الفنان التشكيلي عبدالحميد فياض: الفن رسالة محبة وجمال وثورة على الظلم والاستبداد

0

حاوره عبدالرحمن مطر ، كاتب روائي، من أسرة تحرير “أوراق”

أوراق 19-20

تشكيل

يُعدّ الفنان عبدالحميد الفيّاض، واحداً من المثقفين المبدعين السوريين المتميزين من حيث، الاشتغال على قضايا فكرية، وفلسفية، تتصل بالوجود الإنساني، وبالقيم الإنسانية، المرتبطة بحياة الناس، و بمصائرهم، في ظل التحديات الكبرى التي يواجهها العالم، وسوريا جزء بالغ الاضطراب، في هذا الكون.

تعود تجربته التشكيلية الى منتصف سبعينيات القرن الماضي، وسرعان ما تبلورت، وفرضت وجودها على الساحة الثقافية السورية، منذ تخرجه من كلية الفنون الجميلة عام 1983، بدرجة امتياز، بشكل لافت في اختيار موضوعاته الرئيسة لمشروع التخرج الذي تفرد فيه مبكراً – في تلك الفترة – بتناول قضايا القهر والحروب والمغيبين والمعتقلين، وادوات التعذيب، التي تستخدم. وقد حمل مشروعه عنوان “وما يزال القتل مستمراً “، وقد عني المشروع حينها بالفترة التاريخية التي تبدأ مع تأسيس اول دولة في التاريخ: السومرية، وحتى العام 1983.

وفي الحقيقة هو عنوان وقضية لافتين، خاصة عند الإحالة الى فترة منتصف الثمانيات، بأحداثها الجسام، من الحرب الإيرانية – العراقية – الى غزواسرائيل للبنان، مروراً بأحداث سوريا في تلك السنوات المريرة، ومجزرة حماة. كما أنه يوثق فنياً لحالة تاريخية ما تزال قائمة حتى اليوم، خاصة في سوريا: القتل ما يزال مستمراً.

كما واصل في الثمنانينات تطوير تجربته الفنية، دون أن تتخلى بعض اعماله عن نقد الأوضاع المأزومة بفعل أنظمة الحكم. أذكر جيداً لوحاتٍ له من مشروع التخرج، يظهر فيها الدولاب بوضوح، كما الضحايا. وكذلك أعمالاً أخرى لنماذج من الديكتاتوريات العسكرية، التي تجمع بين قبعة العسكري، والسكين المدمي، والمدن الشهيدة.

لم أشأ لهذا الحوار أن يكون تقليدياً، ولا أن يكون معنياً بإبراز السيرة الذاتية لفنان تفرض تجربته الإبداعية نفسها على المشهد التشكيلي، بتفرد، خاصة في المرحلة الأخيرة التي يقول عنها الفيّاض، بأنها ذات “رؤية جديدة، وحالة جديدة، وبأسلوب مغاير لما قدمته في كل سنيني السابقة”.

الى الحوار:

1- أعمالك الفنية، خلال السنوات العشر الأخيرة، مرتبطة بالهمّ الإنساني على نحو، يقارب الألم والفجيعة والخراب الذي يُلّم بنا: نتاجٌ دافق متميز، وألوان حادة، الى درجة الصخب.

– ما الذي تتطلع إليه عبر عملك الفني، اليوم؟

– وهل يمكننا الحديث، عن دور الفنان في المجتمع، خاصة في ظل الظروف السائدة؟ وماذا يمكن للفنان ان يقدّم، في ظل التهميش والاستبعاد، وشبه القطيعة الاجتماعية والسياسة مع الحراك الثقافي بصورة عامة؟

– عبر مراحل التاريخ المختلفة، بحلوها ومرها، كان للفنان عموما وللتشكيلي خصوصا دورا ما، يختلف باختلاف موقفه واصطفافه ورؤيته الخاصة من أحداث بلده أولا، وأحداث العالم عموما.

