منى أسعد، محامية وكاتبة سورية
مجلة أوراق العدد 13
الدراسات
“عندما تثقف رجلاً تكون قد ثقفتَ فرداً، وعندما تثقف امرأة فإنما تثقف عائلة بأكملها”.
سقراط
تبنت الأمم المتحدة قضية الدفاع عن حقوق المرأة ورفع الظلم عنها، من خلال إقرار حقها بالمساواة التامة، وإلزام النظم السياسية بضرورة النص على المساواة بين الجنسين في تشريعاتها الوطنية، وتجسيد ذلك في مؤسساتها وأجهزتها، فالمرأة التي تمثل نصف سكان العالم، تشكّل بالضرورة نصف إمكاناته، وبالتالي فإن المساواة عدا عن كونها حق أساسي من حقوق الإنسان، هي ضرورة ملحة لتحقيق الرفاه والتقدم الاقتصادي، عبر الاستثمار الأمثل لكافة الطاقات والقوى البشرية في المجتمع.
الإعلان العالمي لحقوق المرأة
يُعــد ميثــاق الأمــم المتحــدة، المنعقد في سان فرانسيسكو يوم 26 /6/ 1945، أول معاهــدة دوليــة تشــير إلــى المســاواة بيــن الجنســين فـي الحقـوق، حيث نص في ديباجته “… إيماناً منا بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية”.
ثم جاء الإعلان العالمـي لحقـوق الإنسـان في 10/12/1948، ليؤكد على مبــدأ المســاواة بيــن البشــر، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين، الأمر الذي منح الحركة النسائية الدولية زخما واسعاً، تكلّل بإعلان الجمعية العامة في سنة 1975، بوصفها السنة الدولية للمرأة، ثم العمل في العام ذاته، إلى تنظيم المؤتمر العالمي الأول في المكسيك المعني بالمرأة، مما زاد من الاهتمــام الدولــي بقضية التصدي للعنــف الواقع على النساء، والذي انتهى إلى وضع برامج وآليات للحد من العنف داخل الأسرة، فكان أن أصّـدَرت الأمم المتحدة عام 1979 “اتفاقيـة القضـاء علـى جميـع أشــكال التمييــز ضــد المــرأة” أو ما يعرف اختصاراً ب”اتفاقية السيداو”، التي عُدّت بمثابة الإعلان العالمي لحقوق المرأة، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1981، محددة في المادة الأولى معنى مصطلح التمييز ضد المرأة بأنه: “أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد على أساس الجنس، يكون من آثاره أو أغراضه توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية، أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل”.
صادقت على هذه الاتفاقية 189 دولة، والتزمت بمضامينها، الأمر الذي مكّن المرأة في أوروبا والغرب عموماً، من ممارسة دورها بفاعلية أكبر في الحياة الخاصة والعامة، وعلى كافة الصُعد، بعكس الكثير من دول العالم الثالث التي أبدت استجابات خجولة ومترددة حيال اتفاقية “السيداو” وملف حقوق المرأة بحجة الخصوصية المجتمعية أو التاريخية أو الدينية وسيادة القيم والعادات والتقاليد التي تتعارض مع هذه الاتفاقية الدولية.
سعت الأمم المتحدة إلى استدراك الأمر، فأصدرت في 15/3/ 2013، إعلاناً يحث الدول على إنهاء العنف ضد النساء والفتيات، مؤكّدة على “وجوب مكافحة كل أشكال التمييز بين الجنسين باعتبارها شكلاً من أشكال التمييز ضد المرأة، دون التذرع بالأديان والعادات”، وهو الإعلان الذي وصفته الأمم المتحدة “بالإعلان التاريخي لوقف العنف ضد النساء”.
