نجم الدين سمان، كاتب ومسرحي
مجلة أوراق- العدد 14
المسرح
مقدمة
بدءاً من خَيار أبي خليل القباني 1833 – 1903 في استلهام تراثنا العربي: حكايةً وشعراً وغناءً ورقصَ سماحٍ.. في أول عرضٍ مسرحيّ له عام 1865 (1)؛ مروراً بتجربة يوسف نعمة الله جَدّ في حلب 1842 ـ 1903 حين ترجم وأعدَّ وأخرج نصاً مسرحياً فرنسياً بعنوان “بريجيت” عام 1872 في باحة “المدرسة المارونية” دون أن نعرف اسمَ المُؤلف الفرنسيّ (2) واللافتُ طباعتُها في “المطبعة المارونيّة بحلب” ضمن كتابٍ بعد نجاحها كعرضِ مسرحيٍّ حيث انتشرت عدوى المسرح في المدينة مُذْ ذاك. (المصدر السابق رقم 2).
هكذا.. بقي مسرحنا السوري وحتى اليوم ينوس ما بين تأصيل المسرح عربياً وبين تأثيرات المسرح الغربي؛ كما بين مسرح شعبي وبين مسرح نخبويّ.
مسرح مدرسي وفرق خاصة وفي النوادي والجمعيات الأهلية السورية
بعد إحراق مسرح أبي خليل القباني في دمشق؛ لم تنقطع العروض المسرحية؛ حيث قدّم اسكندر فرح 1851 – 1916 في دمشق مسرحيات: شهداء الغرام – صلاح الدين – مملكة اورشليم – مطامع النساء – حُسن العواقب – اليتيمين – الولدان الشريدان – الطواف حول العالم؛ وقد كان عضواً في فرقة أبي خليل القباني وتأثر بأسلوبه الفنيّ. (3)
كما استمرّت الحياة المسرحية في المدارس السورية وذلك في أبرز المدن السورية: دمشق – حلب – حمص – حماة.. وسواها؛ قُدّمت نصوصاً مُستقاةً من التاريخ العربيّ أو الوطنيّ السوريّ؛ إلى جانب نصوص غربية مُترجمة؛ وبخاصةٍ بعد الاستقلال السوري الأول 1919.
ففي حلب وحدها تشكلت فرق مسرحية في مدارس: “الفاروقيّة – المارونية – الشرقية – العربية الإسلامية – مكتب الصنائع” كانت تستقي مادتها من التاريخ العربي الإسلامي: “صلاح الدين الأيوبي – النعمان بن المنذر” الخ؛ وكان شرف الدين الفاروقي أولَ مُشرفٍ على مسرح نسائيّ مدرسيّ في مدرسة “الصنائع النسائية” في حلب التي كانت تقع في “حيّ الفرافرة” الشهير. (المصدر السابق رقم 2)
واستمرّ المسرح المدرسي بمسرحيات وطنيّة نَدَدت بالاحتلال الفرنسي، وفي إحداها: “استقلال أمريكا” انفجرت ماسورة مُسدس مُفرقعات مَحشُوٍ بالبارود في يد خير الدين الأسدي علاَّمة حلب وصاحب “موسوعة حلب المقارنة” فحسر كفّه وهو يمثل أحد أدوارها الرئيسية. (المصدر السابق رقم 2)
وكانت قد تشكلت نوادٍ فنيّة وثقافية قدمت اسكتشات فكاهيّة انتقاديّة. كما تشكلت فرق مسرحية في أبرز المدن السورية: دمشق – حلب – حمص وسواها؛ مثل فرقة “نادى الاتحاد” في دمشق وفرقة “حسن حمدان المسرحية” وفرقة “جورج دخول” وكانت تقدم عروضها على مسرح “القوتلي” في حيّ السنجقدار، وفرقة عبد اللطيف فتحي وفرقة أنور مرابط وفرقة سعد الدين بقدونس.. الخ؛ وكذلك فرقة “ناديا” لصاحبتها ناديا العريس؛ وكانت أكبرَ فرق التمثيل في ثلاثينات القرن العشرين، حيث ضمّت أكثر من 120 فنانًا وفنانة كان من بينهم عبد اللطيف فتحي 1916 – 1986 حتى صار مديراً فنياً لها، وكانت تقدم عروضها على مسرح “الكاريون” بدمشق. وكانت العروض تُقدم أيضاً في صالات السينما.. كصالة سينما “عايدة” في دمشق؛ وسينما “اللونابارك” في حلب. (المصدر السابق رقم 3)
