حسين عبد الرزاق
باحث سوري من الجولان لاجئ في السويد
مجلة أوراق- العدد 17-18
أوراق الملف
في هذا الوقت حافظ السوريون على سيطرتهم السياسية على المناطق المنزوعة السلاح، والتي قسمت إلى ثلاثة مناطق شمالية ووسطى وجنوبية بمساحة تعادل 66.5 كم مربع، بينما سيطر الإسرائيليون عمليا على مساحة 44 كلم مربع فيما سيطر السوريون على مساحة 18.5 كم مربع.
كان بن غوريون يؤكد أن السلام مع العرب آت لا ريب خاصة بعد اقتناعهم بالأمر الواقع، ودعا الجميع في إسرائيل للعمل لتقوية الدولة وكان على قناعة تامة بمشاركة بعض المخلصين له كموشي دايان وشيمون بيريز بأن الحدود اليهودية لفلسطين لم تكتمل، وأنه من الممكن الاستفادة من الوضع المتوتر مع دول الجوار لتوسيعها علماً أن هذه الحدود الحالية أبعد ما تكون عن الحدود الآمنة لأرض فلسطين.
التطورات العسكرية والسياسية والمشاريع المائية بعد اتفاقيتي الهدنة
ابتداءً من عام 1949 وحتى عام 1955 كانت العلاقات السورية الإسرائيلية في حالة غير ثابتة، فمرت بحالة توتر أمني استعملت فيها القوة العسكرية، وفي حالات أخرى تميزت بعدم المجابهة واستعمال القوة العسكرية بالعمل السياسي القائم على مفاوضات مباشرة للتوصل لاتفاقيات وتسوية، إلا أن هذا الأمر لم يمنع حدوث انتكاسات خاصة مع انتصار الثورة المصرية وانتشار الفكر الثوري العربي مع بروز أفكار الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
الجدير ذكره أنه منذ أوائل الخمسينيات من القرن العشرين اشتدت وطأة المشكلة المائية بسبب تزايد الحاجة للمياه من نهر الأردن في مقابل ظهور مشاريع أمريكية لاستثمار مياه النهر بين العرب وإسرائيل وعلى الرغم من تضارب مصالح الطرفين، فإسرائيل كانت بحاجة للمياه لتطوير وزيادة المساحات المستثمرة في النقب لتكون جاهزة للاستيطان اليهودي، فيما اعتبر العرب أن النمو السكاني الإسرائيلي يهدد أمنهم ويتعارض مع مخططاتهم لاستثمار مياه نهر الأردن، كما شعر كل من لبنان وسوريا والأردن بخطر التسلط المائي الإسرائيلي والذي سيحرمهم من حصتهم المائية كما سيزيد من ملوحة مياه بحيرة طبريا.
واجهت الدول العربية في هذه الفترة دراسات المشاريع المائية الصهيونية بعدم الجدية والحزم وتقدمت بعض الدول العربية بمشاريع ضعيفة مقابل الاقتراحات الصهيونية، فطلبت الحكومة الأردنية من مردوخ ماكدونالد في عام 1950 وضع مشروع مائي لاستغلال نهر الأردن ورافده اليرموك ومياه بعض الأودية والينابيع لاستغلالها للري، فتقدم ماكدونالد بثلاثة اقتراحات لتخزين مياه نهر اليرموك عبر تحويلها إلى بحيرة طبريا لتخزينها ومن ثم إنشاء خزان لنهر اليرموك عند باتورا، ودراسة إمكانية إنشاء خزان على نهر الأردن عند نقطة التقائه مع نهر اليرموك.
في أثناء ذلك بدأت إسرائيل باحتلال بعض القرى العربية في المناطق المنزوعة السلاح على طول نهر الأردن ضمن الأراضي العربية وذلك اعتباراً من شهر آذار (مارس) 1951، وعمدت إلى طرد سكان هذه المناطق، فعملت الحكومة السورية على إسكانهم في الجولان ومن ثم تقدمت سوريا بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي الذي أدان الاعتداءات الإسرائيلية وأمر بإعادة السكان إلى أرضهم، هدفت إسرائيل من العمل البدء بتنفيذ خطتها للاستيلاء على المياه العربية، ففي 19 آذار (مارس) 1951 بدأت إسرائيل مشروع تجفيف بحيرة الحولة، فعادت وتقدمت سوريا بشكوى إلى لجنة الهدنة التي سارعت وعقدت اجتماعاً لبحث القضية وقررت اللجنة إحالة القضية إلى رئيس لجنة مشتركة لدراستها وإصدار ما هو مناسب، ولكن قبل إصداره تقريره عاد اليهود لمباشرة عملهم بتجفيف البحيرة بعد فترة من التوقف.