المرأة السورية والإعلان العالمي لحقوق المرأة
لم تكن معاناة المرأة السورية- تاريخياً- تختلف عما عانته نساء المنطقة العربية من جهل وأمية وسطوة العادات والتقاليد والأعراف الرجعية، المكرسة لثقافة السيطرة والاستبداد، باستثناء فتيات بعض العائلات الإقطاعية، وبعض عائلات البرجوازية التجارية الوليدة آنذاك، التي كانت قد دفعت منذ بدايات القرن العشرين، بأبنائها وبشكل أقل الإناث منهم، إلى التعلم سواء في مدارس السلطنة العثمانية في الأستانة، أو في مدارس البعثات التبشيرية، التي انتشرت في المدن السورية، الأمر الذي أدى، فيما بعد، إلى ظهور رائدات للنهضة النسوية في سوريا أمثال ماري العجمي وعادلة بيهم الجزائري وثريا الحافظ ونازك العابد وغيرهنّ كُثر، واللواتي عملّن على محاربة الجهل ونشر الوعي في المجتمع، من خلال الجمعيات النسوية والصالونات الأدبية أو عبر تأسيس الصحف والمجلات النسوية، إلا أن هذه المحاولات على أهميتها، ظلّت بؤراً متناثرة في فضاء عام اتسم بتردي الحياة الاجتماعية والفكرية عموماً، والذي وسمَ حياة الريف أكثر منه في المدينة، فأبقته أسير العادات والتقاليد الاجتماعية الموروثة منذ قرون، مما أضعف من دور وتأثير رائدات النهضة في الحياة العامة، وحدّ من قدرتهنّ على المشاركة في الحياة السياسية، ومع ذلك فقد تركن بصمة في التاريخ السوري، إذ ساهمت كتاباتهنّ ودعواتهنّ في دفع المرأة السورية للمشاركة بكثافة في التظاهرات ضد الاستعمار الفرنسي، وخاصة تلك التي خرجت ضد القصف الفرنسي لمدينة دمشق 1925.
ومع أن أول حكم عسكري جاء مع انقلاب حسني الزعيم بعيد الاستقلال عام 1949، لم يستمر أكثر من مئة يوم فقط، إلا أنه، وفي غَفلة من التاريخ، منحَ المرأة السورية حق التصويت، متجاوزاً بذلك الكثير من الدول الغربية، وإن كان هذا الحق لم ينعكس في تطوير البنية السياسية والحقوقية للمرأة السورية، إذ ارتهنت سوريا منذ ذلك الوقت، لمفاعيل الاضطرابات السياسية ولسلسلة من الانقلابات العسكرية، ما نزال حتى لآن نرزحُ تحت وطأة فسادها واستبدادها، باسم قانون الطوارئ والأحكام العرفية، وأخيراً قانون مكافحة الإرهاب، مع ما رافقها جميعاً من تعليق العمل بالدستور وفرض ثقافة القوة والسيطرة، بدءاً من الفرد والأسرة، وانتهاء بالمجتمع ككل، مع تكريس الثقافة البطريركية التقليدية، والنص عليها في الدساتير والقوانين المحلية، دون أن يمنع ذلك، النخبة الحاكمة وتحديداً بعد انقلاب البعث عام 1963، من التغني بشعارات براقة تمجّد التحديث والتطوير، وتؤكد على أهمية تمكين المرأة في الأسرة والمجتمع، دون أن تحمل هذه الشعارات أية أصداء في واقع المرأة سوى استمرار التجهيل والتهميش في إطار مصادرة المجال العام والحياة السياسية لصالح الطغمة العسكرية الفاسدة والمستبدة.
ولأن توق المرأة السورية إلى العزة والكرامة والحقوق المتساوية، لم يقل حدة عن توق باقي أبناء المجتمع السوري، فقد اندفعت المرأة إلى الشارع منذ اللحظات الأولى لانطلاقة الثورة السورية، لتكون عنصراً فاعلاً ومشاركاً في ولادة غَدٍ سوري طالما حلمتْ به، ولتدّفعَ من روحها ودمها مثلها مثل شباب ورجالات الثورة أثمان الحرية والكرامة.
لكن نجاح نظام الاستبداد العسكري وداعميه الإقليميين والدوليين، في تحويل الثورة إلى حرب أهلية باسم الحرب على الإرهاب، استنزف، ولم يزل، كل طاقات المجتمع السوري، إذ أودت سنوات الحرب الهمجية الطويلة بمعظم معيلي الأسر من شباب ورجال، نتيجة الهجرة أو القتل أو الاعتقال أو التغييب القسري، أو نتيجة الإعاقات الدائمة، وقد سبق للأمم المتحدة أن أشارت إلى “ارتفاع نسبة النساء السوريات مقارنة بنسبة الذكور”، والتي بلغت بحسب مسؤول سوري نور الدين منى وهو مسؤول أممي سابق في منظمة الأغذية والزراعة العالمية، بأن هذه النسبة “بلغت 70-75% للإناث”*.