وأسّس عبد الوهاب أبو السعود 1897 – 1951 في دمشق عدداً كبيراً من النوادي: نادي الاتحاد والترقي 1918 الذي تحوّل إلى “النادي العربي” بعد دخول الملك فيصل إلى دمشق، و”نادي الكشاف الرياضي” 1928، ثمّ أسّس “نادي التمثيل والألحان” عام 1933، على الرغم من مُلاحقة السلطات الفرنسية له، من مكانٍ إلى آخر. وإلى جانبه برز اسمُ معروف الأرناؤوط 1892- 1948 كاتباً ومُترجماً، وبخاصة مسرحيته الشهيرة “جمال باشا السفاح” 1919. (المصدر السابق رقم 3)
كما شهد عقد العشرينيات من القرنِ الماضي تأسيس عشرات الفرق المسرحية في المدن السورية؛ لكنها تقلّصت في الثلاثينيات نتيجة رقابة الانتداب الفرنسي وإغلاقه للكثير من النوادي التي حرّضت ضدّ الاحتلال بمسرحيات وطنية.
بدايات مسرح شعبي سوري.. وبخاصةٍ في حلب ودمشق
في حلب ظهر ثنائيّان شعبيّان كأنهما يُعيدان إنتاج “كراكوز وعيواظ” ولكن بلا شاشة ظلّ وهما: عبدو السوّاس، الذي كان يعمل بالفعل بائع عرق سوس وعبدو التنكجي وكان يصنع التنكات والأباريق ويُصلِّح بوابير الكاز فالتقت موهبتهما الفطرية عبر حواريات هزلية في السهرات نالت استحسان الناس حتى أسَّسا “فرقة نجمة سوريا” عام 1919 واستأجرا مقراً لعروضها في دار عربيةٍ واسعة جعلا من مصطبتها الحجرية خشبةَ مسرحٍ ومن باحتها صالة للجمهور ومن غُرفها العديدة المُطلة على الباحة أمكنةَ للعائلات تُتابع النساء من نوافذها ما يُعرض دون أن يراهُنّ أحد. وقد حفلت حواراتهما الهزلية بالنقد للمجتمع ولمساوئ الاحتلال وغيرهما، ومن فصولهما التمثيلية “قاضي الولاد شنق حالو”. (المصدر السابق رقم 2)
وفي عَقْد الأربعينيات أخذت ملامح مسرح شعبي “كوميدي غالبا” تتوضح تأثراً بما كان سائداً في المسرح المصريّ وبخاصةٍ مع “الفرقة الاستعراضية” التي أسّسها عبد اللطيف فتحي وكانت تقدم عروضها باللهجة المصرية قبل أن ينتقل الى اللهجة الشامية ويُغيّر اسم فرقته إلى “فرقة عبد اللطيف فتحي” وكان قد تشارك مع صديقه الزجّال الشعبي “عبد الغني الشيخ” في تأسيس فرقة خاصة جوّالة تنتقل بين المدن لعرض أعمالها، وكانت أول مسرحية يقدمها بعنوان “البدوية جميلة” سنة 1934 وفي الستينيات أنشأ أيضاً “فرقة المسرح الكوميدي”. (4)
والتأثر بالمسرح المصري بدأ مع استضافةُ فرق مسرحية مصرية في سوريا منذ 1905 ومنها: فرقة سلامة حجازي – فرقة جورج أبيض – فرقة يوسف وهبي – فرقة فاطمة رشدي – فرقة نجيب الريحاني – فرقة علي الكسار.. وسواها. (المصدر السابق رقم 4)
