مع قدوم موجة اللاجئين العرب، وبالأخص السوريين، إلى مدينة إسطنبول مع بدايات عام 2013، بدأ الباحثون والقراء العرب في هذه المدينة بالسؤال عن مراكز أو مكتبات تزودهم بالكتب العربية الجديدة، خاصة أنّ المكتبات التركية ما تزال إلى يومنا هذا فقيرة على صعيد الإصدارات العربية.
وفي هذا السياق، عمل بعض المثقفين والناشطين في هذا المجال على إطلاق عدة مبادرات صغيرة للبيع. مع ذلك بقيت هناك أزمة في توفير الكتب العربية. وكان الحصول عليها، في الغالب، يتم عبر طلبها من الخارج، ما يعني دفع ثمن الكتاب ضعفين أو ثلاثة بسبب أجور الشحن. لكن هذا الواقع سينفرج قليلا مع تأسيس (مكتبة بيجز) في أحد أحياء حي الفاتح في إسطنبول، وقد استطاعت هذه المكتبة لعدة أشهر توفير قدر من الكتب العربية، قبل أن تغلق أبوابها في وقت لاحق.
وفي الفترة (من 2014ـ 2015) بدأ عدد من الناشرين بزيارة مدينة إسطنبول، التي تحوّلت إلى وجهة جديدة للمثقفين والسياسيين العرب. ومن هذه الزيارات بدا لهم أنّ هناك جمهور عربي واسع ومتعطّش للحصول على الكتاب العربي. نتيجة لذلك، سيندفع الناشر والباحث السعودي نواف القديمي، صاحب الشبكة العربية للأبحاث والنشر، التي تعدّ اليوم واحدة من أبرز دور النشر العربية، إلى عقد أول معرض للكتاب العربي في حي بيازيد الشهير وسط إسطنبول. وقد مثّل المعرض يومها حدثا استثنائيا بعد عقود طويلة من انقطاع العلاقات العربية التركية. ويروي لنا من عاش يوميات المعرض، صورة طابور الزوار والقراء وهم يتنافسون على شراء أكبر كمية من الكتب. كما شكّل المعرض فرصة للاستماع إلى أسماء كبيرة في عالم الثقافة والسياسة العربية من أمثال أبو يعرب المرزوقي وبرهان غليون وسيف عبد الفتاح إسماعيل وغيرها من الأسماء.
افتتاح المكتبات العربية
بعد هذا المعرض ستقام معارض أخرى للكتب الدينية. وبسبب زيادة الطلب على الكتاب العربي، سيتّجه القديمي مرة أخرى إلى تأسيس أضخم مكتبة عربية في إسطنبول في شهر سبتمبر/ أيلول2017 وسط حي الفاتح، الذي تحوّل مع مرور السنوات إلى صورة مصغّرة عن مدينة دمشق. ومع هذا التأسيس، أصبح في إمكان القارئ العربي في المدينة، أو الزائر لها، الحصول على آخر الإصدارات العربية. كما تحوّل جناحها العلوي إلى مركز ثقافي لا يمر عليه أسبوع، قبل فترة كورونا، دون أن يستضيف حفلات توقيع كتب ومحاضرات.
ومع نجاح تجربة الشبكة، اندفع عدد من الناشرين والعاملين في عالم الكتاب والطباعة إلى تأسيس دور ومكتبات نشر عربية جديدة، فبعد عام أو عامين من 2017، بدأ زوار حي الفاتح بالعثور كل فترة على أسماء دور ومكتبات جديدة؛ مثل مكتبة الأسرة العربية ومكتبة وسم ودار موزاييك وأسماء أخرى عديدة.
جمعية تركية للكتاب العربي
مع تزايد عدد المكتبات العربية في إسطنبول، بدا أنّ هناك حالة من التفاؤل بمستقبل الكتاب العربي في المدينة، حتى أنّ البعض دعا إلى أن تكون بديلا عن بيروت كعاصمة للكتاب العربي، وما جعل هذا الحلم ممكناً، رخص تكاليف الطباعة في تركيا، وتأزم الأوضاع في بيروت. في موازاة هذا التطور، أعلن في عام 2018 عن تأسيس «الجمعية الدولية لناشري الكتاب العربي» وهي جمعية غير رسمية، ويديرها شخص تركي مقرب من حزب العدالة والتنمية التركي. وجاء في تعريفها على موقعها الرسمي أنها «منظمة مجتمع مدني تهتم بمشاكل الكتاب العربي في تركيا وتعمل على تقديم الحلول حسب المستطاع». لكن هذه النوايا لن تطول كما يقول عدد من الناشرين، إذ بدأت تتجه نحو ممارسة دور الرقيب على سوق الكتاب العربي. وبدلا من التركيز على تبني مبادرات وتوفير دعم للكتاب العربي، وهذا ما يمتاز به سوق الكتاب التركي، اقتصر دورها على احتكار إقامة معرض الكتاب العربي، ومنع مشاركة دور النشر ما لم تلتزم بشروطها، المجحفة أحيانا. كما أنّ هناك من أخذ يتهمها بالتضييق على المكتبات العربية ومحاولة التحكم بموضوع شحن الكتب العربية، والوقوف مؤخرا وراء إغلاق أكبر مكتبة عربية في تركيا.
