المثنى الشيخ عطية: مجموعة الشاعر الفلسطيني رائد وحش «كتاب الذاهبين»: واحدية سرد الغائب في رحلة تقصّي الموت

0

يبدو أن العمل الفني العظيم الذي ينتشر ويدخل سجل الخلود هو العمل الذي يموت مؤلفُه في القارئ الذي تنفلت منه صرخات نفسه: «إن هذا أنا»، وتأكيد دهشته: «والله إنها لحكايتي»؛ حتى لو تحدث العمل عن كولومبيا، اليابان، أوروبا أو أفريقيا بالنسبة لقارئٍ سوري أو ألماني كأمثلة عن اختلاف المكان، أو تحدث عن الفضاء كمثال عن اختلاف الزمان، أو عن «الحب في زمن الكوليرا» أو «الطاعون» كأحداث تضمّ المكان والزمان، حيث يعيش القارئُ العملَ كما لو كان يكتبه.
العمل الشعري «كتاب الذاهبين»، الذي أبدعه الشاعر الفلسطيني رائد وحش، يخترق جدار الفصل بين صانع العمل وقارئه ليتحدث، ليس عن البطل الذي هو القارئ في ذات الوقت داخل الكتاب فحسب، وإنما عن البطل/ القارئ الذي هو الكتاب نفسه، «كتاب الذاهبين»، كتاب الموت، كتاب الحياة كذلك، وكتاب القادمين، من خلال مركبة الفضاء التي تجعل هذا ممكناً ومحققاً في ثيمات الريح، والحجر الذي هو نحن الموت والحياة. من أجل التخفيف عنا ومساعدتنا على تقبّل الموت، الرفيق لنا، والرفيق بنا، ليس من خارجنا كعزاء لداخلنا في «كل نفس ذائقةٌ الموت»، و«هذه هي الحياة»، و«في ظل وادي الموت يقودني»، و«إلى جنان الخلد» «في أحضان حورياته يضعني»، فحسب، وإنما من داخلنا كما نحن: الموت والحياة، من وجهة نظرٍ عميقةٍ قد يسخرُ منها الموت كذلك مثلما يُفصح حَجَرُ «وحش»، لكنه لا يستطيع تخطي كونها مصاغةً بشاعرية عالية في الجمال تُميّز الشامانيين الذين تنطقُ الطبيعةُ لتكشفَ أسرارها بلوْثاتهم:
«إليكم إذاً كلماتي الأخيرة: «إنما أنا سرّكم الذي بتّم تعرفونه وتدّعون به جهلًا»… « ولأنّ من يعرف سينجو/ أبشّركم بالخلاص/ أبشّركم بصفاء المعرفة/ كلّكم خالدٌ/ ما دام الكلّ آيلاً حجراً في النهاية/ فلا تجزعوا من التحوّل/ في رحلةٍ أبدية/ محطاتها أجسادٌ مؤقتة./ حتى أولئك الذين يكنزون من الحجارة ذهباً وفضّةً/ بوسعهم أن يصيروا ذهباً وفضّةً./ لستً سرّاً بعد الآن/ منذ جعلتم القبور ممرات/  للعبور إليّ/ قلت لنفسي إنهم على الطريق الصّواب/ لكنكم حرّفتم الاكتشاف إلى هلوساتٍ/ عن الجحيم والفردوس/ آملين أن تُصلحوا الدينا/  بالتخويف من الآخرة».
في «كتاب الذاهبين» المفتوح، بطلاً للمجموعة الشعرية، يفرض على من يعثر عليه، إضافة سيرته، وهو عارفٌ بتوقّف العاثر عن إكمال القراءة والإضافة حين يرى ما يخيفه؛ يضع وحش إضافته إلى نفسه/ الكتاب، بعد أن يتخطى خوف الاطلاع على سيرته فيه، ويصيغ هذه الإضافة في بنية ظاهرةٍ تتضمن ما يمكن اعتباره قصيدةً واحدةً بستة فصول وإنْ أخذ كل فصلٍ استقلاليته كقصيدة، حيث يلمس القارئ الوحدةَ ضمن التنوع، والرابطَ الواضح بين كل فصل و«قرنائه» الخمسة، تماثلاً مع قرن الشاعر نفسه مع الشاعر الراحل أمجد ناصر في القصيدة البالغة العذوبة والعمق والأسى والعزاء.