شهدت الخمسينيات تأسيسَ الكثير من هذه الفرق؛ بينها مثلا ً31 فرقة في حلب وحدها؛ كان من أبرزها: نادي شباب العروبة نادي التمثيل العربي، جمعية الأدب والفنون؛ وفرقة المسرح الشعبي التي أسّسها الفنان عمر حجو والمخرجان سليم قطاية وجميل ولاية في حلب، وضمّت أولَ مُمثلتين سوريتين احترافاً.. هما: ثناء وثراء دبسي. (5)
حكمت محسن.. ورسم ملامح الشخصية الشعبية السورية
تتجلَّى هاهنا ريادة حكمت محسن 1910 ـ 1968 في تأسيسه للدراما الشعبية السورية: مسرحياً وإذاعياً وتلفزيونياً، وفي ابتكاره لشخصيات “كاركترات” دراميّة شعبيّة – دمشقيّة خصوصاً- من مثِل: أبو رشدي – أبو فهمي – أم كامل – صابر أفندي – درويش – أبو صياح – سعد حنِّي كفَّك – أبو شاكر. حتى صار الناس وقتها؛ يٌسمّون كلّ بخيلٍ: أبو فهمي؛ وكلّ ثرثارةٍ بين النساء: أم كامل. بينما وجد كلّ مواطن “معتَّر” في شخصية “صابر أفندي” صورته على خشبة المسرح، أو من خلال أثير إذاعة دمشق.. حيث كانت الشوارع تخلو من الحركة حين تُذاع إحدى تمثيليات حكمت محسن. وكان قد ابتكر في مسرحية “بيت بالأجرة” شخصية “أبو صيّاح”: قَبضاي الحارة.. الزكِرت.. الْمعدَّل، وأدّاها على خشبة المسرح الفنان الشاب آنذاك: رفيق السبيعي (6).
يتذكر الفنان رفيق السبيعي في حوار مع جريدة “الثورة” الدمشقية 7 – 12 – 2005: “بدأت عملي في تلفزيون دمشق عام 1962 وكان الفنان حكمت محسن يُعدّ لبرنامج “نهوند” التلفزيوني، فقمت فيه بدور: سعد حنِّي كفَّك.. الملحن والمطرب، وقدّمت أغنية: حبّك دوم.. ساكن مطرحو، من ألحان: زهير منيني، ونالت إعجاب الناس”.
وفي عام 1948 تشكل الثنائيُّ الفنيّ: حكمت محسن مُؤلفاً ومُمثلاً وتيسير السعدي 1917- 2014 مُخرجاً وممثلاً أيضاً، فقدّما الكثير من الأعمال المسرحية والتمثيليات الإذاعية في إذاعة دمشق وفي إذاعة B.B.C – القسم العربي.
وفي عام 1949 أسّس حكمت محسن “الفرقة السورية للتمثيل والموسيقا” بالتعاون مع: تيسير السعدي – أنور البابا – فهد كعيكاتي وسواهم؛ حيث استمرّ على خطا أبي خليل القباني في توظيف الغناء في أعماله الدرامية؛ ولكن على هيئة مونولوجات انتقادية ساخرة.. مثل مونولوج “الطَلْعة من ورا.. النَزلة من قدام” التي غنَّتها “أم كامل” التي جسّدها الفنان أنور البابا.
ومن أبرز أعمال حكمت محسن المسرحية: صابر أفندي، عُرضت في دمشق عام 1959 من بطولة وإخراج: عبد اللطيف فتحي، ولاقت حضوراً لافتاً، وكانت النصّ المسرحيّ الشعبي الوحيد الذي يُعيد إنتاجه المسرح القومي بدمشق بعد وفاة حكمت محسن عام 1968 ومن توقيع عبد اللطيف فتحي بطولةً وإخراجاً.. (المصدر السابق رقم 6) وفي ذاك اعتراف مُتأخر من مسرح نخبويّ بما أسموه آنذاك “القصّاص الشعبي حكمت محسن”؛ بينما كانت تسميةُ حسين راجي له.. بعميد الأدب الشعبي السوري أكثرَ دقةً وإنصافاً لمواهبه المُتعددة في التمثيل والتأليف.. بما في ذلك كتابة كلمات الأغاني والمونولوجات وتلحينها وفي الإخراج المسرحي كما في الإذاعي أيضاً.