غيّر هذا الواقع الجديد في الأدوار النمطية للمرأة السورية، سواء ضمن البيت والأسرة أو ضمن المجتمع، فبالإضافة لما تعرضت له من اعتقال وتعذيب وقتل وقنص وتغييب القسري، كان أيضاً التهجير والنزوح وفقدان الأمان والحياة الأسرية، فبات لزماً عليها القيام بمهام المرأة والرجل معاً، في حماية الأسرة وتأمين متطلباتها والعناية بأفرادها، الأمر الذي دفع بها للخروج إلى سوق العمل.
وبسبب افتقار الشريحة الأكبر من النساء للمهارات العلمية أو العملية، فقد اضطررّن إلى امتهان أعمال كانت حكراً على الرجال لكنها لا تحتاج إلى مهارات خاصة، مثل العمل في تصليح السيارات أو غسلها أو الميكانيك، أو الدهان، أو العمل كبائعة بسطة، أو بائعة بمحل تجاري أو في تنظيف المنازل وأدرج البنايات…
في المقابل، تحصّنت نساء أخريات كثر، بقيم الماضي وتقاليده وأعرافه، فدفعن بأطفالهنّ الذكور إلى سوق العمل، وبطفلاتهنّ القصّرْ إلى بازار الزواج المبكر، والقبول بحالة الزوجة الثانية أو الثالثة أو حتى الرابعة، الأمر الذي حوّل أولئك الأطفال- ذكوراً وإناثاً- من ضحايا حرب إلى ضحايا استعباد واستغلال، فباتت الفتاة والمرأة السورية عرضة للاستغلال والابتزاز في سوق العمل، كما هي عرضة أيضاً، للاستبداد والتسلط والهيمنة الذكورية في أماكن تواجدها، وبشكل خاص مناطق النزوح الداخلي أو في مخيمات اللجوء في دول الجوار.
واكب هذا التغيير المهم في دور المرأة السورية وحياتها، ما يمكن تسميته وعيّ الضرورة، الذي أجبرها على تلك الأدوار والمسؤوليات والتجارب التي لم تكن بوارد خوضها سابقاً، أو مجرد التفكير بها، وربما كان لبعض منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية دور ما في مساندة المرأة ودعمها، بحيث ساهمت تلك الظروف والتجارب في تشكّل وعي جديد لدى شريحة لا بأس بها من نساء سوريا، فبُتّن أكثر إدراكاً لذاتهنّ ولأهمية دورهنّ في حياة أسرهنّ، وبتّن يتطلعن إلى المزيد من الحقوق والحريات، وبمعنى آخر بتّن أكثر إصرارا على المساواة، لكن ذلك لم يترافق مع تطور موازي بالمفاهيم القانونية ولا بالقيم الاجتماعية السائدة، الأمر الذي شكّل عائقاً أمام تطور المرأة السورية وتمكينها فكرياً واجتماعياً، وهو الأمر الذي دفعنا إلى التساؤل، عن كيفية تمكين هذه المرأة من التمتع بما تستحق من إنصاف وعدالة، ومن أمان وكرامة؟
كان ردّ نَسويّو النظام ومروجي سرديّاته حاضراً: إن نظام البعث سبق وصادق منذ 26/9/ 2002، على اتفاقية “إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة”، بموجب المرسوم التشريعي رقم 330، وهذا صحيح من حيث المعلومة، لكن هذه المصادقة، التي جاءت بعد قرابة ربع قرن على دخول الاتفاقية حيز التنفيذ عالمياً، لم تترافق مع أية دلالة قانونية أو ثقافية حقيقية، في واقع المرأة السورية وحياتها، بحيث يمكننا القول أن مصادقة النظام تلك، لم تكن سوى محاولة منه لتجميل صورته وتقديم نفسه إلى المجتمع الدولي والأسرة الدولية، على أنه نظام قابل للتحديث والتطوير ويُعنى بحقوق الإنسان.