في هذه البنية يسرد وحش حكاية كتابه كراوٍ، ورحالةٍ درويشٍ، وباحث عن الجوهر، بروحية الصوفي، وكعراف متنبئ بحكمة تيريزياس، وكشاعرٍ فقط من شعراء قصيدة نثر ما بعد الحداثة في أرفع مستوياتها التي تصيغ بجميع طرق السرد، وبأقنعة ما يحتاج الموضوع من أبطال. باستخدام الحكاية، وسرد الغائب، والحوار والعرض والتنبؤ شعراً رفيعاً لا يَسقط في فخاخ المواعظ، إذ يرتدي حقائق واكتشافات العلم، مع إخراجها بإدهاش الصورة، كما لو أنها أرانب بيضاء أمام أطفال مدهوشين، حتى لو كان البياض هو الموت، فالموت بتحولات الحجر وشاعرية القصائد يستحيل إلى أبدية أليفةٍ نسمح لأنفسنا بقرنها كذلك مع أبدية محمود درويش البيضاء، حيث يشتغل وحش على تحليل الأبيض.
ويضيف وحش إلى تنوع سرده ضمن واحدية سرد الغائب، عذوبةَ تموجات لغته على سلّم الصعود في رحلة تقصي الموت وتحليله وعيشه، وانسيابها الجميل وفق ما تقتضي حالة الموضوع بين تشكيل القطعة مثلما يحدث في إضافات الهوامش التي تستدعي استمرار الحكاية، أو تشكيل السطر الشعري الذي يريح القارئ في حالات كثافة الشعر، ويلجأ وحش في تسهيل الكثافة إلى تقسيم القصيدة لمقاطع بأرقام.
في نسج البنية العميقة لكتابه، وبدءاً من تقديمه بعبارةٍ يرجّح فيها انتماء البشرية لأيوب أكثر من آدم، في مجازٍ عن ابتلائها ومعاناتها الألم؛ يلتقط وحش أهم ما يشكّل ويفتت ويعيد الحياة بأشكالٍ أخرى: الريح، والحجر، في القصيدتين الأوليتين «تحقيق استقصائي حول الريح»، و«ترجمة رسائل الحجر»، اللتين يفيد تشكيل عنوانيهما بتلك الصورة التناغمَ مع سرد الحكاية في البداية، وإغناءَ التناغم بغلبة استخدام أسلوب القطعة الشعرية.
في القصيدة الأولى يشكل وحشُ تقصّيه لأشكال ومعاني الريح في خمسة مقاطع، ويثير الانتباهَ لجوؤه منذ البداية إلى تأنيثها، وبالأخص حين نعلم أنها «الخالقة»: «أأنتِ من لفحتْ وجهَ الراعي في القصّة المدرسيّة/ أم من قوّضتْ أركانَ سدوم وعمورة/ أم أنتِ الشخصيةُ الحاسمةُ/ التي صنعت الأرض والسماء/ في قصّة الخلق؟».
ويلجأ وحش في معالجة الريح إلى أسلوب التساؤل عنها ثم اليقين أنها هي البرهان، الميزان، قبل أن يفتح كتابه على سرد حكايته، بمشهديّةٍ مشوّقةٍ يجري فيها سقوط المدينة وحلول الغزاة، وعثور الراوي على صحائف أراها له راعٍ صغير، فيها قصة أساسية في المتن، كتبها الشيخ صاحب الصحائف، وهامشين آسرين هما: موت الشيخ صاحب الصحائف، وقصة المرأة الحبلى المجنونة التي حمَلَتْ من الريح، وولدت العاصفة التي اقتلعت المدينة. ويصل وحش إلى ما يتناغم مع الريح بقوة: «الرجل النسر»، الذي يستمر طيلة فصول المجموعة بحواراته الحكيمة مع الراوي، ويخبره عن الريح أنها «نحن/ نحن الذين أضعنا صورتنا».
في القصيدة الثانية، يشكّل وحش «الحجر» في خمسة مقاطع، يواصل في بدايتها سرد حكاية كتابه، بمقدّمات، يعالج فيها حكايةَ الذاهبين الموتى وعالمَهم، ومسألةَ العقاب الشديدة الحساسية والاختلافِ حولها، برأي أنه «هو عالمٌ يتأمّل فيه الإنسان أفعاله زمناً مديداً، وبناء على ما يصل إليه سيختار، بالعدل الذي يولد فيه، عاقبتَه المُثلى». ويكشف وحش لغز الكتاب وقرّائه، مُدخِلاً في كشفه: التمثال، الحجر: الموت، وأشكال الموت، مع الاستمرار في ربط الفصول بالسّرد عن الرجل النسر الذي: «قال في تقديم نفسه إنه الوحيد القادر على خلق اتصال بين الكواكب، والتغلب على المسافات بين الأرض والسماء، بين عالمَي الألفة والغرابة». ويُضيف إلى ذلك متوناً للرسائل المترجمة، عن طبيعة الحجر، الحياة والموت، وحديث الموت للبشر، كاشفاً سرّه لهم إنه «هم» وإنهم «هو»، الرفيق للبشر وبالبشر، كي لا يخافوه، مُدخِلاً مفاهيمه عن الحجر/ الموت والشعراء، والطيور، مع حاشيةٍ لحفيدة الترجمان، وحاشيةٍ على الحاشية من الرجل النسر، عن طبيعة الكتاب ومآله، كما لو كان يحكي مصير الكتاب الورقيّ الذي لم ينتهِ، والذي «سيظلّ يروي قصّته طائراً من قارئ إلى آخر، لا سيما بعد إتاحته على المنصّات الإلكترونية».