يتابع حسين راجي في مقالته “حكمت محسن: عميد الأدب الشعبي” المنشورة في جريدة “تشرين” الدمشقية 4 – 4 – 2001: “ومرَّةً لفتت نظري كلمة وردت في إحدى مسرحياته، إذْ قال على لسان أبو فهمي -الفنان فهد كعيكاتي- وهو يصف جارتهم الست حسيبة بأنها: جخِنَّة!، ولمّا سألته قال: ابحث عنها في معجم لسان العرب، وسمعنا الأستاذ سعيد الجزائري، فأخذني إلى مكتبة الإذاعة وكان يشغل آنذاك وظيفة أمين المكتبة، لنجد أن اللفظة العاميّة هي عربية حقاً، وأنّ معناها في لسان العرب: المرأة الرعناء”.
أدرك محسن مُبكراً أنّ وزارة الثقافة ستطوي مشروع “المسرح الشعبيّ” وتتبنّى الآخر “النخبويّ” فحاول تأسيسَ مسرحٍ خاصٍ به، أطلق عليه ذات الاسم: “المسرح الشعبي” تأكيداً على خياره الفني، وكتب له مسرحية “الأب” ولم يستطع تجسيدها على الخشبة لافتقاره للتمويل؛ وأوقفت الرقابة البعثية مسلسلَه الإذاعيّ “مرايا الشام” بعد استفساراتٍ على غرار أسئلة المُحققين في المخابرات؛ فتردّى وضعُه الصحي وأصيب بارتفاع ضغطِ دمٍ دائم ثمّ بتصلّبٍ في الشرايين عام 1966 أدى إلى تعرُّضه إلى جلطة دماغية نجا منها على هيئة شللٍ نصفي؛ حتى توفي في مطلع الشهر 11 من عام 1968. (المصدر السابق رقم 6)
مسارات فنية من مدرسة حكمت محسن
تابع الفنان الكبير نهاد قلعي 1928- 1993 طريقة “القصّاص الشعبي” حكمت محسن في استنباط ونمذجة شخصيات فنيّة من الحارة الشعبية، فابتكر شخصيته الفنيّة: “حسني البورظان” وابتكر وساهم في تكريس شخصياتٍ سواها: “فطّوم حِيص بِيص” للفنانة نجاح حفيظ، “عبدو” للفنان زياد مولوي، “أبو عنتر” للفنان ناجي جبر، “أبو رياح” للفنان محمد الشمّاط، “ياسينو” الفنان ياسين بقوش الذي كان قد اكتشفه الفنان عبد اللطيف فتحي وقدّمه للجمهور على خشبة المسرح.
يقول الفنان ياسين بقوش في حوارٍ معه (7):
“أطلق الفنان نهاد قلعي عليَّ اسم ياسينو في مسلسل صَحّ النوم”.
كما تابع الفنان تيسير السعدي في مدرسة حكمت محسن فابتكر له ولزوجته شخصيتيَّ “صابر وصبرية” حيث يقول في حوار معه:
“شاهدت حكمت محسن يعمل مع بعض الفرق المحترفة في سورية منتصف الأربعينيات قبل ذهابي إلى القاهرة للدراسة، فلما عدت من القاهرة قابلته في أحد الأسواق، فأعطاني قصة له كانت مكتوبة باللغة الدارجة وغنيّة بالاستعارات والمواقف والخلفيات والأمثال الشعبية، فأعجبتني القصة كثيرا ً وكانت تلك بداية تعاوني مع حكمت محسن عام 1948”. (9).
وفي مقطعٍ آخر من الحوار يروي السعدي:
“عندما مرض حكمت محسن ولم يعد قادراً على الكتابة، خرجتُ ببرنامج: صابر وصبرية، مع زوجتي صبا المحمودي، وبدأنا العمل به في منتصف 1965 من إذاعة دمشق أولاً، ثم طلبت إذاعة لندن B.B.C شراء حلقاته بعد نجاحه”. (المصدر السابق رقم 9)
وللتنويه.. أغلبُ حلقات “صابر وصبرية” من تأليف وليد مارديني؛ ثم كتب السعدي بعضاً من حلقات برنامجه.
