شاحبة الوجه وقد استطال فكها السفلي بفعل التخدير بشكل مرعب، منظر الأنبوب البلاستيكي في فمها هال الشيخ، من هذه الجثة أيعقل أنه دخل غرفة غير غرفة ام مصلح، لم يعطه الجراح وقتاً للفرار فقد عاجل بمهارة وبسلاسة خبير محترف بفتح بطن العجوز، ما إن انبجست الدماء حتى سُمع صوت ارتطام قوي، جمدت نظرات الطبيب على نافذة الغرفة وقال بتوتر: هل قصف المشفى مرة أخرى؟

هنف طبيب التخدير الأصلع: لا ولكن القذيفة هذه المرة من عندنا، التفت وراءك.

عبارة التفت يتكبد مشقة تنفيذها من كان بديناً مترهلاً، وإذا كانت الرأس كبيرة غاطسة بين كتفين عريضين مكتنزين، وأضفنا أليها كرش رجل أربعيني قصير، حينئذ لابد من استدارة البرميل بالكامل. قال بصوت مخنوق من خلف كمامته: اللعنة لما لم يعطنا ظهره ووجهه للجدار، هل نحن نقوم بعمل لطيف ليتفرج علينا كالأبله، على فكرة هذا ما خمنته منذ أن القوا بهذه التعويذة في وجوهنا.

همس طبيب التخدير الأصلع وأومأ ناحية الباب: الجدران لها أذان.

اتجه الممرض نحو الباب وهتف: أبو رياض هيه أنت تعال وخذ هذا الرجل إلى الإسعاف.

هرول رجل بثياب عمال المشفى إلى الغرفة وقال ضاحكاً: منذ قليل كان يقرقر مثل ديك الحبش، والآن الدجاجة سبحت بالماء هيء.. هيء.

قال الجرّاح وهو يرمش بشدة: أحمله وناد على الشرعي لأعرف ماذا علي ان افعل، المصيبة أني بدأت بالجراحة فعلاً التوقف.. يعني.. بعد قليل دخل الشرعي الغرفة وقال بمقت:

منذ أن رأيته عرفت أنه رعديد، لا يهم الشرع هو الشرع لذا ابتعدا عنها حرام لا يجوز حتى ارجع بذلك الخرع مرة أخرى.

قال الجراح بقلق: بسرعة العجوز تنزف.

في قسم الإسعاف صب الشرعي زجاجة كحول كاملة على الشيخ وهو يدندن: أنت أيها المهرج منذ قليل كنت تثرثر عن بلدة بحالها، الآن سقطت مغشياً عليك من نقطة دم، أتدري أن الكرديات واحدتهن كاللبؤة وأنتم خرفان لا غير، حتى عمتي أكثر رجولة منك البارحة تقربت إلى الله بجز رقبة مرتد، وأنت شارب ولحية وعامل فيها سبع وتخر بهذه السهولة.

الزجاجة وما فيها وحتى النشادر أيضاً لم يحدثا تأثيراً في الشيخ، كما أحدثه سماع خبر التقوى المفرطة لعمة ذلك الشرعي وتقربها الطاهر النقي إلى الله بهذه الطريقة الـ – يحار اللسان أحياناً بالوصف في مأثرة كهذه – بالكاد فتح الشيخ جفنيه وقال بصوت خافت: عمك رجل في كل شيء إلا في هذه، واللحية والشارب إذا أجزت أنت هدية مني لـ.. بل سأترك لها الرجولة كلها من أجل خاطرك، إذا كانت هذه ميزتها عندك لا أريدها بتاتاً، أنا خرع رعديد وماذا في جعبتك أيضاً، لكن حباً بالله برحمة أمواتك أعفني من ال.. تجعد وجه الشرعي:

  • حرام لا يجوز الحلف بغير الله إنه شرك يا بهيمة.

_ كما تشاء.

_ بسرعة إلى غرفة العمليات وإذا أغمي عليك مرة أخرى، تأكد أني سأفرغ عليك كحولي الشخصي وهو فعّال وسحري فوق التصور، هيا لا تتلكّأ فدماغ زوجتك النتن لم يستأصل بعد.

