الكاتبة التركية بيرين بير سايغلي موت: رسالة مفتوحة للإسلاموية واليسار الفلسطيني

0

بيرين بير سايغلي موت*

الإسلاموية واليسار الفلسطيني… يمكن أن تجدوا أنه من العجيب أن أناديكم بهذا الشكل، ولكن كيف بإمكاني أن أخاطبكم بغير ذلك؟ لو كنتم في مكاني فكيف ستبدؤون بهذه الرسالة؟ أتمنى مخاطبتكم بأسمائكم واحدًا واحداً، أو التحدث إليكم كلكم أو النظر في أعينكم، لكن مع الأسف هذا الشيء مستحيل. حسنًا، أنا على علم بأنني أطلت. يوجد عندنا مرض في الشرق، مثل عدم الاستطاعة على البدء بالكلام. لن أقوم بفعل ذلك. وأنتم تعلمون، نحن بالعموم نحب أن نخفي مشاعرنا وأفكارنا الحقيقية. أو نخجل. لذلك باستطاعتنا التكلم بقدر ما نستطيع، وليس بقدر ما يجب. يقول أومبرتو ايكو “يمكن لأي انسان أن يقوم بعمل الخطيئة إما بالتكلم كثيرًا أو بالصمت كثيرًا.” وبالنسبة لنا شيء آخر تمامًا. كلامنا مليء بالإيماءات. نقول شيئًا، ولكن نود لفت الانتباه لشيء آخر. نقول شيء لشخص ما، لكن في الأصل نود أن ننقل كلامنا لشخص آخر. لا أعلم كيف وفي أي عصر من التاريخ اخذنا هذه العادة، لكن إذا كان لكم إذن، سأجرّب أن أكون واضحة تمامًا معكم.

تستند أول الصور التي أتذكرها عن فلسطين إلى فترة الانتفاضة الأولى. في ذلك الحين، كنت طالبة في الابتدائية، وكانت جميع أجهزة التلفزيون في تركيا أسود وأبيض. كان يوجد قناة واحدة فقط وكانت الأخبار المسائية تبدأ قبل أن نذهب نحن الأطفال إلى النوم في الساعة 8:00 مساءً. وحينها فقط يمكننا أن نرى صور الانتفاضة بفلسطين. وأحياناً كانت تصبح الصورة على الشاشة مشوشة أو كان ينقطع الصوت أو تنقطع الكهرباء. ولكن، كما تعلمون الشيء الذي يثير الإعجاب أكثر عندما كنت طفلة هو الشجاعة. فقد كان الشعب الفلسطيني محفورًا في ذهني جيداً. وحين الانتفاضة الأولى، بدأت ألفت انتباهي كلما رأيت أخبارًا عن فلسطين على شاشة التلفزيون أو في الصحف. يا لا هذه الشجاعة التي ظهر بها كل هؤلاء الرجال والنساء وحتى الأطفال الذين شاهدتهم جميعًا. كم كانوا جميلين. والأهم من هذا كله، كم كانوا حقيقيين.

مرت السنوات, كبرت, وتم إضافة آلاف الصور الجديدة لفلسطين. فيبدو الأمر كما لو أنكم أخذتم يدي وقمتم بجذبي إلى قصة خيالية. وقد بدأ طائر يرفرف بمنتصف صدري. وهكذا قمت بالتعرف على الأدب الفلسطيني. لأنني كنت أحسّ بالملل من السياسة وأحب الأدب أكثر من أي شيء آخر. ويمكن للأدب والفن وصف واقع الشعب الفلسطيني على أحسن وجه. فقد كان علي فعل شيء ما. لكن ما هو؟ أولاً، كتبت نصًا وثائقيًا من خمسة أجزاء عن حياة محمود درويش وغسان كنفاني وفدوى طوقان وناجي العلي وسميح القاسم. وفي تلك الأثناء، كنا نتحدث باستمرار مع أسرهم وأصدقائهم. من جهة، كنا نصور ونقوم بعمل مقابلات عن الأدب الفلسطيني في فلسطين و 8 دول أخرى. فقد حالفنا الحظ وبث هذا الفيلم الوثائقي على التلفزيون الحكومي. وبعد ذلك عملت عليه أكثر قليلاً وقمت لتحويل هذه النصوص التي كتبتها إلى كتاب.