لكن ما خلفية الاتهامات الأخيرة؟
وكانت بداية هذا المشهد، قد بدأت قبل أيام من إقامة النسخة السابعة من معرض إسطنبول للكتاب العربي (أقيم في أكتوبر/تشرين الأول). حينها أصدر مدير دار مكتبة الأسرة العربية بيانا حول عدم السماح له بالمشاركة في المعرض، بحجة إقامته لمعارض صغيرة طوال العام، وهذا ما تقوم به دور النشر التركية عادة طوال السنة، دون أن يتم منعها في معرض إسطنبول التركي للكتاب، بينما تبدي الجمعية اعتراضا على إقامة أي معرض خارج إدارتها.
وبعد هذا البيان بأيام ومع انقضاء أيام المعرض، تفجّرت مشكلة أخرى. هذه المرة في مكتبة الشبكة العربية للأبحاث والنشر، التي كان لها الفضل في إقامة أول معرض عربي للكتاب، حيث قامت عناصر من الشرطة التركية باقتحام المكتبة، بناء على شكوى تقول بغياب اللصقات الإلكترونية على الغلاف الخلفي للكتب. والمفاجئ في ما حدث، أنّ دورية الشرطة لم تكتف مثلا بإغلاق المكتبة، بل صادرت الكتب جميعها (قرابة 26700) كتاب. كما رفضت الشرطة وضع الكتب في صناديق كرتونية حفاظا عليها، بل قامت بتكديسها في أكياس تستخدم لتخزين القمح.
شكّل هذا الحدث صدمة للوسط الثقافي العربي في إسطنبول، كونها شملت أكبر مكتبة عربية، وأيضا بسبب طبيعة الإجراءات نفسها، خاصة أنّ بلداً مثل تركيا طالما عرف بدعمه للكتاب، وهذا ما يلاحظه الزائر للمدينة، من خلال أسعارها الرخيصة مقارنة بأسعار الكتاب العربي. وبعد هذه الحادثة بأيام، سيقوم القائمون على مكتبة الشبكة بمراجعة وزارة الثقافة التركية، مع ذلك لم تقم الوزارة بإعادة الكتب بعد شهرين تقريبا على مصادرتها، ما دفع مدير الشبكة العربية للأبحاث والنشر نواف القديمي إلى نشر بيان على صفحته مؤخرا (بعد إعادة افتتاح المكتبة منذ عدة أسابيع، بكتب جديدة). تحدث القديمي عن سياقات ما جرى، والمفاجأة جاءت من خلال اتهامه الجهة المشرفة على معرض الكتاب (في إشارة للجمعية ومديرها التركي) بالوقوف وراء عملية الإغلاق لأسباب كيدية. كما اتهم الجمعية بالعمل منذ مدة على احتكار كل ما يتعلق بالكتاب العربي، وتخير الناشرين والمكتبات العربية بالعمل معها طواعية، أو يتم تدميرهم بشكاوى مختلفة بحكم نفوذ مديرها.
وسرعان ما فتح هذا الاتهام للجمعية الباب للتعرف على حوادث مشابهة جرت في وقت سابق كذلك، واتهمت الجمعية التركية للكتاب بالوقوف وراءها، حيث كشف بعض المشاركين في معرض أقيم في غازي عنتاب قبل ثلاث سنوات، أنهم نظّموا معرضا مصغرا للكتاب، بعد أخذ موافقة من إدارة البلدية، لكنهم فوجئوا بعدها بأيام باقتحام الشرطة للمعرض، وبرفقتهم محامي الجمعية، ما تسبّب بإغلاق المعرض ومصادرة جميع الكتب، وسيطرت الجمعية لاحقا على أي نشاط يتعلق بالكتاب في المدينة.
نهاية ربيع الكتاب العربي في إسطنبول
لم تتوان الحكومة التركية في السنوات الأخيرة على تقديم مزايا عديدة لدور النشر والمكتبات العربية، وكان أهمها عدم فرض ضرائب على مبيعاتها، وتقديم أماكن لإقامة معارض الكتاب بأسعار رمزية (وهناك من يتهم الجمعية بإنكار هذا الأمر وتحميل الدور المشاركة تكاليف عالية). وتأتي هذه الإجراءات في سياق الدعم الحكومي التركي العام لعالم الكتاب وتوزيعه وترجمته، لكن هناك خشية اليوم من أن عالم الكتاب العربي في إسطنبول يعيش آخر أيام ربيعه، في ظل الهيمنة والاحتكار التي باتت الجمعية تفرضه على هذا السوق، ما ساهم في خلق حالة من الخوف والقلق لدى العاملين في هذا المجال، وهذا ما يعكسه عدم قبول أصحاب دور النشر بالتصريح أو تسجيل أي كلام حول الجمعية، وتفضيلهم أن يبقى الحديث شخصيا. فأصحاب المكتبات العربية، كما يقول أحد الناشرين، «مجرد لاجئين، ولا حول لهم ولا قوة في مواجهة جمعية صاحبها تركي في النهاية، وإن كانت باسم الكتاب العربي».
في المقابل هناك من بات يدعو إلى ضرورة تدخل وزارة الثقافة التركية بشكل مباشر في تنظيم هذا العالم، وأن تشرف أيضا على إقامة المعرض السنوي للكتاب العربي، إما من خلال بقائه على حاله، أو ضمه إلى معرض الكتاب التركي الكبير. وهي إجراءات يرونها كفيلة بكبح جماح الجمعية وغيرها من الجهات الاحتكارية. فهل تستجيب وزارة الثقافة التركية، أو مؤسسات الحوار العربية لهذه الدعوات؟ ولما يجري بحق دور النشر والمكتبات العربية؟ أم لن يختلف واقع الكتاب العربي عن واقع قارئه، وفق تعبير أحد اللاجئين السوريين.
*القدس العربي