لم يكن لدي أدنى شك في مسحة الحزن التي يحملها صوت ذلك المغني ونغماته الحزينة التي تتردد صداها عبر أزقة مدينة ديار بكر، ليصل إلى أبعد مما يتصور، حتى من دون أن أفهم كلمة كردية واحدة.
كان هذا في مدينة ديار بكر (آمد) التي يعدها الأكراد عاصمةً لكردستان تركيا، وتطل على نهر دجلة ذي الخرير الصاخب جنوبي شرق تركيا.
كانت زيارتي للمدينة خلال الصيف، حين كانت درجات الحرارة خانقة، ولون الطبيعة مائلاً إلى الأصفر المحروق في الريف، فيما الحرارة التي كانت تنبعث من الجدران السوداء البازلتية تزيد من حرارة المكان.
مدينة صاخبة
في البداية، تتخيل أن المدينة خالية من سكانها في منتصف النهار، حين تكون درجات الحرارة مرتفعة، ولكن مع زوال الشمس بدأ الأطفال بالخروج من منازلهم للعب كرة القدم في الأزقة والشوارع المتعرجة.
أما النساء، فيتدثرن بوشاح رأس أبيض ويسرن وخلفهن عربات تسوقهن التي يُخيل إليك أنها قوس قزح بفعل ألوان الخضروات والفواكه ومنتجات السوق الطازجة.
سرتُ عبر متاهة شوارع ديار بكر الضيقة القديمة والمتعرجة، اكشفت من خلالها ملامح الحياة اليومية عبر القناطر التي اخترقت المنازل المبنية من القرميد الأسود والمفتوحة على الردهات، فيما تعلو صرخات الباعة المتجولين ونباح الكلاب الضالة وأبواق السيارات.
كل هذه المظاهر انسجمت تماما مع مشهد المدينة المشمس وشوارعها المظللة بأشجار التين والتوت. ورغم كل ذلك، كان صوت المغني الحزين هو الوحيد الذي يكسر كل تلك الأصوات، كان الصوت يحكي قصة الحب والحرمان والأمل واليأس والتاريخ.
وأخيراً، وصلت إلى بيت المغنيين من خلال ممر ينتهي بساحة الفناء المبلطة، والتي تم تجديدها قبل عقود.
كان البيت عبارة عن مسرح في الهواء الطلق، فيه أكشاك ومعارض ومسارح تروي الكثير.
استمع إلى نموذج الغنية الملحمية الكردية
خلفية
في هذا المكان – بيت المغنيين- كان الصوت الحزين هو الطاغي، وصداه يتردد عبرالمدينة التي لم تنعم بالاستقرار منذ عقود .
كانت ديار بكر عاصمة كردستان التي تم تقسيمها بين سوريا والعراق وتركيا وإيران في اتفاقية بريطانية- فرنسية سرية في عام 1916 عرفت باتفاقية سايكس-بيكو.
استطاع الأكراد البالغ عددهم بين 25-35 مليون الحفاظ على عاداتهم ولغتهم وتقاليدهم وثقافتهم وتاريخهم المشترك رغم عدم وجودهم ضمن حدود دولة موحدة.
لجأ الأكراد إلى العمل السياسي والعسكري للحفاظ على لغتهم وثقافتهم وأدبهم في ظل سياسات الصهر والقمع اللتين مورستا بحقهم من قبل الدولة التركية الحديثة منذ تأسيسها عام 1923.
ففي الوقت الذي ناضل فيه الأكراد من أجل دولتهم، كانت الحكومة التركية تعمل على توحيد دولتها الفتية.
ولم تلتئم حتى الآن الجراح التي تسببت بها الاشتباكات بين الحكومة التركية والمسلحين الأكراد عام 2016. فقد دُمر جزء كبير من ديار بكر القديمة، وترى حاليا عمال البناء يعملون باستمرار لإعادة بناء المدينة وتضميد جراحها.
“اللغة الكردية جريمة”
لعب هؤلاء المغنون دوراً هاماً في نقل قصص وتاريخ وروايات الشعب الكردي بما في ذلك الأساطير والملاحم القديمة عبر مختلف الأجيال.
وعلى الرغم من وجود المغنيات أيضاً، وهن أيضا كبيرات السن، إلا أن الغالبية كانت ولا تزال من الرجال.
واعتاد الأكراد عبر التاريخ، أن يجتمعوا في الليالي الطويلة لسماع أحد المغنيين يروي لهم القصص والملاحم وبطولات الأجداد، ويتميز هؤلاء بذاكرة وقادة قادرة على حفظ العديد من القصص التي تناقلها أجدادهم بنفس الطريقة من جيل إلى آخر كما لو كانت مكتبة تاريخية.
أما التحدث بالكردية فكان محظوراً تماماً في تركيا في فترة 1983-1991، حتى امتلاك شريط للموسيقى الكردية أو كتاب عن الأدب الكردي كان يعتبر جريمة كبيرة. إلا أن الأكراد ورغم ظروف القمع التي مروا بها، حافظوا على تقليد الأغنية الملحمية عبر الأجيال.
ويقول حنيف باريش الباحث والأكاديمي الذي قام بأبحاث عن هذا الموضوع: “أعتقد أن فن أو تقليد “الغناء الملحمي” نجا من القمع التركي لأن الغالبية الكردية عاشت في مناطق ريفية بعيدة عن أعين السلطات”.