كنت أعرف بأن كل شيء كان في البداية، ولم أكن أستطيع حتى أن أخبر 10 ٪ مما أريد أن أقوله عن فلسطين. لهذا السبب داومت بالعمل، وقمت بالتركيز على فترة ما قبل النكبة، وخاصة ثورة فلسطين الكبرى 1936-1939، وركزت أيضاً على الفلسطينيين العظماء مثل الشهيد عز الدين القسام، ونوح إبراهيم، وإبراهيم طوقان، عزة دروزة، وأسمى طوبي، وزليخة الشهابي، خليل بيداس، خليل السكيكاني، وكتبت كتابي الثاني الذي أحاول فيه سرد قصص الشخصيات. وحينما كنت أتجول في قصصهم، كان يظهر وجه مختلف لي من كل زاوية. على سبيل المثال، عند وصف عزة دروزة، فهل يمكن البحث عنه بدون ذكر أكرم زعيتر؟ أم أن قصة زليخة الشهابي منفصلة عن عمها الخطاط الكبير عبد القادر الشهابي؟ وبهذا الشكل، تقاطع طريقي مع مئات الأشخاص. كنت سعيدة جدًا…

أريدكم أن تعلمون أنني لا أخبركم بكل هذا بدافع الغرور. فيجب أن أخبركم فقط بما قمت به حتى الآن  لتتمكنوا من فهم مشاعري بشكل أفضل. في تلك الأثناء، قمت بتعليق صور محمود درويش وغسان كنفاني وناجي العلي على جدران مكتبتي. وعندما دخلت الغرفة وقمت بتشغيل الضوء، قابلت عيونهم فجأة، بدا الأمر كما لو كانوا جالسين بالداخل ينتظرونني وسألوني، وكانوا يقولون “أين كنت؟”

كنت سعيدة، لكن بعد كل شيء جديد قرأته وقمت بكتابته، استمر قلبي في الإصابة بجروح عميقة. على سبيل المثال، عندما تلقى شقيق فدوى طوقان المحبوب، البالغ من العمر 36 عامًا، نبأ وفاة الشاعر الكبير إبراهيم طوقان… ما كانت تقوله فدوى العزيزة؛ “لقد حولت سجني إلى حديقة زهور يا إبراهيم”. وهذه إحدى الكلمات التي أثرت فيّ أكثر من غيرها طوال عمري. أو رسالة الوداع التي كتبها سميح القاسم بعد رشيد حسين … التي كان ينادي بها لصديقه العزيز “سأنتظرك لتنزل من القطار الأخير في المحطة …” وعندما أذهب إلى محطة القطار، يتبادر إلى ذهني هذا. تعرفون الشاب الفقير نوح ابراهيم من حيفا أليس كذلك؟ وماذا عن المنزل الذي حلم به خليل السكيكاني؟ اللحظات الأخيرة لغسان كنفاني في بيروت في 8 تموز / يوليو والشوكولاتة التي سلمها لابنته قبل وفاته… صوت أسمى طوبي الجميل يرتفع من إذاعة القدس. صباح الخير أيها القدس … الرحلات التي لا تنتهي لعزة دروزة… المقاومة الأسطورية للشهيد عز الدين القسام ضد الجنود البريطانيين… تلك الكلمة التي ألقاها خليل بيداس في حفل نبي موسى …

فقد كنت في قصة حزينة مليئة بالمئات من هذه الذكريات. كانت مليئة بالرجال والنساء والأطفال الذين علمونا الحياة. وكنت أتوقع أنه لا يوجد شيء يمكن أن يلوثها. يا له من ضلال، أليس كذلك؟ لأنكم هل تعرف ماذا حدث بعد ذلك؟ لقد خيبتم أملي بشكل فظيع، أيقظتموني من حلم لم أرغب في أن ينتهي. والأبشع من ذلك كله، أن هذه القصة لم يلوثها الآخرون بل قمتم بتلويثها أنتم، أي الإسلاموية الفلسطينية واليسار.