لقد تجلّى موقف المشرع السوري من قضية المرأة السورية بوضوح، من خلال تضمين مصادقته على اتفاقية “السيداو” عدداً من التحفظات على أكثر من مادة، بذريعة تعارض هذه المواد مع أحكام الشريعة الإسلامية، أو مع قيم المجتمع السوري، مما أفرغ الاتفاقية من مضمونها ومحتواها وحوّلها إلى مجرد حبر على ورق، لدرجة أن الحكومة السورية لم تُعنَ بتنفيذ شرط النشر في الصحيفة الرسمية المنصوص عليه في الاتفاقية، وهو الأمر الذي حال ولا يزال، دون تمكين الجهات الرسمية وعموم الجمهور السوري من الاطلاع على بنود الاتفاقية ومعرفة مضامينها، وحال بالتالي دون احترام مؤسسات وأجهزة الدولة لها، والتغاضي عن تنفيذ بنودها، سواء في المحاكم الوطنية أو لدى الجهات المعنية، الأمر الذي أثار أكثر من تساؤل:
*- ما هي القيمة القانونية للاتفاقيات الدولية بالنسبة للتشريعات الوطنية؟ وأيهما أولى بالتطبيق في حال تعارض القانون الوطني مع بنود اتفاقية دولية تكون سوريا طرفاً فيها؟
*- ما مدى قانونية التحفظات التي أوردتها الحكومة السورية على اتفاقية “السيداو”؟
في القيمة القانونية للمعاهدات الدولية:
تُعرَفْ المعاهدة الدولية: بأنها “الاتفاق الذي من شأنه أن ينشئ حقوقاً والتزامات متبادلة بين الأطراف المرتبطة، يحكم هذه الحقوق والالتزامات القانون الدولي العام..”. وهذا يفيد أن تصديق الدولة على الاتفاقية يعني إقراراً منها بالتزامها بهذه الاتفاقية، ويحتم بالتالي على الدولة نشر مضمون الاتفاقية على الشعب والنص عليها في التشريعات الوطنية، بحيث تصبح الاتفاقية بمنزلة القانون الداخلي، وتُلزم سلطات الدولة باحترامها، كما يُلزم القضاة بتطبيق أحكامها من تلقاء أنفسهم، وفي حال وجود تعارض بين أحكامها والتشريعات المحلية، تكون الأرجحية لأحكام الاتفاقية كونها غدت جزءاً من القوانين الوطنية أولاً، ولكونها تعبيراً على انضواء الدولة ضمن منظومة الأسرة الدولية، ثانياً.
لم يجد هذا الحال تطبيقاً له في سوريا، التي خلت دساتيرها المتعاقبة من أي نص يُحدّد مكانة
المعاهدات الدولية من القانون الوطني، وإن كان ثمة قوانين صريحة بهذا الخصوص، إذ نصّت المادة 25 من القانون المدني السوري رقم 84 لعام 1949، على: “عدم سريان الأحكام المخالفة لمعاهدة دولية نافذة في سوريا”.
كما أكدت على ذلك المادة (311) من قانون أصول المحاكمات المدنية رقم (1) لعام 2016، المنسوخة عن المادة التي تحمل الرقم ذاته، في قانون أصول المحاكمات السوري القديم رقم (84) لعام 1953، ” أن العمل في القواعد المتقدمة لا يخل بأحكام المعاهدات المعقودة، والتي تعقد بين سوريا وغيرها من الدول في هذا الشأن”.
وعلى ذلك سارت أيضاً محكمة التمييز (محكمة النقض)، عند إصدارها القرار رقم 23 لعام 1931، القاضي ب: “ليس لقانون داخلي أن يضع قواعد مخالفة لأحكام معاهدة دولية سابقة له، أو أن يغير ولو بصورة غير مباشرة في أحكام نفاذها”. ثم عادت وأكدت المحكمة ذاتها على نهجها هذا في الحكم الصادر عام 1980 الذي يقول: “عندما تصدر الدولة قانون بالانضمام إلى اتفاق دولي، أو معاهدة دولية، يصبح الاتفاق الدولي بحكم القانون الوطني، وتطبقه المحاكم الوطنية باعتبار أنه أصبح جزءاً من القوانين الوطنية، وليس لأن الدولة قد التزمت بتطبيقه”. وأردفت المحكمة قائلة: “وعندما يتعارض النص الدولي مع القانون الداخلي يطبق الأول”.