ومن المعلوم أن مشروع التجفيف للبحيرة كان قد منح عام 1934 لشركة تنمية أرض فلسطين (Palestine land development) اليهودية، إلا أن هذه الشركة لم يكن بوسعها العمل إلا إذا تمت السيطرة على بعض أراضي المنطقة المجردة من السلاح في الأراضي التي يملكها عرباً. من الملاحظ هنا أن إسرائيل واعتباراً من عام 1951 كانت قد امتنعت عن حضور اجتماعات لجنة الهدنة السورية الإسرائيلية كما رفضت السماح للمراقبين الدوليين المخولين الإشراف على الهدنة من دخول المناطق المنزوعة السلاح لمراقبة النشاط الإسرائيلي فيها، فيما صرح هيتشيسون قائد المراقبين الدوليين أن إسرائيل هي المسؤولة عن توتير الوضع على الحدود السورية – الإسرائيلية بسبب ممارساتها واعتداءاتها المتكررة في محاولة للسيطرة على هذه المناطق التي تفصل بين البلدين تابعت إسرائيل اعتداءاتها على المناطق المجردة من السلاح للسيطرة عليها، ففي 26 آذار (مارس) 1951 أقدمت إسرائيل على نفي سكان قريتي البقارة والغنام التابعتين للمنطقتين المجردتين الشمالية والوسطى إلى داخل إسرائيل، وسيطرت على مزرعة الخوري بعد احتلالها.
دفعت إسرائيل قواتها للتقدم داخل المنطقة الجنوبية المنزوعة السلاح بدءاً من 27 آذار (مارس) 1951، واعتباراً من 30 آذار (مارس) سيطرت إسرائيل على هذه المنطقة من سوريا. كما واصلت القوات الإسرائيلية عدوانها على المناطق المجردة من السلاح ففي 31 آذار (مارس) سيطرت القوات الإسرائيلية على مزيد من الأراضي وطردت 800 فلسطيني من أرضهم نحو سوريا.
في هذه الأثناء أصدرت الحكومة السورية تعليماتها إلى القوات السورية بعدم الرد على هذا الاعتداء، كما تطلب من حكومة صاحبة الجلالة التي كانت حريصة على حفظ السلم في الشرق الأوسط استعمال كل تأثيرها لدى الحكومة الإسرائيلية لوضع حد لهذه الاعتداءات، كما أجرت الحكومة السورية اتصالات مماثلة مع البعثتين الفرنسية والأمريكية في دمشق، علماً أن هذه المسألة تعود للجنة الهدنة السورية – الإسرائيلية.
لكن وجهة النظر السورية تؤكد أن هذه اللجنة أصبحت عديمة التأثير ما لم يتم الضغط على الحكومة الإسرائيلية بواسطة القوى الغربية.
مع بداية شهر نيسان (أبريل) 1951 بدأت أسباب الحوادث تتبدل ويعود ذلك إلى أن إسرائيل وضعت موضع التنفيذ مخططا لتحويل مياه نهر الأردن الذي ينحدر من الشمال إلى الجنوب عبر بحيرة طبريا وذلك من خلال تحويل جزء من مياهه عبر أنابيب نحو صحراء النقب لزيادة الرقعة الزراعية، علماً أن هذه الأعمال كان مخططاً أن يتم إنجازها في المنطقة المنزوعة السلاح أو التي سيطرت عليها إسرائيل عام 1948، في حين ادعى السوريون أن هذه الأعمال تشكل خرقاً لوقف إطلاق النار واتفاقيات الهدنة وطالبت إسرائيل بوقف الأعمال.
في هذه الأثناء عقد اجتماع للجنة الهدنة في 3 نيسان (أبريل) 1951 حيث توصل المجتمعون إلى مشروع اتفاق نص على ما يلي:
1-عودة الحياة الطبيعية المدنية للمناطق المجردة من السلاح كما كانت عليه قبل بدء الأعمال العسكرية.
2 – عودة السكان العرب الذين طردتهم إسرائيل إلى أملاكهم فوراً.
3 – إخلاء المناطق المجردة من الأسلحة والعسكريين الذين أدخلوا مع بدء الأحداث .