واسمحوا لي أن أشرح بوضوح وصراحة…

أين كنتم في آذار 2011 عندما كتب شباب في درعا بسوريا شعارات مناهضة للنظام على جدران بالقرب من مدرستهم؟ يجب أن يكون بعضكم في فلسطين، وبعضكم في دول عربية مجاورة أو أوروبا أو أمريكا. لكن لا بد أنكم شاهدتم الأشخاص الذين نزلوا إلى الشوارع يوم 15 مارس لمحاسبة هؤلاء الشباب الذين تعرضوا للتعذيب الشديد والذين نظموا الاحتجاجات التي دخلت التاريخ باسم “جمعة الغضب” وأشعلوا نار الثورة…

لا أعلم ما إذا كنتم قد فكرتم في الأمر أيضًا، لكنني كنت أفكر في هؤلاء الشباب الذين كتبوا على الجدار لسنوات. لطالما كان هذا السؤال في ذهني؛ هل يمكن لهؤلاء الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و16 عامًا فقط، أن يتنبأوا بأن أفعالهم ستسبب زلزالًا كبيرًا ليس فقط في سوريا ولكن أيضًا في حياتنا جميعًا؟ هل اعتقدوا يومًا ما أنهم سيقسمون ليس فقط حياتهم، بل حياتنا أيضًا؟ أنا لا أعتقد ذلك.

ولكن بعد تلك الكلمات القليلة التي قاموا بكتابتها على الجدار بغضب، أصبحنا ناس مختلفين تمامًا. فقد دمرت صرخة دمشق وحلب وإدلب ودرعا وغيرها من المدن عالمنا. ماذا سيكون معنى ما قرأناه وتعلمناه حتى الآن لو تصرفنا وكأن شيئًا لم يكن عندما قُتلوا بشكل مأساوي أو عُذبوا في السجون أو تناثروا مثل حبات المسبحة. لهذا السبب أصبحت سوريا امتحاناً كبيرًا لنا. وتركت مواجهة كبيرة بشكل محاذٍ. لأنه بعد ذلك بدأنا نرى الوجه الحقيقي للجميع. كان الأمر كما لو أن الحياة التي عشناها حتى ذلك الوقت كانت كذبة كبيرة. كان الأمر كما لو كنا نعيش في بالون تنكري وفجأة تم الكشف عن الجميع. لقد صفعتنا سوريا بالشر العظيم ونفاق بعض الناس.

وأثناء ذلك عانيت من أشد صدمة في حياتي. لأنني عندما تحدثت عن الأدب الفلسطيني، كان بعض الناس الذين استمعوا إليّ باهتمام قد غيّروا مواقفهم عندما كان يتعلق الأمر بسوريا. فقد استقر تعبير مريب على وجوههم. يمكننا التحدث بحرية عن فلسطين، لكن عندما تحدثنا عن سوريا، قوبلنا بالتلميحات والمظهر السيئ والاتهامات. نصحونا كما لو كنا أغبياء أو لا نعرف شيئًا. وكانوا يقولون “فلسطين مختلفة، وسوريا وضع مختلف تمامًا”. عندما سمعت هذه الكلمة لأول مرة، بدا الأمر وكأن سكينًا عالق في قلبي. لقد ميزوا بين الأطفال المقتولين، والأشخاص الذين تم قصفهم بالقنابل، والنساء الذين تم اغتصابهم. كانوا يفعلون هذا حقاً. وكانت هذه الضربة أكثر دموية لإيماني واعتقادي بالإنسانية.

***

الآن أريد أن أسألك.

ما الفرق بين هؤلاء الشباب الذين كتبوا على الحائط في درعا ومن كتبوا على الجدران في فلسطين؟ كيف يختلف هؤلاء الآباء السوريون الذين يندبون على أطفالهم عن أولئك في فلسطين؟ ما الفرق بين الشعب السوري والشعب الفلسطيني الذي قصف بالقنابل؟

أحد أصدقائنا ، الذي يذهب إلى غزة كثيرًا ، رسم أطفالًا فلسطينيين في غزة. لاحقًا ، عرض هذه اللوحات في اسطنبول تحت عنوان “الحرب في عيون طفل”. هل تعرف ماذا كان في معظم هذه الصور؟ أطفال قُتلوا وشوهوا بسبب الطائرات والقنابل الإسرائيلية … في وقت لاحق، عندما كان لدينا أطفال سوريون يرسمون الصور، رأينا أنهم رسموا نفس الأشياء. كما رسموا أطفالاً قتلوا أو شوهوا بقنابل نظام البعث والدول المتعاونة معه.