كانت تقام تلك التجمعات في بيوت الضيافة، أو منزل أحد الوجهاء أو منزل “المغني” نفسه في ليالي الشتاء الطويلة، وكانت تسمى تلك الجلسات “السهرات”.
كانت تلك السهرات بمثابة “جلسة فنية ثقافية لتبادل القصص وبطولات الأجداد”.
بيت المغنيين
تنتشر بيوت المغنيين (بالكردية مالا دنغبيجان)، في أماكن متفرقة في المناطق الكردية.
توجهت إلى ساحة بيت المغنيين، كانت الكراسي متناثرة ومتوفرة للزوار، والعشرات من الرجال يجلسون في الجزء الخلفي من الفناء على شكل دائرة واسعة، تتشابه ملامحهم وأشكالهم، ولباسهم وحتى الانثناءات على أكمام قمصانهم فاتحة اللون.
في الصدارة كان يجلس رجل بشارب كث وقبعة مسطحة، يروي قصة نصفها محادثة والنصف الآخر غناءاً.
كان يتمايل يميناً وشمالاً وهو غارق في غنائه لعدة ساعات، وبين الفينة والأخرى يلقي نظرات على من حوله، ربما للتأكد من أنهم كانوا لا يزالون يصغون إليه.
وعندما يصل في أغنيته الملحمية إلى عبارات قوية مميزة، تعلو أصوات المديح والثناء والتأييد والتشجيع.
كان سيد صوته الذي ملأ الفضاء وقادراً على التحكم بدرجاته وتأثيراته الدرامية، في وقت كان الجميع فيه صامتين يصغون السمع إليه.
وما إن يصل إلى عبارات قوية، يرفع الجميع أصواتهم وأيديهم تعبيراً وتقديراً لكلامه.
إذاعة كردية
شهد العقد الأول من القرن الحالي، تحسناً طفيفا في العلاقات الكردية- التركية، ففي عام 2004، سمحت أنقرة باستخدام محدود للغة الكردية في إذاعات الدولة، وفي عام 2009، أطلق التلفزيون الحكومي قناة باللغة الكردية .
وفي عام 2012، أدرجت الحكومة اللغة الكردية ضمن اللغات الاختيارية في المدارس لمن يرغب بتعلمها.
وفي عام 2007 افتتحت بلدية ديار بكر التي كان يسيطر عليها الأكراد “بيت المغنيين” في محاولة منها للحفاظ على تقاليد “الغناء الملحمي” الذي تمثل جزءاً من التراث الكردي.
ولعب البيت دورا كبيرا في إعادة إحياء هذا التقليد وجذب الشباب إليه.
مركز ثقافي
ويعتبر بيت المغنيين مركزا ثقافيا يجتمع فيه سكان المنطقة لتبادل الأحاديث السياسية والفنية والاجتماعية. كانت أجواء تلك السهرات مفعمة بالترحيب بالزوار والغناء وأكواب الشاي الساخنة.
ويتخلل الأغاني الملحمية أحيانا لون آخر من الغناء يسمى “كلام” والذي غالبا ما يكون عن الحب والحروب والبطولة والخيانة والانقسامات والعلاقات بين القبائل الكردية المختلفة.
وتتوارث الأجيال تلك الأغاني والملاحم عن أسياد الغناء المحترفين لتبقى تلك العادات والملاحم والتواريخ والأساطير حية بين الأكراد في عموم أجزاء كردستان.
منافسة
تُقام جلسات الغناء الملحمي في المناطق الشعبية أو الريفية في منازل من يقدرون هذا النوع من الفن، ولكنهم يواجهون حالياً منافساً قوياً وهو التلفزيون الذي خصص قنوات عديدة من أجل الغناء الشعبي والفلكلوري إلى جانب السينما والدراما وغيرها من فنون.
وتراجع عدد من يحترفون الغناء الملحمي مقارنة بالعقود الماضية، بسبب الهجرة الجماعية للأكراد إلى المدن التركية الكبرى مثل اسطنبول التي يتجاوز عدد الأكراد فيها 3 ملايين نسمة حالياً.
ولا يعتبر كل من حفظ بعض القصص أو بضع أغان ملحمية، مغنياً جيداً، بل يتفرد في نجومية هذا التقليد كبار السن، بسبب حفظهم للكثير من الملاحم والقصص وخبرتهم الطويلة في الأداء والحياة.
ويقول باران جتين الذي ينحدر من قرية جبلية قريبة من أرمينيا في شرقي تركيا: “إن المكان الذي أنتمي إليه في غاية الجمال، لكن الحياة هناك في غاية الصعوبة، وها أنا أعمل في اسطنبول كما يفعل 3 ملايين من الأكراد”.
ويضيف: “عندما يبدأ المغنون بالغناء بذلك الأسلوب التقليدي القديم، أجد نفسي كما لو كنت جزءاً من الأحداث في تلك الحقبة الزمنية التي يغنون عنها، إنه شعور مليء بالحزن المصحوب بالأمل في آن واحد”.
مضى الوقت سريعاً وأنا أستمع إلى أولئك المغنيين في بيت المغنيين، سافرت من خلال أغانيهم عبر التاريخ الذي يحمل مزيجاً من الحزن والأمل رغم عدم فهمي للغتهم.
المصدر : بي بي سي عربي