4 – إجراء مباحثات بين السوريين والإسرائيليين خلال مدة شهر على أن تتوقف أعمال التجفيف.
رفضت إسرائيل المقترحات مباشرة، وأبدت رغبتها بمواصلة أعمال التجفيف في البحيرة وطرد السكان العرب من المنطقة، وأعربت عن استعدادها لشراء ما بقي للعرب من أملاك في هذه المناطق، وهدفت إسرائيل من تجفيف بحيرة الحولة بالإضافة إلى السيطرة على المياه، إنشاء مستعمرات لتكون حاجزاً دفاعياً أمام الخطوط الحدودية السورية/ الإسرائيلية.
خلال ليلة 5 – 6 نيسان (أبريل) 1951 عمد اليهود إلى قصف القرى العربية ضمن المنطقة المجردة من السلاح، وسيطروا سيطرة تامة على هذه المناطق التي تقع غرب نهر الأردن ومن بحيرة الحولة شمالاً حتى جسر بنات يعقوب جنوباً، عندها تقدمت سوريا بشكوى إلى مجلس الأمن، وفي جلستيه الأولى والثانية بتاريخ 2 و8 أيار (مايو) 1951، ناقش مضمون الشكوى وأصدر قراره في الجلسة رقم 546 بتاريخ 8 أيار (مايو) القاضي “بوقف إطلاق النار في المنطقة المجردة من السلاح”، وفي رسالة وصلت إلى الخارجية البريطانية من سفيرها في دمشق نقل عن الملحق العسكري البريطاني الذي زار الجبهة بأن ذخائر الجنود السوريين قد اقترب من النفاذ، كما أنه لا يدري كيف سيكون للجنة الهدنة إعادة بسط سلطتها على هذه المناطق في الأيام القليلة القادمة، ونقل بعد لقائه رئيس الحكومة السورية وجهة النظر السورية حول المنطقة المنزوعة السلاح منتقداً فشل لجنة الهدنة من عدم تثبيت الحدود المرسومة على الخرائط على أرض الواقع، وطالما أن هذه هي الحال فسيكون من المستحيل لبعثة الهدنة أن تمنع العرب واليهود من التسلل داخل المناطق.
أما الحل الواقعي الوحيد هو إزالة هذه المناطق وأن يتم تحديد حدوداً مؤقتة على طول مجرى المياه الأساسي من قمة بحيرة الحولة إلى أسفل بحيرة طبريا، وسيكون بالطبع ضرورياً لهذه الخطة عدم تجفيف بحيرة الحولة للحفاظ على الفاصل الطبيعي بين الطرفين والحد من الخلاف، ولدى سؤال السفير رئيس الحكومة السورية عما إذا كان يعتقد أن هذا الحل قد يكون مقبولاً من الجانب الإسرائيلي، أجاب رئيس الحكومة: بأنه لا يدري، لكن برأيه فإن العرض كان عادلاً، أثناء ذلك وردت إلى الخارجية البريطانية اقتراحات لتعديل الحدود بين سوريا وفلسطين كما تناقلت هذه الوثيقة مواقف كل من سوريا وإسرائيل فيما لو تم عرض هذه التعديلات الحدودية، في حين عاد مجلس الأمن للاجتماع مجدداً لمواصلة درس القضية أيام 16 و18 أيار (مايو) حيث أصدر المجلس في جلسته رقم 547 تاريخ 18 أيار (مايو) قراره رقم 93 الذي طالب فيه إسرائيل بوقف أعمال شركة تحسين الأراضي الفلسطينية في الحولة على أن يتوصل رئيس لجنة الهدنة إلى اتفاق بهذا الشأن مع سوريا وهذا يعني أنه إذا لم توافق سوريا على أعمال التجفيف فعلى إسرائيل أن تتوقف، كما طالب القرار كل من حكومتي سوريا وإسرائيل الالتزام الكامل باتفاقية الهدنة العامة الموقعة في 20 تموز (يوليو) 1949، كما طلب المجلس من رئيس فريق المراقبين في الهدنة وبالتشاور والتعاون مع المجتمع المحلي بإيجاد وضع يخوله وضع الترتيبات الضرورية لاستعادة الحياة الطبيعية للسكان المدنيين ولاستعادة مسؤوليات الادارة المباشرة للمنطقة “المنزوعة السلاح”، لكن الجنرال رايلي كبير المراقبين في لجنة الهدنة ابتعد عن مضمون القرار حين أصدر قراراً سمح فيه لليهود بمواصلة أعمالهم، وهكذا وجدت إسرائيل نفسها غير ملزمة بحضور اجتماعات لجنة الهدنة حتى لا تتقيد بقرارات اللجنة وحتى يتسنى لها تحقيق مرادها من تجفيف البحيرة.