لذلك كان أطفالك وأطفالك السوريون يرسمون نفس الصور. فلماذا لم يرفع سوى عدد قليل منكم أصواتهم حول هذا الموضوع ، رضي الله عن هؤلاء الأشخاص الفاضلين الذين أتشرف بمعرفتهم؟ لماذا بقي الباقون صامتين، أو الأسوأ من ذلك، دعمتم علنًا النظام القاتل في سوريا؟

قال المفكر الروسي ألكسندر هيرزن، الذي عاش في القرن التاسع عشر ، في رسالة كتبها إلى صديق أثناء وجوده في المنفى؛ “كل ما رأيته حولي كان يتخلله برودة شديدة. أدب ميت، مسرح ميت، سياسة ميتة، برلمان ميت “لماذا رأينا مثل هذا البرودة الميتة على العديد من الإسلاميين واليساريين الفلسطينيين؟

لماذا لم تأتي قبل من يقولون “فلسطين مختلفة” ويقولون “فلسطين ليست مختلفة”؟ لماذا طعنت قلبنا بسكين؟ لكن الأهم من ذلك كله، ألا يناسبك، من تعيش في سجن مفتوح منذ ما يقرب من 80 عامًا، أن تعارض الاضطهاد؟

***

منذ أن طعننا ذلك السكين في قلوبنا، كنت أتساءل لماذا فعلتم هذا.

هناك مقولة شهيرة لثيودور أدورنو يقول فيها “لا يمكن كتابة الشعر بعد أوشفيتز”. أنا متأكدة من أنكم تعلمون جميعًا لأي غرض تم نطق هذه العبارة. أم أنكم علقتم هذه الكلمة على حائطكم بالتظاهر بأنكم تشبهون عدوكم؟ تمامًا مثل الصهاينة، هل تعتقدون أنه لم يحدث شيء سيء لأحد غير شعبكم، وأنكم الوحيدين الذين عانوا أسوأ الظلم والمآسي؟

ربما يريد بعضكم حقًا إقناع نفسه بأي مزاج وروح لديه الآن. يريد البعض منكم الاستمرار في هذه الكذبة حتى لا يخسر الدخل والمكان الذي اكتسبه من ذلك. لأنه بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، تصبح معاناة شعوبهم منطقة تجارية تقريبًا بمرور الوقت. وتمامًا مثل التاجر الذي يفتح متجره ويتابع عمليات الشراء المربحة. ويجادل بأن السبب الحقيقي الوحيد هو السبب الخاص به، كي لا ينقطع عمله. لهذا السبب لا يريد أن يسمع أصوات الآخرين المظلومين.

لكن وعلى سبيل المثال غسان كنفاني لم يفعل ذلك. ألم يتعرف الشعب الفلسطيني على معاناة الشعب الجزائري والثورة الجزائرية من كتاباته؟ هل قال غسان كنفاني ولو لمرة واحدة: المقاومة الجزائرية لا تهم، فالشيء الحقيقي الوحيد هو المقاومة الفلسطينية.

لن أكتب اسمه هنا الآن، لكنني لن أنسى أبدًا التعبير المتعالي والساخر على وجه ذلك الرجل عندما سأل ذات مرة أحد النشطاء الفلسطينيين المشهورين عن سوريا. هنا، في الأسواق الكبيرة في اسطنبول، هناك بعض التجار. أثناء التحدث إليك، عندما تخبره أنك رأيت مسبحة أفضل وأرخص في متجر آخر، فسوف ينظر إليك بذات الطريقة.

