الكرسي: حكاية دُرّة جولانية

0

قاسم الحسين

محامي سوري مقيم في بروكسل

مجلة أوراق- العدد 17-18

أوراق النصوص

عندما نبدأ بالحديث عن دُرر الجولان سوف يخطر ببالنا ناحية البطيحة، ذلك السهل المنبطح من مرتفعات هضبة الجولان باتجاه منخفضات بحيرة طبريا والحولة ونهر الأردن، ما يقارب عشرون قرية منتشرة في السهل الخصيب الفسيح بمناخ دافئ شتاء حار نسبيا في فصل الصيف.

هناك تتجمع الأودية مثل وادي السمك وادي حوا وغيرها. وبانحدار شديد لتصب في بحيرة طبريا مشكلة النهر البارد لترسم الطبيعة لوحة تسبح باسم الخالق المبدع. 

وعند التقاء النهر بالبحيرة تكونت قرية الكرسي.

في عام (2000) زار البابا يوحنا بولس السادس قرية الكرسي العربية في الجولان المحتل، وأقام فيها قداس حضره الآلاف من المؤمنين حول العالم، وشاهده الملايين عبر الشاشات. فالمكانة الكبيرة لهذه القرية الصغيرة في قلوب المؤمنين تجعلنا جميعا نتجه للدراسة حول هذا الموقع جغرافياً وتاريخياً ودينياً وديمغرافياً.

موقع الكرسي

تشرف الكرسي على بحيرة طبريا فتحدها البحيرة من جهة الغرب ومن الشمال قرية الدوكة ومن الجنوب قرية النقيب ومن الشرق قرى وادي السمك الشهير.

تقسم أراضي قرية الكرسي إلى خمسة أقسام هي: جبل القلّومة وجبل العريف -بالراء المهملة- (مصيف أهل القرية بسبب ارتفاعها) والسيبة (وفيها نبع ماء غزير يسمى عين السيبة دائم الجريان) والنجيلة وعويصة.

وفي القرية نبع ماء عذب يسمى (عين المفخوتة).

وكما يوجد في المنطقة الجنوبية وضمن أراضي الكرسي عين ماء كبريتية كان يقصدها الزوار للاستشفاء. وهي قديمة وأثرية وكانت مخدمة ويقصدها الزوار من كافة أنحاء سوريا، وكانت الكرسي مقصد للحجاج المسيحيين قبل عام 1967.

تنخفض القرية (200 م) عن سطح البحر. وتمتاز المنطقة بأمطار غزيرة ما يقارب (450 مم) سنوياً.

الكرسي عبر التاريخ

إن تاريخ هذه البلدة أصيل ومُغرق في القدم من أصالة الجولان والمناطق المحيطة به من حوران الأبية ودمشق التاريخ. 

يرجع تاريخ الكرسي إلى العهود اليونانية والبيزنطية والإسلامية القديمة ما يدل على ذلك الكم الهائل من الآثار الواضحة للعيان من بقايا سور القلعة وأديرة وكنائس وطرقات مرصوفة وحمامات وألواح رخامية منقوشة وآثار مرفأ قديم للقوارب.

عند ياقوت الحموي (الكرسي) موقع في طبريا يقال إن المسيح جمع الحواريين بها وأنفذهم منها إلى النواحي، وفيها موقع الكرسي وزعموا أنه جلس عليه السلام.

كما أن معجزة السيد المسيح عليه السلام بطرد الشياطين كانت في هذا الموقع.

ويرجع الباحثين إلى أن جرف صخري في المنطقة يشبه الكرسي (المقعد) حيث يرجعون الى أصل الكلمة بالآرامية (كورسا). وإن هذا الجرف الصخري الذي اجتمع فيه السيد المسيح مع الحواريين يقع على جبل القلومة في قرية الكرسي.

إن ما يصفه سكان القرية لهذا الموقع كشهود عيان سور أثري بطول يبلغ 150م مع عرض يصل إلى 125م،وسماكة جدار السور تبلغ متراً، ويتخلل هذا السور قنطرة وأعمدة عند المدخل.

النشاط الاقتصادي في القرية

إن انحدار الأودية باتجاه منخفضات البطيحة محملة بالتربة اللّحقية الخصبة ومناخ المنطقة الدافئ شتاءً الحار نسبياً في فصل الصيف كل هذه العوامل ساعدت على ازدهار الزراعة.

من أشهر الزراعات: الخضار البواكير (البندورة والخيار) والموز والبطيخ حيث كانت هذه القرية بالإضافة الى قرى البطيحة الاخرى تغرق أسواق الهال في دمشق بمنتجاتها مما انعكس على تحسن الحالة المعيشية لسكان المنطقة، بالإضافة إلى زراعة كافة أنواع الخضار الأخرى والحبوب بأنواعها البقوليات.

من النباتات الطبيعية التي تنبت في هذه المنطقة أشجار السدر والرُّبّيض والخوخ البري.

صيد الأسماك

كما اشتهرت قرية الكرسي بصيد الأسماك من بحيرة طبريا، ومن أنواع الأسماك: المشط الطبراني الشهير ذو المذاق الرائع، وسمك السردين والقشري والبوري والبلبوط.

قرية الكرسي وبحيرة طبريا

كانت بحيرة طبريا تشكل لسكان الكرسي بالإضافة الى كونها مورداً للرزق، حالة من العشق والوداد بين شاطئ البحيرة وسكان الكرسي كانوا يقيمون هناك أفراحهم ومناسباتهم السعيدة.