تعقيباً على ذلك ذكر السفير البريطاني في دمشق أن الأوضاع أصبحت أصعب في سوريا وأن الكره للأجانب ارتفعت وتيرته وهذا يعود إلى الموقف الغربي من مشكلة الحولة المتنازع عليها مع إسرائيل والتي لم تحل حتى الآن، مع العلم أن الأوضاع لا تسير نحو الحرب في هذا الوقت، فعلى العكس من ذلك فالطائرات العراقية قد عادت إلى بغداد والقوات السورية تنسحب عن الجبهة السورية، إلا أن ذلك لا ينفي أن المشكلة بالنسبة للسوريين هي أمن قومي كذلك يعتقدون أنهم مهددين بخطر الاحتلال عاجلاً أم آجلاً من قبل القوات الإسرائيلية، كما أنهم لا يثقون في أي حال من الأحوال بضماناتنا حيث يتم تشبيه هذه الضمانات بتلك التي أعطيت لبولندا قبل الحرب.
يضاف إلى ذلك الخوف من المستقبل خاصة في ظل استمرار تدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين وحاجة إسرائيل إلى المزيد من الأراضي لإسكانهم، لهذا ولإخماد هذا الخوف لابد من الحد من الهجرة أو ضبطها حسب قولهم لإعادة الطمأنينة إلى نفوسهم ولإفساح المجال أمام إعادة مناقشة المسألة بشكل نهائي، لهذا يجب على القوى الغربية الضغط على إسرائيل لإعادة فتح الباب أمام السلام في الشرق الأوسط.
وفي رسالة ثانية تناولت جلسة بين السفير البريطاني ووزير الخارجية السوري، نقل السفير عن وزير الخارجية النظرة غير الجدية السورية للضمانات الغربية ومنها التزام الحكومة الأمريكية بالدفاع عن الشرق الأوسط، وقد رجوته أن يأخذ الضمان الذي أعطي دون أي ضغوط، وأن يأخذه بجدية، أضف أنني لم أصدق أن إسرائيل ككل لديها أطماع عدوانية، وقد عبر سعادته عن وجهة نظره أن إسرائيل لا يمكنها البقاء اقتصادياً ضمن الحدود الحالية، ولكنني اقترحت بأنها قد تعيش كدولة اصطناعية بصناعات عالية وامدادها برؤوس أموال واستثمارات كبيرة، ولطالما اعترضت سوريا على منح إسرائيل قروض كبيرة ولكن هذه الأموال فقط كانت الكفيلة بجعل إسرائيل قادرة على الاستمرار ضمن حدودها الحالية، دون الحاجة إلى تمديد حدودها، كما أن عدم التشجيع السوري والمقاطعة العربية لإسرائيل كانا يزيدان من خطر سعي إسرائيل لبدائل أخرى لضمان استمرارها.
الجدير ذكره أن أحد القائمين بالأعمال في السفارة الأمريكية في سوريا كتب في عام 1951 يصف صورة الوضع الداخلي في سوريا نتيجة تأزم الأمور بين سوريا وإسرائيل من خلال ما كتبه في سجل السنتين الأخيرتين ويدل على أن سوريا بكل تياراتها وفئاتها تضع كافة إمكاناتها للحصول على السلاح مهما كان الثمن، والغاية من هذا السلاح أولاً وأخيراً الحفاظ على أمنها بصدّ أي هجوم إسرائيلي، في حين أن حفاظها على أمنها ضد عدوان شيوعي ليس إلا أمرا ثانويا فقط.
في هذه الأثناء أعلن رئيس الأركان الإسرائيلي موشي دايان للإذاعة الإسرائيلية يوم 12 شباط (فبراير) 1952 أن على الشعب الإسرائيلي أن يكون مستعداً للحرب، فيما تعتمد إسرائيل على جيشها لحسم المعركة مع أعدائها في سبيل تحقيق الإمبراطورية الإسرائيلية، فيما أعلن مناحيم بيغن زعيم حزب حيروت عن قناعته بضرورة قيام إسرائيل بضربة عسكرية ضد العمق العربي لإنجاز هدفين:
الأول: القضاء على القوة العربية.
والثاني: توسيع رقعة أرض إسرائيل.