عبد الرحمن حلاق
ما يزال الواقع العربي الذي يمور عنفاً وفساداً واستبداداً يفرض علينا إعادة طرح السؤال القديم مرة تلو أخرى والمتعلق بوظيفة الأدب ودور المثقف في محاربة هذا العنف والفساد والاستبداد، ودون الدخول في إشكاليات القوالب الفكرية لوظيفة الأدب وهل هو للمتعة، أم للفائدة، أم لكليهما؟ وبغض النظر عما يمكن للأدب أن يفعل على صعيد تنمية القيم الجمالية والارتقاء بالحس الإنساني، يمكننا الانطلاق من بدهية بسيطة وهي أن النص في نهاية الأمر رسالة تقتضي وجود متلق يتفاعل معها لإنتاج معنى ما. وهذا سينقلنا بالضرورة للبحث عن دور المثقف الذي يبث لنا هذه الرسالة بغض النظر عن الأثر الذي سيحدثه إذ يقتضي الأمر انتشار الرسالة لإنتاج المعنى وذلك أمر قد يكون على درجة من الصعوبة في مجتمع ما يزال يفتقر إلى الحد الأدنى من الإنتاج العلمي المعرفي. خاصة وأن غالبية المثقفين العرب يعيشون حالة خلاص فردي وعلى مسافة ليست بالقصيرة عن مجتمعاتهم وإن ظهرت ملامح هذه المجتمعات في كتاباتهم الإبداعية.
في روايته السّابقة (الصمت والصخب) يُقدّم لنا الكاتب نهاد سيريس رؤية فكرية تتلمّس _في تفاصيلها_ تلك العلاقة الملتبسة بين “الجماهير” والزّعيم، وتكشف ذلك الأثر الخطير للإعلام الموجّه على جموع البشر المنقادة طوعاً أو كرهاً لتجسيد سريالية الواقع عبر كرنفالات يتمُّ تصنيعها بدقة متناهية وذلك في مصنع البروباغندا الضّخم، الذي يجذب إليه خيرة الفنيين وعديد المفكرين والأدباء ، ولا يسمح لأيّ مفكر أو أديب بالطّيران خارج السّرب مهما تكن أسبابه ودوافعه، ذلك المصنع هو ما يُطلق عليه اسم “الحزب” وهذه الإرادة “السّياسية” هي ما يُشكِّل جوهر الصّراع في الرّواية.
وقد استعرض الكاتب الآليات الانتهازية في الوصول إلى المراتب العليا وحالات الوقوع تحت سحر الإعلام الموجه ليقرر في نهاية المطاف الاعتقاد السّائد بين النّخبة المثقفة في حينه بأنّ ثمّة حالة من الخواء أو الغيبوبة تهيمن على الوطن والمواطن معاً، وأنّ الانكفاء للدّاخل هو أفضل الحلول، حسب ما يُفهم من منطوق الشّخوص الرّوائية.
هذا الاستنتاج (ثمة حالة خواء أو الغيبوبة تهيمن على الوطن والمواطن) يجعلنا نتساءل عما إذا كانت هذه النخبة المثقفة تفرّق بين الجهل والتجهيل وسنوضح هذا التساؤل في نهاية هذه القراءة.
أمّا في روايته الجديدة “أوراق برلين” والتي جاءت بعد انقطاع سبعة عشر عاماً عن الكتابة حدثت خلالها ثورة ثمّ سلسلة حروب شنّها النّظام وداعميه على الشّعب السّوري منذ عشر سنوات وما يزال إلى يومنا هذا، تدمرت خلالها مدن وتشرد شعب وقتل أكثر من مليون إنسان، فهل ماتزال حالة الخواء والغيبوبة تهيمن على الوطن والمواطن؟ وهل ماتزال النّخبة المثقفة ترى أنّ الانكفاء للداخل هو الحل؟
في نص هادئ ورتيب _حدّ الملل أحياناً_ نعيش مع راوٍ نخبوي (كاتب) يعشق الموسيقا والكتب ويعيش في برلين، يرصد لنا صورتين مختلفتين على سبيل المقارنة _وليس المواءمة_ بين برلين وحلب فوجه الشّبه الوحيد بينهما هو كونهما مدينتان تعرضتا للدمار العظيم، أمّا ما تبقى فمختلف جداً. وفي واقع الأمر فإنّ وجه الشّبه هذا لا يصلح مثالاً عن الواقع السّوري رغم كثرة الاستشهاد به من قبل السّوريين عامة فدمار برلين جاء بحربٍ عالمية وقد دخلتها القوات الرّوسية وعاثت فيها فساداً. أمّا دمار حلب فقد كان بأيدي أبناء الوطن وهم من عاث فيها فساداً. ثمّ إنّ إعادة إعمار برلين تحقّق بفعل معجزة اقتصادية قام بها الألمان الذين وقع عليهم الدّمار في حين أنّ من دمّر حلب والمدن السّورية ما يزال على رأس السّلطة.
تأتي الصّورة الأولى واضحة في الحكاية التي حكتها هيلدا للراوي في الصّفحة 76 حيث تشرح له أنّها من عائلة كاثوليكية محافظة لكن ذهاب الرّجال إلى الحرب منح النّساء فرصة عظيمة للتحرر الكامل وعندما انتهت الحرب وعاد الرّجال حاولوا إعادة المرأة للمطبخ لكن الواقع كان قد تجاوزهم وصارت النّساء يُعبّرن عن أحلامهنّ بكل قوة.