من يدرك جيداً، أن الفن رسالة خير ومحبة وجمال في زمن الرخاء، وغضب وتحدٍ وثورة على الظلم والعسف والقتل ووأد الحريات، في أزمنة الحروب والاحتلالات، وحكم الدكتاتوريات، فقد حقق معادلة الفنان الإنسان الرائد في مجتمعه. ومن لم يفهم أو أنه لا يريد أن يفهم دور الفن في الحياة والمجتمع، فليس سوى فنان قصرٍ أو بلاط، كما في الشعر والمسرح والغناء.. ومنهم كثر. لكن كثرتهم لم تصنع يوما فناً للبقاء.

نحن لا نرسم ونوثق مآسينا، كي تحفظ في الأرشيف. ولا نرسم لإرضاء جهة بعينها، أو قوى محددة مهما تغولت وبطشت. وهي أيضا لا تريد أن تسمع أو ترى ماننتجه. هناك جمهور يرى ويسمع، يحب ويكره. وهناك الضمير الذي يصرخ، وهناك سجلّات للتاريخ يجب أن نكتب ونرسم على صفحاتها ما يتوجب علينا، كي تكون مخطوطاتنا وأعمالنا شاهدة على عصرنا، وآلامه وأحلامه وغدره وخياناته.. وانتصاراته إن وجدت!

إنها الرسالة التي يتوجب علينا أن نحملها بصدق وإيمان وقوة، وإلا فإن لعنة التاريخ سوف تحلّ بنا.

2- في تجربتك الإبداعية، محطات مهمة. في العودة الى البدايات، اتسمت أعمالك بقدرة خاصة في تطويع اللون، وفي استخداماته، بجرأة الطرح، وفي وضوح الفكرة، على الرغم من اسلوبك التجريدي. كيف تنظر الى تجربتك اليوم؟ وما هو موقعها في حركة التشكيل العربي؟

  – منذ البدء كانت اللوحة عندي همّ..!

لم تكن يوما للتسلية ولا للاستعراض التقني ولا لمجرد الجمال.. أكثر من خمسين عاما وأنا أرسم هموم شعب ووطن منكوب، منذ تكوينه الى آخر الزمان. قليل ما أعتني بطرح الأمل. فانا لا أؤمن بأن هذا الوطن، سيكون له خلاص مطلق يوماً. خلاصهُ مؤقتٌ، وسلامه مؤقتٌ، وأفراحه مؤقتة، كما حلمه وحزنه.

إنه قائمٌ ومركبٌ على معتقداتٍ وأساطير، وقوى لا تسمح لحالة فيه بالثبات.. ونحن نقوم بما يرضي ضميرنا وحلمنا المؤقت. ونرسم للتوعية والتحريض، وكشف المستور من خبايا سلطات وأنظمة وقوى ظالمة غاشمة، تحالفت كلها لقتل أحلامنا الصغيرة في الحرية والحياة الكريمة، دون مغالاة.

الزمن يتغير.. وأساليب الإنتاج تتغير، والموضوعات أيضا تتغير. ولكل زمنٍ خصوصية التعبير وشكله، ولكن الانسان هو الانسان، بخيره وشرّه، وضعفه وقوته وهمه وفرحه. والتاريخ في كل مرحلة، يعيد نفسه.

ومازال القتل مستمراً، ومايزال الفنان الإنسان يحتقر القاتل، ويساند قضية المقتول/ الضحية. وسنظل كذلك، الى أن يتوقف القتل ويسود السلام. ولن يسود إلا بعد أن تحط الارض أوزارها..!

لم أفكر يوما ماهو موقعي في التشكيل العربي، ولا أعرف.. كل ما أعرفه أنني أرسم في سوريا، وأعرض في أي مكان يُتاح لي على الأرض. وأعرف الكثيرين من فناني العالم، وكثر يعرفونني جيداً، وهذا بالنسبة لي إنجاز كبير، ومهم.