بعد قليل استدعي عاملين من عمال المشفى لسحب المُحرم التعيس خارجاً وهو شبه ميت والدم ينفر من رأسه.

صرخ طبيب التخدير وهو يشيعه خارج الغرفة: بسرعة إلى غرفة العناية المشددة، وأنت هل تمشي على بيض بسرعة هو بين الحياة والموت.

دمعت عينا الجراح وقال: لعنة الله عليهم جميعاً أينقصني جثة أخرى، أنا لم أرتق الشريان الرئيسي بعد، دقيقة أخرى ونخسر المريضة من كثرة النزف، إن أكملت سيتم قتلي لأني بنظرهم سأكون زنيت بعجوز هي ليست مريضتي وحسب بل بمقام أمي، ماذا أفعل وسيف ذلك البغداداي فوق رأسي وذلك ال.. سيقفز أمامي كالقرد في أية لحظة!

قال طبيب التخدير بصوت خافت: توكل على الله وتابع عملك، الله كان ولازال وسيظل هنا – وضع راحته على قلبه – ما يدرى ذلك الصعلوك في أي مرحلة أنت، سيبقى مع الشيخ ليرد له الحياة إن أستطاع هذه المرة، عندها يكون من ضرب.. ضرب، ومن هرب.. هرب، أنت قلتها بلسانك جثة واحدة تكفي، تابع بهدوء وانس كل شيء، وتذكر فقط أننا أقسمنا قسم أبقراط، قبل أن يولد ذلك الكلب الذي لا يفكر إلا.. أستغفر الله العظيم.

هز الجرّاح رأسه وقد سكنت روحه قليلاً: سأحاول.. سأحاول – توجه بنظره ناحية الممرض الضئيل: أنت راقب الباب وإذا.. أسعل.. أرقص.. صفق.. افعل أي شيء لكي.. اتفقنا..

_ حسناً لا تقلق إذا اضطررت سأغني له دولة الإسلام صولي وانحري عندها سيقشعر بدنه تأثراً وتكون أنت أنهيت مهمتك.

في غرفة العناية المشددة أرتفع صراخ الطبيب: محلول ملحي بسرعة ودوبامين أمبووول وكانيولااااا لعلنا نمسك بها قبل أن تصعد إلى فوق فالرجل يتحضر.

من يسمع الزئير لا يصدق أنه يصدر عن ذلك الرجل النحيل، بل يدرك مباشرة، أي معمعة رهيبة ودقيقة وحساسة سيخوضها هذا المتجهم ليجادل روحاً تشاور نفسها أترحل إلى السماء أم تبقى في جسد صاحبها، مثله يعرف وعورة ما هو مقبل عليه وخطورته وأهمية ما سيفعل وما سيترتب نتيجة صراعه الملحمي في ذلك الوقت الحرج جداً والقصير.

هرع الشرعي إلى غرفة العناية المشددة: الكلب يناكدني لا تقل لي إنه فطس هي شقفة مرارة، هل طلبنا منه رأس أبو زيد الهلالي تفو.. على هكذا رجال نظر إلى طبيب العناية المشددة وقال كمن يتحدث عن بهيمة على وشك الموت: هل.. يعني..

أجاب الطبيب النحيل برصانة وهو كامد الوجه: رأسه أمرها تافه خمسة عشر غرزة ونغلق تلك الفجوة، المصيبة في ضغط دمه.

رفّ جفن الشرعي قليلاً وتنحنح، تابع الطبيب شارحاً: الانقباضي أربعة أما الانبساطي..

ندت عن الشرعي: هممم! وأخذ يهرش لحيته التي يحتمل أن دبوراً غزاها.

أكمل الطبيب: بالكاد يُسمع بالأحرى يصفر، وإذا.. قد.. أرجوك غادر.. رغم أنه.. ولكنه يسمع يستحسن أن تخرج يا… شيخ كي لا تزيد الأمر سوءا.. أنت بالذات يجب.. أفضل.. إذا كنت تريده بالفعل أن.. إن شاء الله ستستجيب أقصد هو.. سأفعل ما بوسعي.