وهذا يفسّر الحريّة المطلقة للمرأة الألمانية، والتّغيير المذهل الذي حدث للرجل الألماني فيما بعد لدرجة أنّ المرأة يمكن أن تحبّ رجلين فتحمل من أحدهما ويفرح الثّاني بالحمل من الحبيب الآخر فرحاً عارماً، كما حدث مع كريستا وبطل الرّواية عكس ما حصل مع والدتها هيلدا في صباها التي تركها خطيبها عندما شكّ في حملها من حبيب سابق، كذلك نتلمّس مطلقية الحريّة في قصة كاتيا وأنتونيا المثليتين اللتين أحبّتا أن يكون لهما ولد وتمّ لهما ذلك بالاتّفاق مع شقيق أنتونيا، وأيضاً يمكن استحضار الطّريقة التي تعيشها فلورا صديقة البطل للتدليل على الحريّة الفردية المطلقة. أما إذا انتقلنا إلى حلب فسنجد أنّ حضورها سيأتي على الطّرف النّقيض من حضور برلين وذلك من خلال خطين، أحدهما درامي يحكي قصة صبري ومنها نستكشف عمق التّخلف الذي يعيشه المجتمع الحلبي والثّاني سردي من خلال تقنية الاسترجاع عبر الذّاكرة والصّور التي التقطها بطل الرّواية عندما كان في حلب.
تركز الاسترجاعات على صور الدّمار الذي حلّ في ضواحي حلب الشّرقية وتعكس حجم الدّمار الهائل الذي طال كافة الأماكن الأثرية والتّاريخية وبأسلوب همجي من جيش النّظام والفصائل المسلّحة المتطرفة دينياً وفي الوقت الذي كنّا نرى فيه أبناء برلين يحافظون بشكل مثير للدهشة على معالمهم الأثرية نجدهم في حلب غير مبالين بما يحصل من دمار ما يعكس حجم التّخلف والجهل لدى المتحاربين وجميعهم سوريون، لكن الفارق يبدو وكأنّ الأمر بسبب الدّين فالتّشدد الكاثوليكي يختلف عن التّشدد الإسلامي فالأول تقبّل حريّة المرأة المطلقة وحافظ على ما تبقى من مواقع أثرية حتى لولم تكن غارقة في القدم بينما التّشدد الإسلامي حطّم الكمنجات للموسيقيين وكاد يقتلهم لولا تدخل أحد المقاتلين غير الملتحين. أمّا وضع المرأة الحلبية المتخلف فنستنتجه من قصة صبري الضّابط الذي انشقَّ عن قوات النّظام كي لا يمارس قتل الأبرياء ثانية واستطاع الخروج من سوريا بفضل علاقة حبّ جمعته بجنية هامت به وأنقذته عدّة مرّات من موت محتم، حتّى أنّ والدها ملك الجن حمله بعاصفة واجتاز به الجدار العازل ناقلاً إياه من سوريا إلى تركيا. وفي برلين تعلّم اللغة بسرعة ثمّ بدأ رحلة استعادة التّوازن النّفسي من خلال الرّقص والحشيش. وعندما أرادت أمّه وأخواته الثلاث أن يعرفن أخباره بعد أن صارت الشّرطة العسكرية تبحث عنه لجأن إلى الشّيخة نوران لتضرب لهم في (المندل) وتخبرهم أنّه حي، ثمّ دفعت الأم مبلغاً ثانياً لتساعدهم الشّيخة نوران في تعمية أعين الشّرطة العسكرية عنه.
هذا هو الواقع الاجتماعي في حلب المدمرة كما تعكسه رواية (أوراق برلين) وهي رسالة واضحة من المؤلف بأن لا أمل يُرتجى في أيّ إعادة إعمار لحلب على غرار إعادة الإعمار لبرلين طالما أنّ الإنسان محكوم بالخرافة والغيبيات والمتحاربون محكومون بالتّخلف والتّطرف..
حسناً لقد خرجنا بعد قراءة الرواية باستنتاج مفاده أن الناس في مدينة حلب على درجة كبيرة من الجهل والتخلف وخاضعون لحالة دينية يصعب الفكاك منها بسبب هذا الجهل، يعيدنا هذا الاستنتاج لتساؤلنا السابق حول الجل والتجهيل، فقد دأبت السلطات (التقدمية) على اتهام شعوبها بالجهل ولأن الجهل موجود فقد انساقت النخب المثقفة خلف هذه السلطات في محاربة مجتمعاتهم فكانوا والسلطة الفاسدة في خندق واحد ضد المجتمع المتخلف دون أن تحاول هذه النخب محاربة البحث عن دور هذه السلطات في تجهيل شعوبها. وإذا كانت محاربة الجهل تضع النخب المثقفة في مواجهة مجتمعاتهم فإن محاربة التجهيل تضع النخب في مواجهة مع السلطات وهذا ما جعلهم يؤثرون السلامة ويختارون (حالة الخواء والغيبوبة) التي أقرها الكاتب نهاد سيريس في (الصمت والصخب) ويعيد إنتاج الفكرة ثانية في (أوراق برلين)
وإذا كان الأمر كذلك يحقُّ لأيّ إنسان بسيط أن يتساءل عن دور المثقف الحقيقي في هذه المعركة؟ وهل يكفي استعراض الكتب والرّوايات والتّعمق بأنواع الموسيقا وأنواع الرّقص والأفلام السّينمائية ومناقشتها مع الصّديقات كما فعل الكاتب الرّاوي في (أوراق برلين) لتشكيل نموذج المثقف العضوي الذي نادى به غرامشي من أجل التّغيير المأمول؟ أم ستبقى برلين أشبه بمتلازمة مرضية في ذهنية المثقف السّوري؟