وكان دريد لحام قد خلع “الكاركتر” الغربيّ لأول شخصيةٍ فنية له: “كارلوس” في الستينيات ليرتدي اقتداءً بطريقة حكمت محسن: طربوش “غوار الطوشه” وشرواله وقبقابه، حاصداً آنذاك نجاحاً لافتاً.
كما استثمر “مسرح الشوك” الانتقاديّ الساخر الذي أسّسه الفنان عمر حجو وكتب له عروضه.. نجاحَ أسلوبِ حكمت محسن في نمذجة الشخصيات فشارك أبرزُها: غوّار الطوشه – حسني البورظان – أبو صيّاح – عبدو – ياسينو.. وسواهم، في عروضه الانتقادية. وكل تلك الشخصيات ظهرت مع سواها في مسلسليّ: حمّام الهنا 1967 -ومقالب غوار عام 1968.
ثم إنّ الفنان فهد كعيكاتي ذاته والذي اشتهر بشخصيته الفنية “أبو فهمي”، قد أدّى قبيل وفاته: شخصية “أبو جنْدل” في أعمال ثنائيّة مع الفنانة سامية الجزائري “أم جنْدل” والشخصيتان مُستمدتان من طريقة حكمت محسن في نمذجة الشخصيات الشعبية في حياتنا اليومية السورية.
وتابع أحمد قبلاوي، ما تبقى من تقاليد “المسرح الشعبي” الذي ساهم حكمت محسن في تأسيسه، فكتب نصوصاً مسرحية قدّمها له “المسرح الجوّال 1971 – 1988” ومنها نصّه “الدنيا أخذ وعطا” بإخراج حسين إدلبي؛ وشارك عبد اللطيف فتحي أيضاً بعرضه المسرحي “البحث عن لَطُّوف” (7)، من حيثُ كان المسرح الجوّال امتداداً للمسرح الشعبي السوري ولكن في سياق تأثيرات التجربة الاشتراكية السوفيتية؛ حيث راجت فكرة أنّ على المسرح الخروج من صالات العرض في العاصمة.. إلى القرى؛ فقدَّم حوالي ألف عرضٍ مسرحي في 700 قرية سورية؛ وكان حتى 1976 يعتمد نصوصاً لمؤلفين محليين بلغة فصحى مُبسطة “اللغة الثالثة” كما يُطلق عليها ما بين الفصحى والعامية؛ ثمّ اعتمد نصوصاً مُترجمة في مرحلةٍ لاحقة؛ واقتصرت عروضه على مراكز المحافظات السورية حتى تمَّ حلُّه نهائياً عام 1988. (7)
واستمرّ تأثير حكمت محسن حتى بعد وفاته بعقود، فقد استعار المخرج سمير ذكرى في فيلمه “حادثة النصف متر” شخصية “أبو فهمي” بأداء الفنان فهد كعيكاتي ذاتِه، ولكن.. كبائع حبالٍ في أحد أسواق دمشق القديمة، حين يأتيه بطلُ الفيلم، المُتأزم نفسياً وعاطفياً عقب نكسة حزيران؛ ليشتري متراً من الحبال، فيظلُّ أبو فهمي ببرودته المعهودة يسأله عن نوع الحبل، ولماذا سيستعمله، حتى يُصرّح البطل بأنه يريد متراً واحداً فقط.. لينتحر. عندها ينصحه أبو فهمي ببُخله المعهود فنياً.. بشراء مترٍ ونصف، والأفضل مترين، قائلاً ببرودته المعهودة: من شان عِقدِة الحبل.. بابا.
ما بين مسرح النخبة والمسرح الشعبي
أواخر عام 1959 دعت مديرية الفنون في وزارة الثقافة لاجتماعٍ تمهيدي شاركت فيه فرق: النادي الشرقي – المسرح الحر – النادي الفني – نادي أنصار المسرح – الفرقة السورية للتمثيل والموسيقا.. وغيرها من الفرق المسرحية الدمشقية.
