حوار حسين الضاهر
ساهمت “الثورة التكنولوجية” في تغيير مسارات عديدة في حياتنا اليوم. وقد يظهر تأثير هذه الثورة في صناعة الكتاب والنشر، فأجبرت الناشر على سلوك دروبٍ مكلفة في سبيل الإبقاء على استمرارية مشروعه، كما أحدثت تغييرًا ملحوظًا في سياسة النشر، ففي ما مضى كانت مهام دور النشر استقبال الأعمال المكتوبة وانتقاء ما يصلح منها للنشر من دون أن يقع على عاتق المؤلف أي كلفة مادية، بل إنه في معظم الأحيان يحصل على نسبة من مبيعات كتابه.
وعن تغيّر هذه الشروط يوضّح مدير دار “موزاييك” محمد طه العثمان: “دار النشر -أولًا وأخيرًا- هي مشروع ثقافي، ما يعني أنه غير ربحي بالمطلق. وبصفتي مديراً لإحدى دور النشر، همي أن أبقي على استمرارية مشروعي، في ظل انتشار القراءة الإلكترونية على وجه الخصوص، وانعدام الإقبال على القراءة عمومًا. وفي سبيل استمرارية هذا المشروع لا بد لي أن أطلب التكاتف معي من قبل المؤلف والقارئ، فالناشر لا يمكن أن يكون من دونهما. لهذا اتجهت معظم دور النشر وموزاييك من بينها؛ إلى فرض مبالغ رمزية على الكتّاب للبقاء قيد الاستمرار”.
صناعة النشر تجارة أم قضية؟
تختلف النظرة إلى عالم النشر من ناشر لآخر، فبينما يرى “العثمان” بحكم أنه كاتب قبل أن يكون ناشرًا، أن “الأعمال الأدبية التي تعرض عليه، يحاول أولًا إخضاعها لرؤيته وذوقه الأدبي، ثم لنسبة توافقها مع السوق كسلعة”. في حين ترى بيسان عدوان مديرة دار “ابن رشد” أن الأمر يخضع لـ “متطلبات السوق من عرض وطلب، ثم لآليات التسويق وحاجة السوق. غالبًا ما يكون المحتوى هو الجزء الأصغر من العملية لدى الغالبية العظمى من الناشرين، لذا لا يمكن أن نعتبر صناعة النشر قضية في المقام الأول، وإلا فإن الناشر سيغلق أبوابه. حسابات الناشرين تخضع لكل ذلك خاصة في عالمنا العربي حيث انخفاض الطلب مقابل العرض. قلة هم الناشرون الذين يهتمون لأمر المحتوى في المقام الأول. كما لا يمكن أن نهمل الأعمال الجيدة فهي ضلع مهم من أضلاع النشر. فالسلعة الجيدة بمرور الوقت تطرد السلعة الرديئة”.
هذا التباين يأخذنا إلى تساؤل يدور حول مدى قرب الكاتب من دار النشر وما الذي يجعله يتجه نحو دار دون سواها، فيجيب الكاتب والشاعر عبدالله الحريري:
“ما يهم في دار النشر هو طبيعة اهتمامها بالجنس الأدبي المنشور، فكما هو معلوم فإن بعض دور النشر تهتم بصنوف غير الصنوف الأدبية طباعة وتوزيعًا، وكذلك يهم في دار النشر القيمة التراكمية المكتسبة بمعايير النشر، انتقاء وجودة وتسويقًا”.
في حين للقارئ وجهة نظره من المنتج والدار التي نشرته، فيعلّق محمد حذيفة على فكرة تعلّق القارئ بأسماء محددة لدور النشر، ويقول: “الأمر لا يتعلق بدور نشر معينة، بقدر ما يتعلق بما يهمني أنا كقارئ، بمعنى أدق؛ إذا كنتُ مهتماً بكاتب معين فبالتأكيد سأشتري كتابه بغض النظر عن الدار التي طبعته. كما أن الأمر لا يتعلق بالثقة، لأنه من النادر أن تجد دور نشر تهتم بالمحتوى فقط الذي تقدمه للجمهور، بل لا بد من الاهتمام بالجانب المادي للاستمرار”.