3- تفرّدتَ خلال الفترة الماضية بإنجاز عدة أعمال فنية تتصل بالرقة مثل: مدن الله المنسية- الرقة.. هل يمكننا الحديث عن تأثير ما للبيئة الفراتية الرّقية، في أعمالك، وفي تجربتك بصورة عامة؟

–  الأعمال التي قدمتُها خلال عام 2022، تتسم برؤية جديدة – كما اعتقد – وحالة جديدة، وبأسلوب مغاير لما قدمته في كل  سنيني السابقة.

كانت حالة من الوجد والشوق والحنين والخوف والغضب، كلها مجتمعة في داخلي. يعجز التعبير والتشخيص، عن جمعها في لوحة واحدة. كما أنني شعرت بالاكتفاء من توثيق الحرب السورية، منذ يومها الاول الى بداية 2022.. فسافرت الى كردستان العراق، وكانت تشبه جزيرتنا ورقتنا، كما أن أهلها وكل مافيها يشبهنا.. فتفتحت الجروح الخاصة، وعادت الذاكرة لمدينتي المغدورة: الرقة.

أردت أن أكرس لها ولمن يشبهها من المدن المنسية، بعضا من لوحاتٍ لاتشبه غيرها، ولا يشبهها لوحات لأحدٍ ما.. كي أقول أن الله خلق مدناً للخير والحب والسلام .. ثم نسيها !

لوحاتٌ يتكئ فيها التجريد على الرومانسية، ويكون اللون فيها، هو جزءٌ من الموضوع كما التقنية. “مدن الله المنسية” هي آخر اعمالي التي أحبها جداً.. وقد أحبّها كل من شاهدها، وستستمر…!

4- أنت أحد مؤسسي تجمع فناني الرقة، ومن منظور تجربتك كأحد التشكيليين المميزين عربياً، كيف تقيّم تجربة التجمع، وما آلت إليه، بعد سنوات طويلة، هذا من جانب.

من جانب آخر، هل ترى أن ثمة تأثير للفنون التشكيلية، على الحياة الثقافية في الرقة، خاصة منذ الثمانينات؟

– في بداية السبعينات من القرن العشرين، بدأت التجمعات الفنية في الظهور في المشهد التشكيلي السوري، في دمشق تحديداً. وكنّا في الرقة، مجموعة أصدقاء مكونة من 13 فناناً، في بداية تجربتنا الفنية، وضمن مدينتنا. فقررنا تشكيل تجمع يحتوينا، لننطلق إلى عالم أوسع، وأن نُعرّف بأنفسنا في كل سوريا. وقد حققنا بالفعل، ركيزة التجمع، بإقامة أول معرض لنا عام 1975، جال – في حينها – أغلب محافظات القطر السوري، وأولها دمشق.. وكان حدثاً هاماً تناولته جميع وسائل الاعلام، والنقاد، والرأي العام السوري. ولعل ذلك ساهم في أنه أصبح حدثاً ثقافياً سنوياً، ينطلق من الرقة، ويتجول عبر أنحاء سوريا كاملة. وعرف من خلاله أسماء الفنانين المشاركين في معارض التجمع على نطاق واسع، خاصة في الأوساط الثقافية والإعلامية، والاكاديمية المعنية بالفنون على نحو خاص.

لاحقاً، أربعة من أعضاء التجمع، انتسبوا إلى كلية الفنون الجميلة، وتخرجوا منها بامتياز، أنا وأحمد معلا، وعلاء الأحمد، وفهد الحسن، أصغرنا سناً، فيما واصل الآخرون تجاربهم الفنية، في ظل التزامهم بالمهن المختلفة التي كانوا يعملون فيها.  

جميعنا أسسنا فرع نقابة الفنون بالرقة عام 1983، مع من رفدنا من خريجين آخرين وفنانين جدد أضيفوا للتجمع.