تحولت الهممم إلى هوووف وقال بعد جهد: الأعمار بيد الله سبحانه وتعالى حتماً هذا يومه ما باليد حيلة هل نحن.. لا اطلاقاً.. نحن ننفذ لا غير.. أنا لم ألمسه! هو لوحده.. عمره انتهى..

اقترب من الشيخ وقال بصوت خافت: يا عجوز انهض الأمر كله نكتة.. هممم، لازال.. حسناً سأسمع نصيحتك أيها الطبيب، لا تقلب سحنتك واضح سأخرج ل.. لعنة الله عليك يا.. الشرع هو الشرع.

في هذه الأثناء وصل أمير الصحة إلى المشفى وشاع أمر الفتوى الجديدة ونتائجها التي على ما يبدو إن استمرت ستكون كارثية على الجميع، العجائز خاصة أي واحدة منهن ستقول آآخ، أبو مصلح وأمثاله هوووب إلى النهر مباشرة، الأمر سهل وغير مكلف.. وحتى الأسماك ستكون في غاية السعادة، لا داعي لتصديع رأس البغدادي ومفتيه ال.. القوم ينشرون الإسلام مرة أخرى ويحاربون الكفار الذين خرجوا من أحشاء التاريخ، بل إنه انتحار مقيت حتى حرام وإذا حصلت الوفاة في البيت حيث المحارم كثر تكون الأمور حسمت من تلقاء نفسها، هذا خير وألف خير.

كان وقع أقدام الشاب الثلاثيني الممتلئ الجسم على الأرض كالهزبر وقف في البهو يتفرس في الجميع غاضباً: أين أبو قثّاءة.. دلوني على أبو بطيخ.. أظهر يا دابة.

تناهى إلى مسمع الشرعي أسماءه الجديدة فكأنه خرج من جوف الأرض، وبقدرة قادر أمام الأمير وقال يبسم بتكلف: أمير هشام السلام عليكم ورحمة الله.. وصلتم..

زعق الأمير: دع عنك هذه الخزعبلات هل ما وصلني صحيح؟

_ هممم.. الرجل من تلقاء نفسه سلت على الأرض أنا لم ألمسه حتى هو لوحده قد يكون هذا يومه ال.. تفرس فيه الأمير وقال بغضب: أتعرف إذا فارق الحياة سأسلخ جلدك، وأربي فيك القرود السود، يا حيوان كيف فعلت ذلك؟

شحب الشرعي وقال: الفتوى صدرت ونحن.. سمعنا.

عندما حنش الأمير سرعان ما تحولت الـ سمعنا إلى توقعنا، عندها زمجر الأمير: كيف توقعت أمراً عارضناه نحن الأطباء بشدة وأوقفنا تنفيذه فوراً، أي بومة لعينة حملت إليك خبر هذه الفتوى، المفتي فكر بالأمر صحيح، ولكن تراجع عنه، أذا كان واحدنا لا يستطيع أن يجري عملاً جراحياً لأحد أفراد عائلته، نحن أطباء ولسنا جزارين، ولا نستطيع لمس من يخصنا، منذ أيام كاد أحدهم أن يودي بحياة أمه عندما أجرى لها عملية جراحية ارتعشت يداه أنخفض ضغطه كما حصل ما صاحبك.. وفي اللحظة الحرجة أكمل العملية عنه صديق له، وأنت بكل بساطة وببلادة دابة تنفذ أمراً.. نحن الأطباء لا نتجرأ على القيام به، أتدري سأحشرك مع أحد أقاربك في تلك الغرفة في يوم ما كما فعلت مع ذلك الشيخ لتدرك فداحة ما فعلت.

هربت أنفاس السبع الأشر من صدره، وكاد أن يذرف الدموع: لا أرجوك.. أنت قلت أنّكم ألغيتم الأمر قبل نفاذه.

_ ادع ربك أن يعيش الشيخ يا رأس القنّبيط.