مصعب قاسم عزاوي
كاتب سوري
مجلة أوراق العدد 12
الملف
لم تكن ثورة الشعب السوري المظلوم في آذار من العام 2011 ثورة زنادها القادح اجتهاد المثقفين بأشكاله المعرفية والتنظيرية والإيديولوجية، وإنما ثورة شعب أدمن التنكيل به، وقهره، وتحويله إلى قطيع من الأسرى في سجن كبير اسمه الحرفي والتوصيفي في آن معاً «سورية الأسدية».
وبشكل أكثر تدقيقاً فقد كانت ثورة السوريين ثورة عفوية شارك فيها كل الشعب السوري المنكوب تاريخياً منذ وأد مسيرة نضجه الطبيعي كمجتمع وككيان سياسي في لحظة إذعانه للقومية الشعبوية العسكرتارية مشخصة بلحظة اجتراعه على مضض لمشروع الوحدة الاندماجية مع مصر في العام 1958 في تجربة إرادوية أصلَّت القمع كأسمى أدوات الفعل السياسي في المجتمع، ومأسست الدولة الأمنية وشبكة علائقها كنموذج حصري ليس سواه من بنيان وهيكل للبيروقراطية التنفيذية للكيان العياني المشخص لعلاقة الرعايا بحكامهم. وهو الواقع البائس الذي أعاد إنتاج نفسه بشكل أكثر قبحاً في انقلاب القوميين الفاشيين من البعثيين في العام 1963، وما تلاه من انقلاب البعثي «الخلبي» حافظ الأسد في العام 1970، واعتقاله لكل «رفاقه» من «رموز الفاشية البعثية»، ليفسح المجال لإعادة تعريف «حزب البعث الفاشي» بمضاهاته و مطابقته مع شخص «حافظ الأسد» نفسه ليتصعد بعدئذٍ إلى رتبة «القائد الملهم» الذي يختزل الوطن في «عظمته الفاشية والمافيوية والطائفية»، ويصير في ظله المجتمع السوري «سورية الأسد» التي كان المآل الطبيعي لصيرورتها الاستمساخية ممثلاً بتحولها «ملكية إقطاعية» يورث فيها «الفاشي الأب» ابنه «المأفون الممسوس» بواجبه المقدس بالحفاظ على كينونة ما استولى عليه «سلفه بالحديد والنار»؛ وهو ما كان المقدمة للتعامل البربري المنفلت من كل عقال آدمي في تعامل كل المنتسبين إلى جسد «الدولة الأمنية السورية» والمنتفعين منها من مرتزقة و قناصي فرص مع أولئك المقهورين الذين خُيِّل لهم بأن الانعتاق من «أسرهم المزمن» في أوطانهم المحتلة من قبل طغاة الفاشية الأسدية وجلاوزتها وعسسها وبصاصيها ووشاتها قد أصبح قاب قوسين أو أدنى كما كان حال أشقائهم في القهر و الفجيعة المزمنة في «تونس الطاغية بن علي»؛ وهو ما كان ليتحقق فعلياً لولا تآمر كل الأفرقاء والأعدقاء الكونيين على الشعب السوري المظلوم، وتحويل أرضه إلى ساحة لتصفية حساباتهم بدماء الشعب السوري المكلوم.
وقد يستقيم القول بأن الكثير من المثقفين الأحقاق في سورية قد أخذوا على حين غرة بذلك الزخم الشعبي الثوري الاستثنائي مجتاحاً جُلَّ تفاصيل الخارطة السورية بشكل غير مسبوق استعصي استبطانه من قِبَل أولئك المثقفين الذين تدرب كثير منهم على «فن السير على الخطوط الحمراء دون تجاوزها»، أو الانكفاء إلى العمل الثقافي النخبوي فكرياً أو إبداعياً أو حتى أكاديمياً في محاولة لتجنب مفاعيل حلقة الترويع التاريخي التي قام بها نظام «الطاغية الأب» بتصفية وإعدام الحركية الثقافية في سياق تصحير المجتمع سياسياً وفكرياً ومعرفياً ضمن نسق أن «حزب البعث قائد للدولة والمجتمع»، وأن الحزب ومن لف لفه من أمساخ انتهازية ارتزاقية فيما كان يدعى «الجبهة الوطنية التقدمية» مشخص مختزل في كينونة وعظمة «القائد الملهم» الذي ليس من جهد ثقافي أو فكري أو معرفي يستحق القيام به في حضرته سوى «التسبيح بحمده بكرةً وعشياً».
