المثنى الشيخ عطية: رواية السوري نهاد سيريس «أوراق برلين»: تحرق حبال تكبيل التوق إلى الحرية والتسامح

0

في مستويات لا تخضع للنقد الكلاسيكي التصنيفي بالنسبة للشخصيات، يمكن القول إن القارئ هو أحد أهم أبطال الرواية، وقد لا نكون مغالين إن قلنا أنه البطل المستتر فيها. والروايات المهمة نفسها توحي لنا بذلك على درجات من القوة تتمثل في قوة ثبوت الرواية بداخل ذاكراتنا، عاكسةً صورة أن هذا يحدث لأننا بداخلها. والروائيون المحترفون يمارسون هذا خلال التقاطهم لشخصيات رواياتهم، سواء بقصدية معرفتهم ذلك أم بفطرة موهبتهم من غير قصد.
في روايته الأخيرة «أوراق برلين»، يؤكد الروائي السوري نهاد سيريس على هذا التصور، ليس من خلال التقاطه الناجح وصقله لشخصيات تَعْلَق بنا في الجوهر كما لو كانت نحن الواقعيين، أو ما نحلم أن نكون فحسب، بل أيضاً في ذكره ذلك بممارسة بطله في اختيار الشخصيات التي تعكس روايته التي يكتبها داخل الرواية التي نقرأها، (وفق موضوعها الذي يصرح أنه عن برلين وحلب، ومعاناة الناس أثناء الحرب والدمار الذي اجتاحهما، والتغيّرات التي شهدتها برلين على صعيدَيْ الناس، وإعادة الإعمار). وقيام الكاتب باختيار صبري، الذي يمثل إلى درجة كبيرة ما حدث في جانب حلب، إلى جانب الشخصيات التي اختارها من الجانب الألماني، لينسج روايته.
«أوراق برلين» رواية تعلق بالذاكرة، لأن القارئ هو أحد أهم أبطالها في قارتين تمثّلان ما يحدث في بقية القارات حيث لا تنتهي حروب الإنسان ولا ينتهي حبه كما لا ينتهي قيامه من بين أنقاض ما يدمّر لنفسه وللآخرين، وما يدمّرون له.
في صورة عامة عنها هي رواية تمثل ما ذَكَر راويها الكاتب، ويبدو أنها تمثّل جزءاً من حياته الشخصية، من أنها عن برلين وحلب، وعن معاناة الناس للحرب فيهما وقيام الأولى كما عنقاء، مع توليد الأمل من خلال هذا بقيام الثانية حلب بعد حرب التدمير، وتَغيُّر عاداتها ومفاهيمها عن الحياة كما حدث في الأولى برلين، من أجل سلام النفس وتمتعها بالحياة، متجاوزةً قيم الذكورة التي تأسر النساء في زنازين خدمتها، إلى فهمٍ أكثر تسامحاً مع النفس والآخرين وأكثر نفاذاً إلى ما يسعد الإنسان؛ ومن ذلك عيش الحرية عاريةً بأقاصيها التي تؤدّي وفق هذا إلى احترام خصوصية الآخر.
ولن يستغرب القارئ الذي سيكون أحد أهم أبطال الرواية من خلال عيش جمالها، احتراق المفاهيم القديمة فيه، بما تتوق نفسه إليه من انعتاق عن المفاهيم القديمة التي تكبّلها، وإلى أقصى ما وصلت إليه من انعتاق، مثل التسامح مع «المثليّة» بالعرض الجميل المشوّق للحب الذي يرافقه وتعيشه صديقتا الكاتب، وتدبيرهما ولادة طفل من إحداهما بمشاركةٍ واعيةٍ من أخ الأخرى، ووصف العملية كطقس إنساني أخّاذ تتشاركان به معه: «أعطت كاتيا يدها لأنتونيا لتمسك بها، بينما راحت تمرّر يدها الأُخرى على ظهر وعُنق توماس؛ لتجعله يعلم أنّها تشعر بوجوده. كانت كاتيا تتأوّه وتئنّ في أذن أنتونيا، بينما كان توماس يتحرّك بصمت».