وقد خرج الاجتماع بقرار تشكيل “فرقة المسرح الشعبي” التي كان حكمت محسن وعبد اللطيف فتحي من أبرز مؤسسيها، برئاسة المخرج محمد علي عيدو، وبمشاركة مظهر الشاغوري وعمر قنوع وآخرين. (7).
وتمّ أيضًا بعد عامٍ تشكيل “فرقة المسرح القومي” فقدّم أول عروضه في 25 – 2 – 1960 عن نص ٍلأريستوفان اقتبسه توفيق الحكيم. وكان ذاك حدثاً فنياً استثنائياً، لكنه كان بداية صراعٍ صامت ثم أخذ مداه، بين نخبة ثقافية تريد مسرحاً قائماً على تقديم كلاسيكيات المسرح العالمي، تمثلت في: فيصل الياسري – د. رفيق الصبان وسواهما؛ وسنجد أنه من بين الأعمال الثلاثين الأولى للمسرح القومي بدمشق، ثمّة.. ثلاثة أعمال مسرحية تستند إلى نصوص عربية: لمحمد تيمور – توفيق الحكيم – يعقوب الشاروني، فيما النصوص الباقية تعكس مختلف التيارات المسرحية في الغرب، بمختلف أزمانها، بدءاً بـ: أرستوفانيس، مروراً بموليير وشكسبير بالطبع، فإلى: طاغور – إبسن – ألبيركامو – غوغول – أوسكار وايلد – برناردشو – تنسي وليامز – بريخت – جان بول سارتر – بيراند يللو – لوركا.. الخ. (4)
وكان قد بدأ صراع صامت بين فنانين احترفوا المسرح بعد مُعاناة مريرة حيث خرجوا من تقاليد المسرح الشعبيّ كحكمت محسن وعبد اللطيف فتحي، وبين نُخبةٍ تخرّجت من القاهرة وباريس آنذاك؛ فاقترح حكمت محسن أن تُقدم فرقة المسرح الشعبي التابعة لوزارة الثقافة عروضها في كلّ حيٍّ دمشقيّ، من حيث يُريد للمسرح أن يذهب إلى الرَحِم الشعبيّ الذي خرج منه، واستلهم مشاكله وفضاءاته وألوان طيفه الحكائيّ والغنائي.
وبينما كانت مسرحية “أريستوفان” تُعرض على خشبة المسرح القومي في دمشق 25 شباط عام 1960، ذهب حكمت محسن بمسرحيته “بيت للإيجار” إلى مسرح “المقاومة الشعبية” في حيّ سوق ساروجه التاريخي، وتمّ عرضها أيضاً في أحياء: الميدان القنوات والمهاجرين وغيرها من أحياء دمشق الشعبية. (10)
وقد تواترت عروض المسرح القومي “النخبوية” بدمشق، بينما تعرّضت عروض المسرح الشعبي لانتقادات النخبة الثقافية؛ وفي الصحافة أيضاً حيث أُطلِقَت عليها تسمية “المسرح التجاري”، حتى تمّ بالتدريج إعاقتها وتجميدها إلى أن صدر قرار دمج المسرح الشعبي بالمسرح القومي عام 1969 (12) فشاهدنا الفنان عبد اللطيف فتحي يخرج من شخصيته “صابر أفندي” ليؤدي على خشبة المسرح القومي دور “الملك لير”!.
عودة المسرح الشعبي نخبوياً عبر “مسرح الفُرجة”
من حيث إن مسرح الفرجة هو تطوير للمسرح الشعبيّ ولطروحات تأصيل المسرح عربياً التي بدأها أبو خليل القباني وبلورها سعد الله ونوس في كتابه “بيانات لمسرح عربي جديد” الصادر في بيروت عن دار الفكر الجديد 1988.
وقد راج مفهوم “الفُرجَة المسرحية” في سوريا مطلع تسعينات قرنٍ مضى؛ بعد انتشاره عربيّاً.. وبخاصةٍ في بلدان المغرب العربي قبل مشرقه بكثير.