وهو الواقع المأساوي الذي أنتج جحافلاً من «المثقفين الخلبيين» من فئة «المتعالمين الانتهازيين الوصوليين» الذين تمكنوا بقوة «إرهاب الدولة الأمنية وأجهزتها القمعية» من تأصيل معادلة قوامها أن المثقف الخالص في «سورية الأسدية» هو الأكثر «إبداعاً و أصالة» في «فنون و ضروب» التحول إلى «تيس مستعار» مهمته نزع صفة «الحرام» عن الطغيان والاستبداد والفساد والإفساد المافيوي للدولة الأمنية وتحويله إلى «حلال زلال»، بالتوازي مع «تفتقه الثر» عن مداخل إخراجية جديدة تبز كل ما كان يقوم به «وعاظ السلاطين»، و تتجاوزه إلى رتبة جديدة من «نضال الرفاق المثقفين الأمنيين» الذين تصدرت إفرازاتهم كل المحافل الثقافية المحدودة على امتداد الخارطة السورية إبان الثورة، والتي قد يكون أبرزها «اتحاد كتاب علي عقلة عرسان»، و «اتحاد صحفيي البعث و الثورة و صابر فلحوط» الذين تمركز دورهما الوظيفي على تدجين المثقفين وترويضهم وتدريبهم على عدم تجاوز الخطوط الحمراء عبر «القبض على تلابيبهم المادية» من خلال ما يقومان بدفعه من مكافآت واستكتابات ومزايا هنا وهناك، دون أن يعني ذلك عدم حضور الآلة القمعية الجلمودية بكل ثقلها إذ سولت النفس الأمارة بالسوء لأي كاتب أو مثقف النشوز عما هو مرسوم له ليكون مصيره كمصير مئات الآلاف من المفقودين في غياهب السراديب الأمنية في الأفرع و الشعب الاستخباراتية التي قد لا يكون من المبالغة النظر إلى عددها بأنه كان دائماً أكبر من عدد المشافي والمدارس على امتداد الخارطة السورية دائماً في حقبة «عصور الظلام الأسدية».
وقد يكون من اللازم في سياق الحديث عن الثورة السورية اليتيمة التطرق إلى ما طغى هنا وهناك من نزعات نرجسية مبالغ بها لبعض «المثقفين الأحقاق» والكثير من «المتعالمين الخلبيين» لمحاولة امتطاء جسم الثورة وتصدر زخمها الاجتماعي والإعلامي، وهو ما تكرس لاحقاً في تشكل «رموز قيادية انتحالية مزورة» تصدرت الشاشات الإعلامية شرقاً وغرباً، بعد أن أصبحت الساحة الثورية مفرغة من قدرات فرز الغث عن السمين والانتهازي الوصولي عن «المثقف الانعتاقي المؤمن حقاً بثورة أهله وناسه» جراء ما تعرضت له انتفاضة الشعب السوري من بطش أمني في المراحل الأولى للثورة، ومن ثم عسكري على نهج النازيين والفاشيين بيمينهم ويسارهم في تخليق «الأرض المحروقة» و«الإبادة الجماعية» وصولاً إلى مختلف أشكال «التطهير العرقي والمذهبي» في تراجيديا قد تكون الأكثر إيلاماً في تاريخ الثورات الاجتماعية في القرن الواحد والعشرين.
وهي الثورة السورية اليتيمة التي بدا زخمها الاستثنائي الصاعد في أشهرها الأولى بأنه تباشير الانتصار والانعتاق من طغيان «الطغمة المافيوية الأسدية»، مما حدا بالكثير من أولئك «المثقفين الطبالين» و«الأتياس الفكرية المستعارة» السالفة الذكر إلى القفز مبكراً من مركب «التسبيح بحمد الجلادين الأسديين والبعثيين» إلى مركب الثورة طمعاً في قطف مبكر لحصة أكبر من مكاسب الثورة التي كادت فعلياً أن تدرك مآربها في أكثر من منعطف في صيرورتها خلال الأشهر الأولى من عمرها الطهراني القصير. وذلك التوصيف الأخير يستدعي من كل ذي عقل وجنان لا زالت «الموضوعية والعقلانية» كسمتين واجبتين في خَلَدِ و جَنَانِ كل «مثقف صدوق» من التشديد على أن الثورات ليست كالحج الذي «يغسل ذنوب» المنخرط فيه، ويعيده «طاهراً كما ولد من بطن أمه»؛ إذ أن الهدف الطهراني السامي لكل الثورات الاجتماعية على امتداد تاريخ الحضارة البشرية المكتوب كان يتمحور حول «إنصاف المظلومين»، و«معاقبة الظالمين»، وهو ما يقتضي الإشارة بالبنان المشرئب واللسان القويم الصريح الذي لا مواربة فيه إلى الكثير من فئة «المثقفين التلفيقيين الخلبيين»، و الذين هم بالأصل «نكرات ووشاة و منافقون أفاقون تم تصنيعهم أمنياً في كواليس اتحاد علي عقلة عرسان وشركاه» قادهم «رجس قرون استشعارهم الدنيئة» إلى الظن بأن غرق مركب الطغمة الأسدية وشيك بعد تلويح «سيد الإرهابيين في البيت الأبيض» بخطوطه الحمراء الإيهامية، فقرروا القفز إلى مركب الثورة وهي في مهدها، ولم يجدوا من طريق بعد تراجع زخم الثورة السورية سوى العمل بالنهج الذي لا يعرفون سواه، وأعني هنا «الوصولية والارتزاقية» و«اللعب على كل الحبائل» لتحويل «انخراطهم الشكلي» في ركاب الثورة السورية إلى «بوابة للارتزاق والارتهان» على حساب دماء وحقوق السوريين المظلومين لأي من قد يشبع نوازعهم وغاياتهم وأسبابهم الوصولية والانتهازية الدونية الرخيصة في شكلها ومضمونها وكل تمظهرهاتها.