لماذا فتحت متجراً في هذا السوق؟ ألا يمكن أن يكون هناك ظلم في أي مكان آخر غير فلسطين؟ هل نضالكم هو النضال الوحيد من أجل الحرية في العالم؟ ألن نتحدث عن أي شيء غير المجازر وانتهاكات حقوق الإنسان في القدس أو غزة أو رام الله؟ ألا نتحدث عن دمشق أو الغوطة أو حلب أو إدلب؟ هل من السيء أن تفعل إسرائيل شيئًا، ولكن شيء جيد عندما يفعله النظام السوري؟ وفي هذا الصدد, هل لكم أن تخبرونني كيف تختلفون عن الصهاينة؟

***

هل تعلمون، إنني أحب أمير شكيب أرسلان. أعتقد أن حياته يجب أن تُقرأ في الكتب المدرسية في جميع المدارس في الشرق. لأنه إضافة إلى خلفيته الفكرية العظيمة، أظهر لنا ما هي كرامته بموقفه الصلب تجاه الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان والاحتلال البريطاني لفلسطين. كيف يكون الرجل ذو شرف؟ أعطى الجواب على هذا السؤال. ولديه مقولة أحبها كثيرًا. يقول “من لا يستطيع الدفاع عن صحاري طرابلس لا يستطيع الدفاع عن حدائق دمشق”.

هل يمكن أن يتم وصف الكرامة المشتركة والمعاناة المشتركة بشكل أفضل من هذا؟

ومع ذلك، فأنتم تتحدثون من “هذه المسافة” أنه إذا لم نكن نعرف أين سوريا وأين فلسطين، فإننا نعتقد أن هناك آلاف الكيلومترات بينهما. لماذا تضعون فلسطين بعيداً عن سوريا؟ لماذا لا تعتبرون معاناة الشعب السوري معاناتكم المشتركة؟ لا أفهم لماذا تعزلون أنفسكم كثيرًا عن المنطقة التي أنتم جزء منها. هل أنتم قادمون من تاريخ مختلف؟

ألا تتذكرون أن طريق كل الشخصيات المهمة في القضية الفلسطينية مر عبر سوريا ودعم وصداقة الثوار السوريين في أوقاتكم الصعبة؟ كان أحد الأشخاص 2-3 الذين قابلتهم أثناء عملي في فلسطين إما من أصل سوري أو مختبئ في سوريا أو كان له علاقة أخرى بسوريا. قصص هؤلاء الناس أثرت فيّ كثيرا.

ألم يكتب لكم نزار قباني الكثير من القصائد؟

ألم يأتِ الشهيد عز الدين القسام من سوريا ويضحي بحياته من أجلكم؟ كلما سمعت اسمه أتحمس، وتمتلئ عيناي بالدموع من عظمة شخصيته. أعتقد أنه أحد أشرف الرجال الذين شهدهم العالم على الإطلاق.

كيف كان الشهيد عزالدين القسام الذي قام بالإضافة إلى خطبه في مسجد الاستقلال في حيفا بزيارة المدن والقرى، وقام بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني ودعاهم للمقاومة، ثم اقتلاع الغزاة البريطانيين بوحدات المتطوعين؟ لو كان حياً اليوم فكيف كان سيتصرف ضد نظام قصف المساجد؟ ما رأيكم؟ هل سيؤيد نظامًا طائفيًا نصيريًا كان يحاول تحويل العلويين إلى أقلية قاتلة؟

وماذا عنكم، بينما تسمى قواتكم على اسم عز الدين القسام، أما أنتم لا تخجلون من مصافحة هذا النظام القاتل؟ أنتم تقولون إنكم مسلمون، بل لقد ظهرتم كفرع لحركة الإخوان المسلمين. هل نسيتم مجزرة حماة؟ ألا تخشون أن يسألنا الله عن ذنب هؤلاء الأربعين ألفاً؟ ألا تعلمون قول سيدنا عمر: “إذا غطى ذئب على حافة دجلة شاة، عدّل الله يسألني عن ذلك”؟ ألم تسمعون قول سيدنا علي: “الظلم ألف مرة أفضل من أن تكون ظالماً مرة واحدة”؟

