أحمد مولود الطيّار، كاتب سوري يقيم في كندا
أوراق 19- 20
الملف
يتردد كثيراً في لغة المسرح أنّ الجمهور هو بطل المسرحية، لا مسرح بدون جمهور، الجمهور هو فاكهة العرض الخ، حتى أن هناك من يربط صعود وأداء الممثل/ الممثلة على خشبة المسرح وفقا لمدى تفاعل ذلك الجمهور.
مما لا شك فيه أن تلك العلاقة هي تفاعلية ولا تستقيم الا بطرفي المعادلة معا. وبما أن هذا المقال يتحدث عن جمهور المركز الثقافي في الرقة، لا بأس من تلك الاستعارات المسرحية واسقاطها على واقع المركز الثقافي في مدينة الرقة، في محاولة للتعرف على من هم أولئك الذين اعتلوا خشبة ذلك المسرح وكيف تفاعل ذلك الجمهور معهم. يحاول هذا المقال سبر تلك العلاقة في فترة زمنية محددة هي التي أعقبت مجيء بشار الأسد الى السلطة بعد وفاة أبيه، عام ٢٠٠٠ والآلة الإعلامية للنظام في الترويج للمشروع الدي أطلق عليه وقتها اسم “التطوير والتحديث”.
على عكس العواصم والمدن الكبيرة حيث التعقيد السمة الأبرز، ولا فائض من وقت “يهدر”، ظلت الطرق قصيرة الى المركز الثقافي حيث ينزل اليه رواده من مسارب قصيرة لا عناء فيها، تظللهم مساءات جميلة تأتي إليهم بنسمات صيف ندية بعد انقضاء يوم حارق. يتهادون اليه رويدا رويدا لحضور أمسية شعرية من هنا ومحاضرة فكرية أو سياسية من هناك، فتمتلئ بهم مقاعده الخمسمائة حيث لا مكان لوافد جديد.
اشتعل هذا المركز، كما اسلفت، في الفترة التي بات يطلق عليها اسم ربيع دمشق، حيث كثرت المنتديات في معظم المحافظات السورية، ولا يعتقد كاتب هذه السطور آن ما يسمى تجربة المركز الثقافي في الرقة واستقطابها لنشاطات واسعة وأسماء بارزة يدخل في باب نظرية المؤامرة كما يروج بعض الرقاويين، من حيث أن الرقة كانت حقل تجارب للنظام لتطبيق كثير من سياساته انطلاقا من (مختبر التجارب- الرقة). قد يكون للرقة مظلوميتها الخاصة ولا شك في ذلك، انما هذه المظلومية لا تختلف كثيرا عن أي مظلومية سورية أخرى تعاني منها كل محافظة سورية على حدة، جذرها واحد، الاختلاف في الدرجة، انما هي من نفس نوع أخواتها، المظلمات السورية الاخرى.
جمهور المركز الثقافي آنذاك، وبعد الصفين الأول والثاني حيث “المقامات والألقاب الرفيعة”، تتواضع تلك الألقاب وتتراجع الى صفوف الوسط حيث يتقاسمها قاص وشاعر وشاعرة الى فنان تشكيلي الى روائي وروائية، كذلك صحافي من هنا وصحافية من هناك الخ. الصفوف في المنتصف حتى الصفوف الأخيرة تتلاقفها العامة، كذلك من فضل الانزواء في البعيد يراقب المشهد بدون ضجيج.
لا شك ان معظم ذلك الجمهور وبكل تدرجاته “الاثينية” (نسبة الى العاصمة اليونانية) ابتداءً من تلك الطبقة التي تتصدر الصفوف الأولى مرورا بصفوف المنتصف وانتهاءً بتلك التي كتب عليها أن تعيش في المقاعد الخلفية، كلّهم كانوا متعطشون للحوار وكل بطريقته. الغالبية كانت تستمع، والاستماع بالطبع هو جزء أصيل من الحوار. من كان يدير ذلك الاستماع، أو الحوار ان شئتم وافدون قادمون من العاصمة دمشق أو ضيوف عرب برتبة وزير أو كاتب ومحلل أو منظر استراتيجي، جاؤوا كلّهم ليبلّغوا رسالة. تم زركشة تلك الرسالة أو الرسائل وقيل في تقديمها من قبل خطيب مفوه، أو عريف الحفل، كما درجت تسميته، أنها محاضرة فكرية أو سياسية، أما ما قيل عنها أمسيات شعرية وقصص قصيرة، فلا شأن لهذا المقال بها.