من تقاليد السكان أن يتم استحمام العريس قبل عرسه بيوم على شاطئ البحيرة قد تكون هذه العادة متوارثة من أسلافهم قبل آلاف السنين. ويبدو أنها مأخوذة من عصر الحواريين وكون طبريا ونهر الأردن مقدسان في الديانة المسيحية وعنها أخذت عادة التعميد المسيحي.

فيجتمع شباب القرية في منزل والد العريس وبعراضة شعبية يُؤخذ العريس محمولاً على الأكتاف الى البحيرة، وهناك يتم تغسيل العريس من قبل الأقارب والأصدقاء في جو من المرح والغناء والموسيقى حيث يرافقهم الة (المجوز والشبابة) وحتى عند طهور الطفل يقوم شيخ البلد بتغطيسه بمياه طبرية.

من الأغاني المشهورة (شفتها تسري جو الشط الشط … مدري هي فريخة سمك مدري هي فريخة بط … وان كان مشي الغزلان قمز ونط … ما حيد عن عشرتك يا نور عينيا).

السكان

يبلغ عدد سكان بلدة الكرسي ما يقارب (500) نسمة حتى عام 1967، وقد اشتهروا كما كل القرى الجولانية بالنخوة والكرم وإغاثة الملهوف حيث كانت هذه القرية ملجأ لكثير من الضعفاء الذين اضطهدوا من قبل الاقطاعيين في قراهم. 

كما استقبلت القرية الكثير من الأسر الفلسطينية بعام النكبة (1948) فأكرمتهم وكأنهم أبنائها. ونتيجة قرب القرية من حدود فلسطين كان لسكانها الكثير من البطولات في صد العدوان الإسرائيلي المتكرر.

ودور الأهالي في معركة تل النيرب في مساعدة الجيش كبيرٌ جداً، حيث كان الكثير من أهالي الكرسي في صفوف الحرس الوطني السوري ومسلحين. يذودون عن حمى وطنهم وكرامتهم. من شهداء هذه المعركة الشهيد البطل أحمد الفهد والشهيد البطل علي الهبل والشهيد البطل خليل السودي. ومن داريا الشهيد الملازم محمود دباس.

 ومن القصص المشهورة ما يرويه أهالي المنطقة عن الحجة (وردة أم علي) التي كانت طول فترة المعركة تنقل الماء إلى الجنود وإلى شباب القرية المرابطين معهم تحت القصف حاملة دلو الماء على رأسها بقامتها الطويلة دون أن تنحني. كانت تتنقل بين الخنادق والحفر تسقي العطشى وتضمد الجراح لتصبح (الحجة وردة) أيقونة من أيقونات القرية.

من أهم العائلات في هذه القرية: آل هلال والعبدلله والموسى.

من وجهاء هذه القرية المختار (حسين الجاسم) الذي كان ذائع الصيت في كل منطقة الزوية بالإضافة إلى كونه اشتهر بأنه طبيب عربي يجبر الكسور ويداوي الجروح حتى ذاع صيته وشهرته ووصل إلى الجيش البريطاني والفرنسي حيث عالج الكثير من الكسور المستعصية لجنودهم. معتبراً الطب مهمة إنسانية قبل كل شيء حتى مع الأعداء.

كما شارك في الاجتماعات التي حضَّت على الثورة السورية الكبرى في السويداء كأحد وجهاء منطقة الزاوية والقنيطرة. وقد تابع مسيرته العطرة ابنة (كريم الحسين الجاسم) شيخاً كريماً لبلدة الكرسي. ومن وجهاء قرية الكرسي مصطفى الحسين وموسى الحمدان وسعد العلي وعطية الحسن والمختار خليل الموسى رحمهم الله جميعاً.

لقد نزح أهالي الكرسي كما إخوتهم في عموم الجولان إلى دمشق وأريافها وإلى قرى محافظة درعا.

وكان لهم دوراً كبيراً في الثورة السورية ضد نظام الأسد الظالم، وكانوا هم من الأعمدة الأساسية للثورة في ريف دمشق الجنوبي. حيث استشهد من أهالي الكرسي أكثر من (100) شهيد في المعارك ضد النظام أو كمدنيين جراء قصف البراميل، وقد قضى عدداً منهم في مجزرة تجمع الذيابية للنازحين.

نذكر منهم (زكريا رشيد وإبراهيم حسين الشهير بلوفا ومحمد أيوب حسين ويعقوب حسين وعبد لله عبد الخالق وموسى عمر موسى وخالد عبد لله موسى وحمدي حسن محمد وسعد الخالد وأحمد سعد الخالد وعدي موسى ومحمد رشيد ومنعم رشيد ورحمة عبد لله عصمان ومحمد صالح عقيل وعمر موسى حمدان وجهاد حسين وعرسان حسين وأشرف العلي ووليد العلي ومازن العلي ومحمد العلي وبلال بخيت وحسن وائل الأحمد وآلاء حمدان وزهير السعيد وعبدو عقيل وبشار محمد حسين …..وآخرين  ….)

وأخيراً هناك أعداد كبيرة من المعتقلين من أبناء هذه القرية الشماء في سجون النظام. كنا ومازلنا نطلب لهم الحرية، الت ستشرق عليهم يوماً ما شمسها هم وباقي إخوتهم في كل محافظات سوريا دون استثناء.