بناء على ما سبق يمكننا القول: صحيح أن الدستور السوري لم ينص صراحة على مكانة المعاهدات الدولية بالنسبة للقانون المحلي، لكن ما ورد من إشارات سواء في القانون أو في أحكام محكمة النقض، تشي بمكانة الاتفاقيات الدولية وسموها فوق القانون لكنها تبقى دون الدستور، لذلك عمد المشرع إلى التملص من نفاذ الاتفاقيات الدولية وعدم تطبيقها، متذرعاً بما ورد في القانون المدني السوري المذكور سابقاً، والذي يؤكد على ضرورة تعديل القانون السائد بقانون جديد، قبل سريان العمل ببنود الاتفاقية الدولية، إعمالاً لنص المادة الثانية منه: “لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق، ينص صراحةً على هذا الإلغاء، أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم، أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع”.
أدخل هذا الأمر النظام القانوني السوري، في حالة من الإرباك وتنازع القوانين، إذ بالرغم من وجود ما يفيد بسمو الاتفاقيات الدولية على القانون المحلي، إلا أنه لا يمكن إعمال بنود الاتفاقية ما لم يصار إلى إصدار نص قانوني يقضي بذلك، وإلا اعتبرت هذه المعاهدة غير نافذة دستورياً، وليس ثمة داع إلى نشرها في الصحيفة الرسمية أو عبر الإعلام، أو إدماجها في المناهج المدرسية، وعليه لا يجوز تطبيق أحكامها في المحاكم الوطنية أو سواها.
تأكيداً على رغبة النظام في الإبقاء على أحكام هذه الاتفاقية مجرد حبر على ورق، فقد جنح المشرع باتجاه رفض المصادقة على البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية السيداو، المعتمد من قبل الأمم المتحدة عام 1999، كونه أداة ضرورية لتفعيل وتطبيق الاتفاقية، ويسمح بسماع شكاوى الأفراد والتحقيق في الانتهاكات الجسيمة أو المنهجية للاتفاقية.
في القيمة القانونية للتحفظات السورية على اتفاقية السيداو:
بالرغم من إدراك النظام لعدم جديته في تطبيق أي من الاتفاقيات الدولية الموقّعة والمصدّقة من قبله، وإمعاناً منه في تضليل الأسرة الدولية، فقد عمد إلى تضمين اتفاقية “إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة” عدداً من التحفظات لعدد من المواد، للحيلولة دون نفاذها، الأمر الذي يستتبع ضرورة التوقف عند القيمة القانونية لهذه التحفظات، ومدى صلاحية الطرف الموقع في تضمين الاتفاقية الدولية ما يشاء من تحفظات؟
بداية، عرّف قانون المعاهدات (اتفاقية فيينا) الصادر عام1969، التحفظ بأنه: “إعلان من جانب واحد، أياً كانت صيغته أو تسميته، تعلنه الدولة عند توقيعها أو تصديقها أو انضمامها إلى معاهدة أو عند موافقتها عليها، وترغب من ورائه في استبعاد أو تعديل الأثر القانوني لنصوص معينة في المعاهدة، فيما يختص بتطبيقها على هذه الدولة”.
يؤكد (قانون المعاهدات) بذلك أن الأصل هو القبول الجماعي لكافة أحكام المعاهدة، وأن ورود تحفظ على نص أو أكثر من نصوص معاهدة جماعية جائز، إلا في حالات محددة أهمها:
*إن كان التحفظ مخالفاً لموضوع المعاهدة والغرض منها، بحيث يصبح التحفظ وسيلة للتملص من الأحكام الجوهرية المنصوص عليها في المعاهدة أو الاتفاقية الدولية، عملاً بأحكام المادة (21) من اتفاقية فيينا التي تنص على “بطلان أي تحفظ ينافي موضوع الاتفاقية وغرضها”، وعلى ذلك أكدت المادة 28 من اتفاقية (السيداو)، القاضية بعدم جواز إبداء أي تحفظ يكون منافياً لموضوع هذه الاتفاقية وغرضها.