إن واحدة من أكثر حالات المثالية مأساوية؛ إنها اللحظة التي ننسى فيها ما نؤمن به والمثل العليا التي نبدأ بها، ونبدأ في التفكير أنه إذا جلسنا على الطاولة، سنكون أكثر رضا. الآن قمنا بالبدء في التفكير في الخيارات. لم يبدأ أي شيء لا فائدة له في النهاية في إثارة حماستنا. كل المثل النبيلة، واحدة تلو الأخرى، أخذت منا معاطفها. لقد أصبحنا نهتم اكثر بمسيرتنا السياسية وبناء علاقات من شأنها أن تقوي أنفسنا، بدلاً من قضية شعبنا. نتيجة لذلك، ندخل في شبكة علاقات “الرهينة”. لقد رهنا شخصياتنا وإيماننا وأرواحنا. مثلاً، هناك الكثير من هؤلاء الأشخاص في تركيا. وهناك كلمة تركية، بالتأكيد هناك كلمات متشابهة في اللغة العربية. نقول؛ من يعطيك خبزاً تقاتل بسيفه في الحرب.

تعلمون، في الأصل، كل قصة تستمد قوتها الحقيقية من التناقضات التي تحتويها. حتى قطرة الشر التي تقع في وسط قصة نقية تكون قوية أحياناً بما يكفي لتحديد مسار القصة. لكن أحياناَ يحدث العكس وهذا الشر ينتهي به.

أقوم بالتساؤل لماذا يجلس اليساريون والإسلاميون الفلسطينيون سويًا على طاولة نظام البعث بينما يبتعدون عن بعضهم البعض حتى في المخيمات ويختلفون في الكثير من القضايا. بأي علاقات “رهينة” انتهت كل خلافاتكم الفكرية العنيدة عندما يتعلق الأمر بسوريا؟

قرأت شيئًا أثار إعجابي كثيرًا منذ سنوات أيضاً عن أنطونيو غرامشي. كما تعلمون، لقد أمضى سنوات عديدة في السجن. كان الكثير من الناس يخرجون من السجن، لكنهم لم يطلقوا سراحه. في أحد الأيام، ذهب إلى مدير السجن الذي يقيم فيه ويسأل لماذا لم تنته عقوبته بعد. رد عليه مأمور السجن الإيطالي ضاحكًا: سيد غرامشي، لا يمكنني فعل شيء. إذا كنت لا تزال هنا، فهذا يعني أن لديك زملاء عمل لا يريدونك بالخارج.

أم هل لديكم أصدقاء سوريون لا تريدون أيضًا أن يكونوا أحرارًا؟ هل تريدونهم أن يظلوا في الظلام حتى لا يعترضوا طريقكم بينما تقومون بتقوية أوضاعكم؟ هل لهذا السبب تنسون التاريخ المشترك والألم بينكم؟

***

أداوم على السؤال لأنني أحاول أن أفهمكم. لماذا تختبئون خلف ذريعة أن النظام السوري معادي لإسرائيل لإخفاء شبكة الرهائن الخاصة بكم؟

إذن من باع مرتفعات الجولان ذات الأهمية الحيوية لإسرائيل عام 1967 مقابل 100 مليون دولار؟ والد من وعمه أجرى هذا الشراء؟

عندما دخل جنود حافظ الأسد مخيم تل الزعتر في 12 أغسطس 1976، بعد حصار دام 52 يومًا، قاموا بقتل الآلاف من الفلسطينيين، بما في ذلك العديد من النساء والأطفال، واغتصبوا النساء أمام أطفالهم، وحتى ألقوا 3-5 قروش من النقود التي خبأها المسنون في أغنامهم على صدورهم، وقد سرقوها. وماذا عنكم أيها اليساريون الفلسطينيين هل نسيتم رفاقكم الذين ذبحهم جنود البعث في تل الزعتر؟ هل فكرتم يومًا في آلاف الفلسطينيين الذين قُتلوا بوحشية بعد ذلك الحصار الذي دام 52 يومًا؟ ألم تقرؤوا قصيدة محمود درويش؟ هل هذا هو حزب البعث المعادي لإسرائيل؟

أليس هو حافظ الأسد الذي قام بإنهاء وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان ومهد بذلك الطريق أمام تحقيق مجزرة صبرا وشاتيلا؟