في هذه الصورة العامة، قبل أن ننسِل منها رواية الحبّ التي تسير بنهرها، تتجلّى قدرة سيريس على نسج الروايات المؤثرة بالقارئ حدّ بطولته:
ـــ حول معالجة المكان، فيما يخصّ برلين التي عاشته قبل الحربين، بناءً وثقافةً وحياة بشرٍ، ودُمّر خلال الحرب العالمية الثانية، وبُني بعدها على صورة واقعنا الحالي، يذهب سيريس أبعد من حدود الرقص على صراط التفاصيل الخطرة في توليد الملل بوصفه، إلى فعل هذا المكان الحيّ، بحجره وبشره وثقافته، في توليد حميّة إعادة إعمار المكان المماثل حلب، الذي يصفه بتفاصيل الرقص على صراط الخوف من أن يضمحلّ. ويلملمه من طبيعة بنائه التاريخي في عصوره الإسلامية المزدهرة، خاصة ما يتعلق بحلب القديمة وقلعتها، والجامع الأموي الكبير ومكتباته، والأسواق التي تحتضنه، ولملمته كذلك من طفولة وشباب ما عاش فيه خلال حقبة خمسينات وستينات القرن الماضي، ومن دماره بعد ذلك تحت قصف دبابات ومدافع جيش النظام ومقاومة الثائرين عليه. ويثير سيريس حمية حلم استعادة المكان المماثل بوصف إعمار برلين البالغ العمق والثقافة المعمارية لعماراتها التي أعاد الألمان إحياءها بتفاصيل وصف الجديد المبني بمجاورة وفوق القديم مولداً الحلم في بناء عمارات المكان الذي ينتظر بشره ليعمّروه.
ـــ حول معالجة الحرب التي عانت منها برلين وحلب بتشابه الدمار وتقسيم المدينة، يفصح سيريس منذ البداية، في بحثه ككاتب عن شخصيات تلبي غرض الرواية، عما عاشته المدينتان من مآسي الحرب، ويساعده من الجانب الألماني أصدقاؤه الألمان بروح تعاون إنساني ناصع، من خلال ذكرياتهم وذكريات أهاليهم عن معاناة الحرب التي مرّوا بها، ومعاناة الاحتلال التي مرّت باغتصابات الجنود الروس لنسائهم، ببشاعة لا يضاهيها سوى ما حدث في سوريا من اغتصابات. ويختار سيريس من الجانب السوري شخصية صبري، اللاجئ إلى ألمانيا، والملازم المجند في جيش النظام سابقاً، والمنشقّ عنه، إثر شعوره بالخزي من ارتكابه إثم قتل أم وطفلها بقصف دبابته. والرافض بعدها المشاركة بأي حرب، والهارب الذي يعيش وينقل سيريس من خلاله ما تعرض ويتعرض له اللاجئون المدنيون السوريون من مآسي القتل والتشريد تحت نار الحرب؛ ومن دون توفير الإشارة للنظام بارتكاب هذه المآسي، ومشاركة المسلحين الملتحين بتدمير حياة الهناءة والتسامح التي كانت توشّي حياة السوريين وعلى رأسها الاحتفاء بالحياة من خلال الموسيقى والغناء.
ـــ حول الاندماج بشقّيه بين المدينتين، من جهة توليد المماثلة، وبين المهاجرين وأهل المدينة التي لجأوا إليها، من جهة استيعاب ألمانيا لنسبة كبيرة من اللاجئين السوريين؛ ينسج سيريس، من خلال عيشه كبطل للرواية، وفهمه للشخصية الألمانية ثقافةً ومعايشةً، وعلاقاته العميقة مع الألمان بما يصل حدّ الحبّ والحياة المشتركة، ملحمةَ فهمٍ للآخر وتآخٍ واندماجٍ معه، لا يكون مستغرباً فيها تأثيرها في القارئ الذي يعاني اللجوء والقارئ الألماني الذي سيتعامل مع الرواية بعد ترجمتها، بما يخص كونه أحد أبطالها.