وبالعودة إلى التحفظات التي أوردها المشرع السوري على اتفاقية “إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة”، ودراستها سنجد أنها تنافي جميعاً موضوع الاتفاقية وغرضها:
أولاً: المادة 2:
اشتملت هذه المادة على ستة فقرات، نصت في مجملها على وجوب إلغاء أي نص دستوري أو تشريعي أو قانوني يشكّل تمييزاً ضد المرأة، ووجوب قيام الدولة باتخاذ الإجراءات الكفيلة بضمان الحماية القانونية للمرأة على قدم المساواة مع الرجل، وبالتالي ضرورة الامتناع عن أي ممارسة تمييزية في المؤسسات العامة والخاصة.
إذاً، تقتضي هذه المادة بالتزام الدولة المصدقة على الاتفاقية، بوجوب تعديل التشريعات والقوانين بما يحول دون أية ممارسات تمييزية ضد المرأة، في جميع نواحي الحياة المجتمعية، مع توفير آليات الحماية القانونية عن طريق المحاكم الوطنية ذات الاختصاص، وبمعنى آخر التزام الهيئة التشريعية في الدولة بالنص قانوناً على تجريم التمييز والعقاب عليه، من هنا جاء تحفظ الحكومة السورية على هذه المادة.
غير أن مطالبات المنظمات المدنية والنسوية السورية المتكررة، ومناشدات المنظمات الحقوقية الدولية للحكومة السورية بضرورة رفع هذا التحفظ لتعارضه مع نص المادة (21) من قانون المعاهدات الدولية، والمادة (28) من اتفاقية “السيداو” ذاتها، اضطرار المشرع إلى إصدار المرسوم التشريعي رقم 230 لعام 2017، القاضي برفع هذا التحفظ، شريطة -عدم تعارضه مع أحكام الشريعة الإسلامية- التي نص عليها الدستور في المادة الثالثة/ الفقرة الثانية: “الفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريع”.
بذلك يكون المشرع قد نجح في رفع التحفظ عن المادة الثانية، مع الإبقاء عليه في الوقت ذاته، بذريعة بتعارضه مع أحكام الشريعة الإسلامية، وإن كان الهدف الأساس هو الحفاظ على استمرارية الثقافة التقليدية المكرّسة للهيمنة والاستعباد في المجتمع مهما تعددت مصادرها، تلك الثقافة التي اعتمدتها حكومات البعث الدكتاتورية المتعاقبة رغم ادعائها العلمانية واليسار، بحيث أحجمت عن إجراء أي تطوير حقيقي في الحياة المجتمعية السورية، أو الإقدام على أي تعديل جوهري لأهم قانون ينظم حياة وحقوق المرأة في الأسرة والمجتمع، ألا وهو قانون الأحوال الشخصية المستمد أحكامه من قانون حقوق العائلة العثماني الصادر سنة 1917، وكتاب الأحكام الشرعية لقدري باشا الصادر سنة 1883، بكل ما تتضمنه تلك الأحكام من مواد تمييّز وعنف ضد المرأة، وما تتضمنه من تعارض مع نصوص عدة في الدستور السوري ظاهرياً، لأنه معطل منذ قرون، فالمادة (19) منه تقضي ب: “يقوم المجتمع في الجمهورية العربية السورية على أساس التضامن والتكافل واحترام مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة وصيانة الكرامة الإنسانية لكل فرد”، كذلك نص المادة (33/ 3) التي تقول ب: “المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
ما من شك أن تذرع المشرع بعدم رفع التحفظ في حال تعارضه مع أحكام الشريعة الإسلامية، يشكّل استخفاف جديّ بمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات العالمية ذات الصلة، علماً أن المشرع ذاته، لم يجد غضاضة في الخروج عن أحكام الشريعة الإسلامية المثبتة في النص القرآني، ومخالفتها عند تحديثه أحكام الزنا والقتل والسرقة، تلبية لتطور الحياة في المجتمع.
ثانياً المادة 9:
نصت الفقرة الثانية من هذه المادة على: ” تمنح الدول الأطراف المرأة حقاً مساوياً لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالهما”.