أُشير هاهنا إلى أن عروض المسرح القومي بدمشق منذ تأسيسه عام 1960 وحتى راهننا، هي حصيلة مشارب وخيارات شخصية ومذاهب فكرية وفنية مختلفة، لكن الشيء الرئيسي الذي يأخذ غالبية أعماله تحت يافطته، هو الشغف بالموضوعات الكبرى، التراجيدية منها، والتاريخية، أو المُستمدة من التاريخ والتراث، مع طغيان السياسي – الأيديولوجي على سواه، وبالنخبويّة في اختيارات نصوصه.. المُترجمة خصوصاً، ثم أن أعماله جميعاً تنوس فنياً بين تأثيرات المسرح الغربي المُتوالية في مسرحنا العربي عموماً، وبين محاولات البحث عن صيغة فنية عربية لمسرح عربي، إلى ما يُسمّى “مسرح الفُرجَة” الذي كان مُجرّد إعادة إنتاجٍ مُعاصِرَة لتجربة القباني في أجواء شعبية احتفالية؛ ويقترب من “المسرح الشعبي” السوري أيضاً؛ حتى أن المسرح القومي ذاتَه قد اختار “مقام إبراهيم وصفية” لوليد إخلاصي 1980 نصاً لا يُشبه نصوصه التجريبيّة/ الذهنية في شيء، ويُشير إلى انعطافٍ مُفاجئ نحو الرحم الشعبيّ المحليّ، وعلى هذا المنوال جرى انعطافُ عبد الفتاح قلعجي من نصوصه التي أسماها بالطليعية، مع كونها إعادة إنتاج للعبث الغربي في مناخ شرقي!، حيث قدّم له المسرح القومي مسرحيته “العرس” الحلبي طبعاً عام 1987 ليعود “كراكوز وعيواظ” إلى الحياة على الخشبة على يد عبد الرحمن حمادي عام 1994، ويُتوج تلك العودة الى المناخات الشعبية تامر العربيد مع نص “السمَرمَر” لناصر الشبلي عام 1996، وفي “بيّاع الفُرجة” من تأليفه وإخراجه عام 1999 رافعاً يافطة مسرح الفُرجة الشعبي الاحتفالي بكلّ مكوناته: حكايةً وأحداثاً ومنطوقَ شخصياتٍ ونمذجةً لها وغناءً وأجواءَ احتفالية. (المصدر السابق رقم 4) ولكن.. لِمَا تبقى من جمهور الطبقة الوسطى الذي خطفته شاشات التلفزيون؛ فاختفى تراث المسرح الشعبي السوري تدريجياً ولم تبق سوى بعض فرقٍ خاصة في دمشق وحلب.. ضمن ما سُمّي آنذاك “المسرح التجاري” قدمت بدل الكوميديا الشعبية الانتقادية مشاهد هزلية هزيلة قائمة على التهريج اللفظي والمبالغة الفنية.. وبعضها أدخل الرقص الشرقي لجذب جمهور أكبر
ومُؤخراً.. تشكلت “فرقة مسرح سوريا” بالتعاون بين سعيد الحناوي مؤلفاً وبين محمد خير الجراح ممثلاً رئيسياً فيها ومخرجاً لأعمالها وأسامة سويد مُنتجاً؛ وكانت باكورة أعمالهم مسرحية “سلطان زمانو” الكوميدية المؤلفة من فصلين؛ في محاولةٍ لإعادة الحياة الى المسرح الشعبي كما أشار في المؤتمر الصحفي لتأسيس الفرقة (13)؛ من حيث تأثر محمد خير بتجربة والده عبد الوهاب الجرّاح في حلب حين كان مع فرقته المسرحية منذ سبعينيات قرنٍ مضى.. من أبرز اللذين تابعوا تقاليد “المسرح الشعبي” الذي رَسَّخه في حلب الفنان عمر حجو.
