(المثقف والسياسي) في الثورة السورية

0

حسن النيفي

كاتب سوري

أوراق العدد 12

الدراسات

                                         ( 1 )

يجسّد تاريخ العلاقة بين المثقف والسياسي صورة نمطية وسمت كلّ واحد منهما بسمات محدّدة، وبات ما هو خارج هذه الصورة النمطية لا يعدو كونه شذوذاً، والشذوذ يؤكّد القاعدة ولا يلغيها كما يقال. إذ بات من المألوف أن يُصنّف المثقف على أنه يستقي مادّته من معين قيمي مبعثه المبادئ والأفكار والنظريات والقضايا الكبرى، بينما وُصف السياسي بالقدرة على تغيير المواقف والمناورة والنهج البراغماتي في التفكير والبراعة في الالتفاف على الثوابت وتوظيفها لخدمة أغراضه وأهدافه. كما حملت تلك الصورة النمطية في طياتها مياسم أخرى، جعلت من المثقف ذلك الإنسان النائي عن اليومي والمُعاش، غير مكترثٍ بالسياقات الحياتية والمعيشية للناس، تاركاً بينه وبين ما يجري في الواقع مسافة تحفظ له هدوءه وابتعاده عن صخب الحدث اليومي والمعاناة المباشرة للواقع، غيرَ منفعلٍ بالحدث الآني، بل غالباً ما اتُهم بالتحصّن بمبدأ التقية، حرصاً على سلامته وحفاظاً على ذاته من غضب السلطة، في حين احتل السياسي تقويماً أكثر حضوراً في الوجدان الشعبي، باعتباره شخصاً متفاعلاً مع الشأن الحياتي العام، مواكباً لصوت الشارع ….إلخ، إلّا ان هذا الحضور الشعبي الذي حظي به السياسي لم يكن مصحوباً – في غالب الأحيان – بقبول أخلاقي ، بفعل المفاهيم القارّة في الوعي العام، فطالما عُرّفت السياسة على أنها ( فن الممكن)، والقدرة على تحقيق المصلحة، ولو اقتضى أن يكون ذلك على حساب المبدأ أو القيمة، والبراعة في خداع الخصم، وذلك على نقيض ( المثقف) صاحب الأفكار التي لا تغادر المبادئ، مما يجعل أوجه الخلاف بين الجانبين لا تنحصر في السلوك والممارسة فحسب، بل تقترب من أن تكون قطيعة أخلاقية أيضاً.

بعيداً عمّا أفاضت به الدراسات المعمّقة عن طبيعة العلاقة بين الثقافة والسياسة كمفهومين من جهة، وبين المثقف والسياسي من حيث  وظيفة وفاعليّة كلٍّ منهما في المجتمع من جهة أخرى، فيبدو أن ثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، أتاحت المجال لإعادة النظر فيما تنمّط من أفكار وتصورات، كما أكّدت أن المفاهيم والرؤى المؤطّرة بالنظريات لا تملك جداراً حديدياً يعصمها من التصدّع والتشظّي أمام القوّة الدافعة لحركة التاريخ، ولا غرابة في ذلك، طالما أن الفحوى القيمي للثورة السورية إنما تجسّد بكشوفاتها الثقافية والمعرفية أكثر مما تجسّد بإرهاصاتها السياسية التي انتهت إلى الشحوب.

                                        (2 )