ويأتي الأهم في معالجة سيريس للمكان والحرب والاندماج: أسلوبه في بلورة روايته، مع وضع نفسه في تحدّي الخوض بمستنقع الواقعية التسجيلية والخروج من دون لسعات تربصاته. وفي هذا يلجأ إلى البساطة المتحدّية كذلك، في تكوين بنيته أولاً، حيث تجري الرواية نهراً لا تعترضه عناوين فصول، مع كسر أرجل التفصيل التوثيقي الخطر على المتعة والتشويق، داخل بنيته العميقة ثانياً، بتوليد الحكايات من بعضها كما في ألف ليلة وليلة واختيار المشوقة المتشابكة والملبية لأغراض الرواية. هذا مع اللجوء إلى الواقعية السحرية، وفق طريقته التي لا يلجأ فيها إلى السرد السحري النابض بدواخل التحليل النفسي كما يفعل ماركيز على سبيل المثال، ولكن إلى السرد الواقعي الذي يشرح خلفيات وجود سحر الجن في المجتمع السوري، ويسرد حكايات معجزاته دون شرح، ليبقي قارئه معلقاً بتشويق الحكايات وتساؤلات صدق حدوثها بهذه الطريقة.
ويعيش القارئ واقعية سيريس السحرية هذه في قصة الجنية التي ترافق صبري خلال هربه، وتضاجعه وتنقذه أكثر من مرة، وفي قصة الصبي لصبري عن الأميرة التي أحبته وأنقذته داخل السرداب الذي وقع فيه، وقصة ضرب المندل من أهل صبري لمعرفة مصيره بعد الهرب من الجيش، وهو ما تعكسه وتجسده معاناة حياة الخطر وأحلامها وآلامها وأحداثها التي تشبه المعجزات على دروب اللجوء. ويضيف سيريس إلى هذا جرأته على مواجهة المفاهيم داخل القارئ وحرقها، مثلما يفعل بسيره على صراط الإيروتيكية المشوقة دون وقوع في فخاخ البورنوغرافيا، بسبب مبررات وجودها الموضوعية في الرواية. وأكثر من ذلك يشد سيريس قارئه ويغنيه بالثقافة العميقة المتراكبة مع الأحداث والشخصيات، مثلما يفعل باستخدام الكتّاب والفنانين الدادائيين، مثل غروس الذي صور المؤسسة العسكرية والجنرالات على نحو قميء وكاريكاتوري، والفنان أوتو ديكس الذي شارك في الحرب لاختبار أسوأ جوانب البشر على الإطلاق. واستخدام توماس مان وروايته «فاوست» في نقاش العبقرية والجنون والموسيقى مع حبيبته كريستا وزوجها غونتر الذي اختارت الزواج به وإنجاب طفلٍ أتاحت روح التسامح لها ولغونتر أن لا يباليا في أن يكون بيولوجياً من الكاتب السوري، وكانا سعيدين بملامحه الشرقية وبتسميته عمر كما أحب الكاتب في ظل الشعور الهانئ المتسامح بخسارته لحبه، والتي تشكل في النهاية مكسباً للقارئ.
ويلجأ سيريس في تقوية فعالية أسلوبه باستخدام صيغة المتكلم الأقرب إلى المشهدية السينمائية وإن كانت بأسلوب فعل الماضي.
في قصة الحب التي تلظم الرواية كما عقدٍ، بينه وبين كريستا، يدفع سيريس قرّاءه إلى عيش قصة حبّ تتوافق وتتصادم معهم وفق مفاهيمهم، لكنها في كل الأحوال وبالجمال والثقافة العميقة وسلوك الشخصيات الذي تتدفق به، تفعل فعلها العميق في فك حبال النفس مما يأسرها من تقاليد في مجتمعات عيش جديدة تفرضها الصراعات وانفتاحات البلدان على بعضها، سواء بهذه الصراعات أو بوسائل التواصل السلمي ومشاركات المفاهيم والقيم ومتع العيش.

نهاد سيريس: «أوراق برلين»
دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، دمشق 2021
188 صفحة.

*القدس العربي