في القصيدة الثالثة «الشتاء وقت العلامة»، يعالج وحش العلامات، بما هي مرايا البشر في بعضهم، وبما يعكس الزمن، في حواريةٍ آسرةٍ مع الشاعر الراحل أمجد ناصر ومفاهيمه حول الموت والحياة، في علاقة «قرينٍ» ثرية، تُغني المجموعة بعمق المعرفة. ويُدخل في هذا: الوطن الأسر، ووطن البدو «الذي يسكن أقدامهم»، والوجود، والمنفى الذي هو: «رحلةٌ تكتبها أجسادُنا. فينا من يرونه جائزةً فيقتلون الماضي، وفينا من يَعِدّونه عقابًا فيُعدمون الحاضر. لا هو بداية ولا نهاية، لا نسيان ولا ذاكرة، بمقدار كونه إضافةَ عيونٍ إلى عيوننا، وأيدٍ إلى أيادينا، ليكون لنا أن نرى الخسارة ونلمسها، ليكون لنا حملُها بطاقةَ هويةٍ».
ويتداخل وحش في هذه الحوارية الفريدة مع بكائية مالك بن الريب الشهيرة في الذاكرة الجمعية العربية عن لحظة الموت ومعانيه، كما يُداخل الأقنعة في الزمان: النازفون، شهرزاد في آنا كارنينا، وجلجامش بقناع عدّاء. بالإضافة إلى حوار الحب، واللغة، والمرأة بالتساؤل: «ما المرأة؟/ أهي ناقة الله في الصحراء؟/ سألتُ./ لعلها الصحراءُ نفسها/ لعلها الرحلةُ نفسها!/ نحبُّ المرأة التي تأتي من مكانٍ نظنّه شِعراً/ محمولةً على هودجٍ من كلامٍ/ كأنها المجاز».
في القصيدة الرابعة «استراحة موكب أيوب» يعالج وحش قافلة المرضى المبتلين بالأمراض المستعصية المؤلمة التي تلخص معاناة الإنسان مع المرض، حاملين أميرهم أيوب، مثالَ معاناة البشرية على محفة الأمل والخلاص والعبث، وعلاقتها بالموت.
في القصيدة الخامسة «قرابةُ الغياب»، يعالج وحش الغائبين الموتى، والمعتقلين، وتغيّر أصواتهم إلى واحدٍ يمثل القرابة بأسلوب سرد الأقنعة في معاناة غياب الآخرين.
وفي القصيدة السادسة «والتر الأبيض»، يُكمل وحش موزاييك «كتاب الذاهبين» بغرابةِ وعمقِ وجرأةِ التناول، والتماهي مع أبطال الجزء الخامس من مسلسل «Breaking Bad» الذي يُلقي فيه الممثل براين كريسون، بشخصية والتر وايت البريء المتحوّل إلى شخصية هايزنبيرغ الشرير، قصيدةَ الشاعر الإنكليزي العظيم «تشيلي» عن الملك المصري أوزيمانديس/ رمسيس الثاني، الذي مَلَكَ كلّ شيءٍ وتحطّم إلى لا شيءٍ، تمثالاً غارقاً في الرمال، ومثالاً عن المآل البائس لأوهام السيطرة والخلود: «اسمي أوزيمانديسْ، ملكُ الملوك،/ انظرْ إلى منجزاتي، أيها العظيم، وابتئسْ».
«كتاب الذاهبين»، كتاب الريح، الحجر، الموت، الحياة، الـ «نحن»، وكتاب القادمين كذلك، ما دارت الأرض حول نفسها.

رائد وحش: «كتاب الذاهبين»
منشورات المتوسط،
ميلانو 2022
48 صفحة.

*القدس العربي