لا حاجة للتأكيد على أن شرارة الثورة السورية انطلقت من الوسط الشعبي، من الشارع، ولم تنطلق من الأطر الحزبية، او من مكاتب الأساتذة والأكاديميين، وكانت العفوية هي إحدى سماتها، إلّا أن هذه الانطلاقة العفوية سرعان ما أعقبها أمران اثنان، هما الميل باتجاه الانتظام ضمن أطر ثورية شعبية (التنسيقيات)، ثم الامتداد السريع، وحيال ذلك فقد حدث غير ما هو متوقع، وأعني أن المثقفين السوريين، وتحديداً غير السلطويين، كانوا أكثر تفاعلاً مع الثورة من الكيانات السياسية، ولئن احتاجت بعض الأحزاب والشخصيات السياسية بعض الوقت (أيام – أسابيع) لتتخذ قرارها وتحدد موقفها من الحراك الثوري السلمي آنذاك، عبر بيانات أو تصريحات رسمية، فإن قطاع المثقفين، وبصفاتهم الشخصية ، لم يكونوا الأسرع تفاعلاً مع الحراك السلمي فحسب، بل إن العديد منهم كان جزءاً من ذلك الحراك، دون أن يطرحوا أنفسهم كقادة أو متصدّرين للمشهد، إلّا أن أسبقية موقف المثقف من الثورة لم تمنحه ذلك الدور الذي احتلّه السياسيون فيما بعد، بسبب النشاط الفردي للمثقفين وعدم انتظامهم في أطر أو كيانات تنظيمية محددة، فظل نشاطهم ذا طابع فردي في غالب الأحيان.

ومع ازدياد سخونة الأحداث وتسارعها في الشارع السوري، بدا دور المثقف بالانكفاء شيئاً فشيئاً موازاة مع انزياح الثورة نحو طور السلاح وازدياد وتيرة العنف، وانتشار الفصائل العسكرية التي باتت تفتقر إلى التنظيم والقيادة المركزية والمشروع ذي المعالم الواضحة، فضلاً عن أن ازدياد سطوة السلاح قد عزّز القناعة لدى معظم المثقفين بأن دورهم بات منحسراً في هوامش ضيّقة جداً، وأن المبادرة باتت مرهونة بيد من يحمل السلاح، الامر الذي ولّد جدلاً كبيراً في أوساط المثقفين، بين مؤيد للمقاومة العسكرية وبين معارض لها، أضف إلى ذلك أن باب تسليح الثورة كان المقدمة التي مهدت للتدخل الإقليمي والدولي الذي بات المموّل الأساسي لمعظم الفصائل المقاتلة على الأرض السورية.

                                        ( 3 )

حين بدت الحاجة ماسّة لتشكيل كيانات سياسية تمثّل الثورة السورية، انقسم جمهور المثقفين من جديد، فمنهم من آثر الانكفاء أو الابتعاد عن تلك التشكيلات والأُطر، ويمكن أن يكون قد استُبعدوا أو لم تُتح لهم الفرصة، ومنهم من انخرط في تلك التشكيلات، وكان أول كيان سياسي يتشكل في عهد الثورة هو المجلس الوطني السوري (2 – 10 – 2011) وتم اختيار أحد الشخصيات الثقافية ليكون على رأس ذاك الكيان (الدكتور برهان غليون)، وقد بدت خلال قيادة الدكتور برهان للمجلس أول علائم التناقض في التفكير والسلوك بينه – كمثقف – وبين العديد من أعضاء المجلس – السياسيين – وقد أرجع الدكتور برهان في كتابه (عطب الذات) أسباب تلك التناقضات إلى البواعث الدافعة كلا الطرفين للعمل، تلك البواعث التي تتراوح بين من ينظر للمصلحة الوطنية كأولوية، وبين من يراها من منظور مصالحه الشخصية.

وفي خطوة تالية تشكّل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة (11 – 11 – 2012) وقد انضوى بين صفوفه عدد من الشخصيات الثقافية المعروفة بنشاطها السياسي في تاريخ المعارضة السورية، وكان ينتظر كثير من السوريين أن يكون لتلك الشخصيات دورٌ مميّز أو بصمات واضحة في الأداء السياسي للائتلاف، ولكن ما حصل هو العكس، إذ سرعان ما أخذت تلك الشخصيات بالانسحاب من هذا الكيان تدريجياً، مُسوغةً مغادرتها تلك بأن الائتلاف بات محكوماً بالإرادات الدولية والإقليمية، بل فاقداً لقراره الوطني، ولم يعد يلبي تطلعات السوريين، ومنهم من عزا انسحابه إلى تحوّل الائتلاف إلى كيان مغلق تسيطر على مفاصله بعض الشخصيات المعروفة بولائها الخارجي اكثر من ولائها للقضية السورية.