قائمة بأبرز الفرق المسرحية الخاصة في سوريا
– فرقة أبي خليل القباني 1865 – 1895
– فرقة إسكندر فرح 1881 – 1900
– فرقة المدرسة المارونية في حلب 1872 ” يوسف نعمة الله جَدّ”
– فرقة نادي الاتحاد 1906
– فرقة مدرسة الصنائع – حلب 1928 وبعدها فرقة مدرسة الصنائع النسائية أسّسها شرف الدين الفاروقي 1930
– فرقة إيزيس 1931 وضمّت: جودت الركابي- سعيد الجزائري – علي حيدر كنج – نصوح دوجى – أنور المرابط – ممتاز الركابي.
– فرقة ناديا المسرحية أسّستها “ناديا العريس” 1933
– الفرقة السورية (ثلاثينات القرن 20)
– الفرقة الاستعراضية (ثلاثينات القرن 20)
– فرقة حسن حمدان (ثلاثينات القرن 20)
– فرقة الكواكب (أربعينات القرن 20) محمد علي عبده
– فرقة “الفرقة الاستعراضية” أسسها عبد اللطيف فتحي في خمسينيات القرن 20 ثم استبدل اسمها باسمه “فرقة عبد اللطيف فتحي” بعد شهرته واستقطابه لشرائح من المجتمع الدمشقي؛ ثم أنشأ في الستينيات “فرقة المسرح الكوميدي”.
– فرقة سعد الدين بقدونس (خمسينات القرن 20)
– ومن فرق الأربعينيات والخمسينيات أيضاً:
فرقة اتحاد الفنانين – فرقة العهد الجديد – نادى الفنون (توفيق العطري) – فرقة فنون الآداب – فرقة نهضة الشرق – فرقة المسرح الحر أسّسها: “رفيق جبري – توفيق العطري – نزار فؤاد”.
– ندوة الفكر والفن (ستينات القرن 20) أسّسها “رفيق الصبان”
– فرقة النادي الفني أسّسها “منذر النفوري”
– فرقة المسرح الشعبي أسّسها في حلب الفنان “عمر حجو”.
– فرقة الفنانين المتحدين أسّسها “محمد الطيب”
– فرقة الأخوين قنوع “فرقة دبابيس” ثمانينيات القرن 20
– فرقة زياد مولوي – فرقة هدى شعراوي – فرقة مظهر الحكيم
– فرقة محمود جبر – فرقة مسرح القهوة “طلحت حمدي”
– فرقة مسرح الشوك “عمر حجو – دريد لحام – أحمد قبلاوي”
– فرقة ناجي جبر – فرقة رفيق السبيعي
– فرقة عبد الوهاب الجراح في حلب – ثمانينيات القرن 20.
– فرقة تشرين – فرقة ياسين بقوش.
(المصدر السابق رقم 4)
المراجع والدراسات
(1) – كتاب “وقائع مسرح أبي خليل القباني في دمشق 1873 – 1883” لتيسير خلف عن دار المتوسط 2018.
(2) – كتاب “مسرح حلب في مئة عام” لمحمد هلال دملّخي – إصدار خاص 2001.
(3) – كتاب “رواد المسرح السوري” لعدنان بن ذُرِيل – وزارة الثقافة دمشق 1993.
(4) – صفحة المسرح السوري في موقع “ويكيبيديا” باللغة العربية.
(5) – أرشيف حلب الوطني – دار الوثائق الرقمية التاريخية.
(6) – كتاب “عبد اللطيف فتحي رائد المسرح الشعبي” لأحمد بوبس دمشق – الهيئة العامة السورية للكتاب 2019.
(7) – كتاب “إضاءات مسرحية” لنجم الدين سمان – وزارة الثقافة دمشق 2009.
(8) – جريدة “الوطن” الدمشقية – نيسان 2005م.
(9) – جريدة “الشرق” القطرية: 30 أيار 2005.
(10) – حكمت محسن: عميد الأدب الشعبي، لحسين راجي، صحيفة تشرين الدمشقية 4 – 4 – 2001.
(12) – كتاب جان ألكسان “الولادة الثانية للمسرح في سورية” اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1983.
(13) – موقع “بوسطة دراما – Bostah Drama” 21 ديسمبر 2019.