والحقيقة الدامغة في سياق عقد سنوات الثورة السورية مهيضة الجناح هو صَغَارُ وتقصير كل المثقفين الخلص بكل مشاربهم، عن القيام بواجبهم المناط بهم بشكل يرتقي إلى حجم التضحيات الأسطورية للشعب السوري المقهور، وهو ما تجلى بأشكال متفاوتة من القصور البنيوي و الوظيفي من قبيل بعض التمظهرات «الطفولية الفرويدية الصارخة» على شاكلة «الصراع الوجودي» الذي خاضته بعض «الأنات النرجسية المتورمة تلفيقاً» في منظار بعض شخوص الجسد الثقافي السوري لترسيخ و توطيد قيمتها -الصفرية في الواقع- في صيرورة الثورة السورية وبين العطاء الملحمي للسوريين البسطاء والذين لم يحظ الكثير منهم بقسط منصف من التعليم جراء الإفقار والنهب والفساد المنظم الذي هيمن على المشهد السوري خلال عقود «الظلامية الأسدية». وهو ما تجلى أيضاً بتلاوين تقصيرية أخرى عند البقية الباقية من أولي الألباب الخُلَّصِ من المثقفين على شاكلة «النكوص»، و«الانسحاب» جراء الشعور العميق المتأصل «بقلة الحيلة» و«التفجع المتحسر» الذي لا مهرب من حبائله في وجدان الغارق في مفاعيله، مقعداً إياه عن الانخراط أو الإتيان بأي جهد فعلي حقيقي ملموس يرتقي إلى مستوى وحجم تضحيات الشعب السوري الجللة.
وذلك التوصيف الأخير كله يستدعي من كل مثقف سوري حق مخلص صدوق إعادة الاعتبار للحقيقة الدامغة بتقصير جل المثقفين السوريين عن القيام بواجبهم التاريخي المناط بهم، بشكل يتجاوز «حركيات التنفيس» و«لغو نواصي المقاهي القائمة بالفعل و تلك الفيسبوكية منها» إلى نموذج من العمل المجتهد الدؤوب بكل ما أوتي كل فرد من أولئك المثقفين من قوة وعزم وصبر ومصابرة للالتحام بواجبه الذي لا بد منه إبداعياً ومعرفياً وفكرياً وتوثيقياً لإظهار الصورة الحقيقية لكينونة الثورة السورية الموءودة، والشعب السوري المظلوم المقهور، والدفاع عن حق كل أبناء المجتمع السوري المكلوم بالانعتاق وعدم الاستسلام المهين الذليل إلى ما يريد الظُلَّام من مظلوميهم استبطانه مشخصاً في المقولة النكوصية بأن «العين لا تقاوم المخرز»، والانتقال من فضائها الاستكاني الذليل إلى حيز «تشاؤم العقل بواقعه البائس، وتفاؤل الإرادة بما يمكن لحركية التاريخ تحقيقه»، وهو ما قد يستقيم القياس عليه في نسق الثقافة و الفكر و الإبداع بأن «القلم المجاهد الصابر المصابر قد يفلح في صد المخرز» حين تتضافر كل المآقي التي يكتب لأجلها في حركة جمعية ينظر فيها المثقفون إلى ذواتهم بأنها جزء من عضوي وتكويني في لحمتها باطناً و ظاهراً بغض النظر عن موقعها الوظيفي فيه سواء كان ريادياً أو نصيراً أو ظهيراً.