                                            ( 4 )

منذ أواخر العام 2016 ، أصبح خضوع الجغرافية السورية لتقاسم النفوذ الدولي أكثر تبلوراً، كما بات صراع السوريين مع نظام الأسد محكوماً أو مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالإرادات الدولية التي تتصارع على الأرض السورية من اجل مصالحها بالدرجة الأولى، فمن الناحية العسكرية باتت جميع القوى والفصائل تعمل بأوامر مشغلّيها الخارجيين، ولم تعد تحمل مشروعها الخاص الذي تقاتل من أجله، ومن الجانب السياسي، فبعد إيجاد مسار أستانا مطلع العام 2017، وتشكيل هيئة التفاوض ذات المنصات المتنوعة، بات دور الكيانات السياسية للمعارضة أقرب للدور الوظيفي، كما باتت القناعة تتعزز لدى كثير من السوريين بأن قضيتهم أصبحت خارج نطاق إرادتهم، ولم تستثن هذه القناعة جمهور المثقفين الذين سلكوا – حيال هذا الواقع – مسالك شتى، فمنهم من آثر الاستمرار في نشاطه الفردي، ومنهم من اتجه نحو تشكيل تجمعات أو منتديات في المجال الافتراضي، فيما نحا قسم آخر باتجاه تشكيل أحزاب أو تجمعات سياسية، فضلاً عن انخراط البعض في روابط أو أطر ثقافية أخرى، إلّا أن الجامع المشترك بين نشاط هؤلاء المثقفين جميعهم هو عدم التأثير المباشر والفعلي في سيرورة ما يجري من أحداث، وهذا لا ينفي – بالطبع – ما يتركه أي حراك ثقافي من أثر على الوعي العام.

                                      ( 5 )

من المُنجَزات المهمة والمثيرة لثورة السوريين، زوال معظم التخوم التي ترسّخت في الأذهان والوعي العام بين مفهومي (المثقف والسياسي)، فالثقافة الخاوية من البعد الإنساني والمنبتّة عن السياق الحياتي للناس، والتي لا تكترث لشقاء الكائن البشري أو سعادته، لا يمكن أن تُراكم أيّ ثراء قيمي في تاريخ الحضارة، وكذلك السياسة حين لا تتقوّم على حوامل معرفية وبواعث أخلاقية، وحين تتجاهل يقظة الضمير ونوازع الإخلاص فلا تعدو كونها – حينئذٍ – ضرباً من الزيف والخداع. فكم من مثقف – في الحالة السورية – أدار ظهره لمأساة السوريين منحازاً إمّا لمصالحه الشخصية أو لنصرة الطغاة، وكم من السياسيين الذين برعوا في التسلّق وتصدّر المشهد، لا يحدوهم سوى الجوع الشديد إلى السلطة والنفوذ والاعتياش على مواجع الناس، وبالتالي نجد أن كلا النموذجين مسيءٌ لشعبه وقضيته.

لقد كان – وما يزال – مفهوم (المثقف العضوي) وفقاً لغرامشي، يختزل الكثير مما يمكن أن يقال، ولكن إذا كان هذا المفهوم ما يزال محفوفاً ببعض الريبة (الإيديولوجية) لدى البعض، فإن الانبثاقات الثقافية لثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، قد أسهمت في الكشف عن مقدار العطالة الفكرية والثقافية التي كرّستها الإيديولوجيات التقليدية بكافة أشكالها، وأشرعت أمام الوعي آفاقاً إنسانية أكثر غنًى ورحابة من أقفاص الإيديولوجيا، فهل يمكن لهذه المفاهيم التي أنتجتها الثورة وأملتْها تحولات تاريخية لا يمكن تجاهلها، أن تكون حافزاً للمثقفين السوريين نحو مبادرة ثقافية جديدة خالية من التوصيفات الجاهزة لكل من السياسي والمثقف؟.