المبشرون، بكسر حرف الشين، كانوا في تلك الفترة يعرضون بضاعتهم ويغدقون عليها أعذب العبارات فبرنامج “التحديث والتطوير” الذي هندسه الرئيس الوريث سينقل سوريا من كل الجمود الذي هي فيه وسيضعها قريبا في مصاف دول النمور الاسيوية. تبارى في عرض تلك البضاعة فيلسوف شهير، لم يجد حرجا وهو يكرر بلا انقطاع واعجاب مفردة “الرئيس الشاب”، كذلك صحافي لامع ورئيس تحرير جريدة عربية كان شعارها الشهير “صوت الذين لا صوت لهم”، وكانت الترجمة العملية لذلك الشعار أن الصحافي اللامع أوقف محاضرته وقت سماع آذان المغرب. فخيّم الصمت، ولم يتم قطعه الا بعد “حيّا على الصلاح، حيّا على الفلاح”، عندها استُؤنف الضجيج، ببرنامج السيد الرئيس الذي سينقل سوريا من عهد حافظ الأسد الى عهد بشار الأسد، ثم سيضعها بالقرب من دول النمور الآسيوية كما قيل للسوريين. وقبل الانتهاء من عرض هذه العينة السلطانية، لابد من ذكر مفاحش وعورات الديموقراطية، تلك الديموقراطية التي لا همّ لها الا بإبراز قضايا المثليين والمثليات ويجب أن نحصّن مجتمعنا من تلك الآفات الغريبة والغربية معا، كما جاء في “بيان تهديد الديموقراطية” للعلامة مهدي دخل الله وزير الاعلام السوري، في محاضرته في المركز الثقافي في الرقة عام ٢٠٠٥. هذا غيض من فيض ما بشّرنا به منظرو “التطوير والتحديث” ومن على خشبة المركز الثقافي.
أما المبشرون، بفتح حرف الشين، والذين غصّت بهم المقاعد الخلفية فلم يغيّروا من استراتيجيتهم في الحوار، ظلوا صامتين، يحدّقون في وجوه المحاضرين، الذين يمرّون أمامهم تباعا، دون أن ينبسوا بكلمة. حتى عندما طلب منهم الوزير العلامة رأيهم في نوعية النظام الذي يحكمهم، لم يجيبوا. لم يعيروه اهتماما عندما رفض تسمية النظام الذي يمثله – من قبل أحد المتداخلين- بأنه ينتمي الى صنف “الديموقراطيات الشعبية” التي ازدهرت في الحقبة السوفيتية. أدرك جمهور المركز الثقافي، ممن قبعوا في الصفوف الخلفية، أنهم أمام نسخة مشوهة من غوبلز هتلري لا يكف عن الكذب، لذلك ثاروا؛ غادروا مقاعدهم الخلفية، صعدوا الى المسرح، حطموا كل الديكور، هشموا كل الميكروفونات الموجودة، لا حاجة لها فصوتهم أقوى.
بالعودة الى تلك الفئة الهلامية التي كانت تختبئ في الصفوف الوسطى، فهي ما انفكت تتقدم وتتأخر في مقاعدها وفقا لبارومتر الجو السياسي والإعلامي السائد، فتارة تتقدم صفا واحدا أو اثنين الى الامام متماهية بالنسب الى أصحاب “المقامات الرفيعة” تتشارك وإياهم حفلات السمر وفتات الموائد العامرة، ثم في سياقات أخرى تنزاح وتتراجع مدعية أنها تنتمي الى هموم وأوجاع شاغلو المقاعد الخلفية. يمكن القول إن هذه الشريحة قد حافظت على مواقعها الميكيافيلية، ان استعرنا المصطلحات الفكرية والسياسية، أو “تعرف من أين تؤكل الكتف” وفقا لتعبيرات شاغلوا المقاعد الخلفية. هذه الشريحة، التي لم ترتق الى مستوى الطبقة، ظلت تتعامل مع منتجها بشكل مهني وحرفي، فتكنيك القصة القصيرة وتفعيلة القصيدة الحديثة ومذاهب الرواية وأشكال القص الصحفي كان الطابع المسيطر على نقاشاتها، تماما كما يناقش الحداد موضوع السندان والمطرقة، أو النجار نوعية الخشب الذي يستخدمه، أو عامل المجارير الصحية كيفية تسليك تواليت سُطّم مجراه وامتلأ بالخراء. شاغلو مقاعد المنتصف هؤلاء، وقبل تحطم المسرح والديكور كانوا يناقشون جنس الملائكة وكانوا الحليف الموضوعي للنظام السوري قبل الثورة.
تهدّم المسرح على من فيه، اختلطت الصفوف، بات أصحاب “المقامات الرفيعة” عارون تماما، علا الصراخ والزعيق على صفحات فيس بوك وتويتر من قبل تلك الفئة الهلامية، شاغلوا مقاعد صفوف المنتصف. ماذا حل بأهل المقاعد الخلفية؟ قسم كبير منهم في مخيمات بائسة في دول الجوار، وقسم لا يستهان به لاقى ربه وقسم آخر لايزال يراقب ويشاهد المنظر بصمت، بدون ضجيج.