لم يأت تحفظ المشرع السوري على هذه الفقرة، نتيجة تعارضها مع مبادئ الشريعة الإسلامية ولا مع قيم المجتمع السوري، وإنما لتعارضها مع محتوى المادة 3 من قانون الجنسية، التي تحرم على الأم السورية المتزوجة من غير سوري، من حق منح جنسيتها لأبنائها، في حين تمنح الدولة هذه الجنسية لمن وجد على الأراضي السورية من لأطفال اللقطاء أو مجهولي النسب.
من نافل القول أن النص الوارد ذكره في المادة (3) من قانون الجنسية السوري، صيغ استجابة لأسباب سياسية خاصة بالنظام السياسي السوري، لا مجال للتطرق إليها هنا، وإن كان الأخير لا يزال يحرص على استمراريتها، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، فأن إهدار النظام السوري لمبدأ فصل السلطات، قيّد إرادة المشرع في رفع التحفظ عن هذه الفقرة من الاتفاقية، بالرغم من إدراكه لما تشتمل عليه المادة (3) من قانون الجنسية السوري من انتقاص لكرامة المرأة السورية وحقوقها الإنسانية، ولما يحمله هذا التحفظ من تعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، وخصوصاً نص المادتين (7 و8) من اتفاقية حقوق الطفل، اللتان تؤكدان على “حق الطفل فور ولادته في الاسم واكتساب الجنسية، ومعرفة والديه وتلقي رعايتهما”. وعلى “احترام حق الطفل في الحفاظ على هويته بما في ذلك جنسيته، واسمه وصلاته العائلية…”.
ثالثاً المادة 15 فقرة 4:
“تمنح الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالقانون المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم”.
نلاحظ من خلال هذا التحفظ حرص المشرع السوري على تكريس الثقافة الذكورية التقليدية القائمة على تسلط الرجل ودونية المرأة، وتأبيده نص المادة (70) من قانون الأحوال الشخصية، التي تُلزم المرأة بالإقامة في مكان إقامة الزوج، إلا إذا اشتُرط في عقد الزواج غير ذلك، أو إذا وجد القاضي سبباً يحول دون سفر الزوجة، الأمر الذي حال ولا يزال، دون تمتع المرأة بالاستقلالية وبالحرية الشخصية، عبر حرمانها من حق التنقل وحرية الحركة والحق في اختيار مكان سكنها وإقامتها، بذريعة احترام عادات وتقاليد المجتمع، بالرغم من تعارض ذلك مع نص المادة 33/3 من الدستور السوري، آنفة الذكر، كذلك التعارض مع نص وروح المادة 23 من الدستور التي تشير على “تشجيع الدولة لمساهمة المرأة الفعالة والكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية..”، كما يتعارض هذا التحفظ أيضاً، مع ما ارتضته الحكومة السورية على نفسها من التزام، عندما وقعت على وثيقة “مبادئ حقوق الإنسان” والبروتوكولات المنبثقة عنها.
رابعاً: المادة (16):
أكدت الفقرات (ج- د- و- ز من البند الأول) على المساواة في الحقوق الإنسانية بين المرأة والرجل، فيما يتعلق بتنظيم عقد الزواج وفسخه، واختيار اسم العائلة ونوع العمل والمهنة، كذلك فيما يتعلق بالولاية والوصاية والقوامة على الأطفال.
تحفظ المشرع السوري على هذه النصوص، بذريعة تعارضها مع أحكام الشريعة الإسلامية، علماً أن العديد من الدراسات الفقهية تؤكد عدم وجود تعارض مع الأحكام الشرعية المثبتة، وإنما يكمن التعارض فقط، مع بعض الآراء الفقهية في الإسلام، الأمر الذي يفيد بعدم وجود مانع شرعي يحول دون رفع هذه التحفظات، وأن إصرار المشرع في الإبقاء عليها ما هو إلا تعبيراً عن رغبته في الإبقاء على ثقافة التسلط والقوة مهيمنة على أوجه الحياة القانونية والمجتمعية، بالرغم مما يشكله ذلك من انتهاكاً صارخاً لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين.