وماذا عن الفلسطينيين الذين اختفوا في السجون السورية؟

أم مخيم اليرموك للاجئين؟

هل لديكم ما تخبرونا به عن مئات الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال، الذين ذبحوا في اليرموك عام 2013؟ هل نسيتم أنه في هذا العصر، في العاصمة السورية، بينما يتغذى حكام حزب البعث على الطعام، وبينما ترتدي زوجاتهم أفخم الملابس ويدخلون أغلى السيارات، كان الفلسطينيون يتضورون جوعاً حتى الموت؟

لماذا لم تخبروا صديقك أحمد جبريل الذي كان يحوم فوق مخيم اليرموك مثل نسر متعطش للدماء وقاتل لشعبه والشعب السوري؟ شعبنا بريء ومكرم ترك بيوته بتعليق مفاتيحه حول أعناقه عام 1948. رجال أهلنا شرفاء ونسائهم مقاتلات وأطفالهم شجعان. شعبنا لا يبيع شرفه بالمال. وماذا تفعل لمثل هذا الشر في المقابل؟

يمكننا أن نرى في سوريا أن هناك نظامًا يبدو معاديًا لإسرائيل، ولكنه في الأصل مشروع إسرائيلي، وبالتالي يقف إلى جانب إسرائيل في كل لحظة حرجة بالنسبة للفلسطينيين. لماذا لا تعترفون بذلك؟

***

هناك صورة لن تغادر ذهني أبدًا. ذات يوم، في أحد الأحياء الفقيرة في اسطنبول، كنت أزور عائلات سورية مع أصدقائي. كان هناك رجل في الستينيات من عمره في حي فقير قديم. كان يتمسك بالقضبان وينظر من النافذة. عندما رآنا، لوح ودعانا إلى الداخل. عندما دخلنا، رأينا أن هذا الرجل ليس له أرجل. كان يجلس على كرسي عالٍ قديم حتى يتمكن من النظر من النافذة. بُترت أرجله بالكامل بسبب إلقاء القنابل عليه. احتضنته زوجته كالطفل، وحملته عبر النافذة، وجعلته يجلس إلى جوارنا. كان الجلوس بجانبه من أكثر اللحظات المحرجة والحزينة في حياتي.

إذا أتيت إلى اسطنبول، يمكننا أن نأخذك إلى هذا الرجل. أنا متأكد من أنه سيكون سعيدًا جدًا برؤيتنا لأنه أخبرني أنه يفتقد الدردشة مع الناس وسيطلب على الفور من زوجته إعداد القهوة بالهيل، كما يفعل دائمًا. سنشرب القهوة ونتحدث. هل ستتمكن من شرب القهوة التي قدمها لنا؟ هل ستدخل تلك القهوة إلى حلقك؟

جون بيرغر لديه جملة أحبها كثيرًا. يقول “الجمال, هو الشيء الذي يوجد دائمًا على الرغم من أي شيء. وهذا هو السبب في أنه يؤثر فينا”.

الزهرة تتفتح رغم الجو العاصف، والحب يولد رغم المستحيلات، والخير يظهر رغم الشر، والحقيقة تظهر رغم الكذب …

ربما يكون هذا أحد أكبر أسباب تأثير سوريا علينا كثيرًا. سوريا الجميلة التي تحاول دائمًا البقاء على الرغم من كل شيء.

دائمًا ما تتعرض للخيانة، وتجبر دائمًا على محاربة الظلم والنفاق، والتي دائمًا تُترك وحدها، ويحزن قلبها دائمًا، ويتم شرحها دائمًا بشكل خاطئ، ودائمًا يُراد منعها، وتتعرض دائمًا للافتراءات المتنوعة…

سوريا هي دولة أصدقائنا الأقوياء الذين ظلوا موجودين على الرغم من أي شيء.

وفلسطين هي دولتنا الجميلة التي سنظل نحبها ونؤمن بها رغماً عنكم. فلسطينكم تختلف عن فلسطيننا. وفلسطيننا لها مكان في قلوبنا لن يترك لكم.

*كاتبة وناشرة تركية

خاص بموقع رابطة الكتاب السوريين