لكن، وبعد خمسة عشر عاماً بدأ التجمع بالتلاشي.  فقد هاجر من هاجر، وترك المدينة من ترك، واعتكف من اعتكف.. وتوفى من توفى. وانعدم الاهتمام والدعم، وبرز لنا عداء المسؤولين لكل تجمع إنساني، ثقافي، وفكري، إلى العلن .. فاضطررنا للتوقف، كما توقف كل عمل جميل، وخيّر ومبدع في بلدنا .. وظل بعضنا المتبقي، يعمل منفرداً – وبإخلاص – فكرّمه العالم الواسع، بدلاً من وطنٍ ضيّق حتى الاختناق.

اليوم، لا يمكننا أن نتحدث، أو نتناول الحركة التشكيلية السورية المعاصرة، دون أن نتطرق في العمق، إلى التجارب المهمة لعدد من الفنانين المؤسسين لتجمع فناني الرقة.

5- الفنون الجمالية، في مواجهة الحرب، الدمار والخراب، كيف يمكننا إعادة بناء الإنسان المهدور، عبر مساهمة الفن ؟

– لم تكن كل أنواع الفنون تاريخياً، سوى مرآة للواقع، أو تحريضاً على مكامن الخلل فيه، أو الثورة على الظلم والقهر والقتل.

لم يعرف التاريخ مثالاً لفنٍ ساند القتلة، إلا ما ندر واندثر. الفن الخالد، هو رسالة إنسانية للحب والجمال والسلام، وهو ليس مقرراً سياسياً واقتصادياً، وليس من مجموعة الخمس في مجلس الأمن المعادية لتطلعات المجتمعات الانسانية، نحو الحرية والسلام.

إنه رسالة نبوية، من يريد أن يؤمن بها، عليه أن يناضل لكي يحقق حلمه. ومن يكفر بها، فعليه أن يتحمل عواقب فعلته.

ليست مهمة الفن أن يبني الانسان .. لكن مهمته تكمن في تحريض الإنسان على كيفية بناء نفسه.

 -6الحرية شرط أساسي للإبداع، كيف استطعت خلق الظروف الملائمة لنتاجك الإبداعي، تأسيساً على أعمالك في الحفر والغرافيك، مطلع الثمانينات: مثال لوحة الدولاب، الديكتاتور، وغير ذلك؟

– الحرية عامل مهم، ومساعد على الإبداع، ولكنها ليست شرطاً له، وإلا كيف أبدع المفكرون، والفنانون، في أرجاء العالم، على الرغم من وجود بعضهم، في دول تحكمها الدكتاتوريات، أو في ظل مستعمر، أو انظمة شمولية قمعية، أوقومية عفنة؟

ألم ينتج التاريخ الإنساني عباقرة، ومبدعين من كل التخصصات، ومازالوا الأهم، في دول قمعية وفاشية.

منذ أن تشكل مفهوم الدولة والحكم والحاكم، أي منذ ستة آلاف عام الى الآن .. أي حكم أو دولة عبر هذا التاريخ كان شعبها ينعم بالحرية؟ الحرية مفهوم يتناقض مع الحكم، ونحن نفهم ذلك جيداً، لذلك نرسم من خلال فهمنا بأن كل حكم قمعي وغبي، ونحن علينا خلق الظروف التي تمكننا من ممارسة حريتنا، رغماً عن التضييق، ودون خوف، وبذكاء لا يملكونه. ندينهم ونحرّض عليهم، ونحتقرهم، ونعرّيهم، باستخدام الرمز واللون، وقصص التاريخ، وإسقاطها على الواقع أحيانا.. وكلمة في العنوان.. ولا يفهمون.

الفن – والتشكيلي منه – ليس بيان رقم واحد،  كما في الثورات والانقلابات.

لكنه يشبه لدغة العقرب لمن ينام في العراء.. وعلى المصاب أن يحذر ويتعلم، ويتعظ..

عنوانه احذروا الموت في العراء.. فقد لا تجدون منقذا.