في هذا السياق جاء التحفظ على البند (2) من المادة ذاتها، القاضي بمنع زواج الأطفال، بذريعة التعارض هذا النص مع أحكام الشريعة الإسلامية، وخصوصية المجتمع السوري. في حين أن المشرع يدرك بدقة، حجم الآثار السلبية المترتبة على زواج الأطفال، سواء فيما يخص الأسرة أو فيما يخص المجتمع، وأنه بإبقائه على هذا التحفظ، إنما يكرّس، بقوة القانون، قيم المجتمع التقليدي البطريركي هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، أنه يؤمن الغطاء الشرعي لجريمة الاستغلال الجنسي للأطفال، ويشرّع لها تحت مسمى”عقد زواج”، وهذا كله يتعارض مع نصوص الدستور، ومع مبادئ حقوق الإنسان والبروتوكولات المرفقة بها، والاتفاقيات الدولية المصدقة من الحكومة السورية، كاتفاقية حقوق الطفل واتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة.
خامساً: المادة 29/1:
نظمت هذه المادة آلية تسوية الخلافات الناشئة أو التي تنشأ، حول تفسير أو تطبيق الاتفاقية، كما مكّنت الأسرة الدولية من ممارسة سلطتها، لنفاذ الاتفاقيات الدولية روحاً ونصاً، على صعيد القوانين والأنظمة المحلية، من خلال اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، من هنا كان تحفظ المشرع على هذه المادة بقصد الحيلولة دون لجوء المنظمات النسوية ومنظمات المجتمع المدني، إلى الأسرة الدولية وطلب مساعدتها في تطبيق الاتفاقية.
نتيجة لكل ما سبق، يمكننا القول: أن مصادقة النظام السوري على اتفاقية (السيداو) بكل ما تضمنته من تحفظات، لم تكن بهدف الاعتراف بأهلية المرأة السورية أو العمل على تمكينها من التمتع بحقوقها الإنسانية كاملة مثلها مثل الرجل، وإنما جاءت مصادقة النظام على هذه الاتفاقية مثل ما سبقها من اتفاقيات ومعاهدات دولية، بقصد ذر الرماد في العيون، ووضعها في الأدراج. والإبقاء على واقع المرأة المذري والواقع الاجتماعي المتخلف عموماً، لذا فأن تمتع المرأة السورية بالمساواة التامة وبالكرامة الإنسانية، تقتضي بداية تفعيل الإعلان العالمي لحقوق المرأة بكل مضامينه، وهذا يقتضي بالضرورة إيراد نص في متن دستور سوريا المستقبل، يكرس مبدأ المساواة بين الجنسين ويجرم مخالفته، الأمر الذي يقضي بضرورة إلغاء نص المادة (3/2) من الدستور، لما تتضمنه من تكريس للتمييز والتهميش ليس بين الجنسين فحسب، بل بين أبناء ومكونات المجتمع السوري الغني بتنوعه، ولما تمثله من أداة للإبقاء على تخلف وجهل المرأة وأميتها، عند ذلك فقط، يُمكننا الحديث عن إلغاء قانون الأحوال الشخصية ومواده التمييزية ضد المرأة، واستبداله بقانون أسرة عصري قائم على المساواة وحقوق المواطنة، ومستمد أحكامه من مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وهو الأمر الذي سيمكّن المرأة السورية من ممارسة دورها الاقتصادي والاجتماعي والفكري والسياسي بفعالية ومسؤولية، وسيساهم بالتالي في تحقيق التنمية المستدامة في المجتمع، لكن لا بد من الاعتراف أن تحقيق كل ذلك يحتاج إلى مقومات ليس أقلها وجود مجتمع مستقر ساع إلى التغيير، ووجود حامل سياسي مؤمن بضرورة هذا التغيير وساع إلى تحقيقه، إضافة إلى دعم المنظمات المدنية والنسوية الفاعلة والمؤثرة والقادرة على المشاركة في إحداث هذا التغيير والارتقاء بالمجتمع السوري إلى سوية المجتمعات المدنية المتقدمة.
*****
- “الآثار الاجتماعية – الاقتصادية على المرأة السورية في ظل الحرب” دراسة:
نور الدين منى “الناس نيوز” 28 سبتمر 2020.