بينما ترى دلال إسحق أنها لا تقتني الكتب لمجرد سمعة المؤلف أو دار النشر، وإنما ما يهمّها في الكتاب هو “الموضوع والفكرة، لذلك أقوم بعملية بحث في البداية والاطلاع على آراء بعض القراء حول الكتاب، قد يكونون من الأصدقاء أو رأياً منشوراً على منصات مثل (غود ريدز)، وهذا بالمناسبة يجنبني هدر الوقت والمال على كتب قد لا تستحق” وفق وصفها.
العقبات والإغراءات
ربما تعد وسائل التواصل الاجتماعي والنشر الإلكتروني من أكثر العقبات التي تقف أمام الناشر وكتابه الورقي، وعن إمكانية الاستعاضة بالنشر الإلكتروني عن الورقي يقول الحريري: “وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التواصل والعرض الكثيرة، قد تكون أكثر شيوعًا وسهولة وأقل كلفة وأكثر سرعة في الوصول إلى الجمهور، غير أني لم أنسجم كثيرًا معها بما تفرضه من تشتيت وقت الراحة والتأمل، وتحفيز مستمر للأعصاب، وغمر المخيلة بالتفاصيل والهوامش ودفعها عن المتون والرؤى، ولعلها تنفلق عن منصات أكثر تخصصًا أو أكثر جدوى وأدق تصميمًا في المستقبل، ولا أستطيع الجزم في أنها لا تعوض عن الكتاب المطبوع، لكن الكتاب الورقي لا يتأثر بانقطاع الكهرباء أو عطب القرص الصلب، ولا يحيجك للتفكير بديكور ما بدلاً من المكتبة في صدر البيت، أو القلق الزائد حول مصادر القراءة إذا ما نشبت حرب نووية أو انقلبت التكنولوجيا على نفسها، ما زالت رائحة الورق محببة إلى قلبي كرائحة المطر الأول في جنوبي سوريا البعيد”.
الكاتب والروائي السوري بلال برغوث، يرى بدوره أن فكرة نشر كاتب مسخر لدى دار معينة، غير مغرية له ويقول: “خريطة النشر في الوطن العربي خريطة مصلحة بحتة، معظم الدور هي مصلحة تجارية، إلا مَن رحم ربِّي، الدار ترى في الكاتب المهم رقم مبيعات، والكاتب يرى في الدار وسيلة لتحقق له هذا الرقم، لا يوجد مشروع أدبي حقيقي لهذه الدور، ولا يوجد تبنِّي حقيقي للكاتب العربي، ولذلك فلا توجد أي دار عربية -للأسف طبعاً- قد تثير اهتمامي على مبدأ “يكفيني أن أُلصق اسمي بها، بما في ذلك دور النشر العريقة التي حملت يوماً ما الحلم العربي وكانت جزءاً من رسم الهوية والثقافة العربية ما بعد الانتداب الأجنبي”.
من جانبها تؤكد الناشرة عدوان على إخفاقها مرات عدة عند انجرارها خلف شهرة المؤلف، فتقول: “أغرتني شهرة الكاتب لضمان مبيعات أكثر والاستفادة من شهرته ومتابعيه، لكن في الحقيقة باءت تجربة التوزيع بالفشل حيث اعتبر كل ذلك وهماً على أرض الواقع، فالمنصات الرقمية والإعلام خادع لا يمثل غير 10 في المئة من الواقع ورغم معرفتي بذلك نظرًا لمهنتي كصحفية إلا أن حسابات الربح كانت مغرية أكثر، وبعد تجربتين باءتا بالفشل عدت لفكرة ألا أنجر خلف الآلة الإعلامية”.
عن علاقة أضلاع صناعة النشر فيما بينها (الناشر، الكاتب، القارئ)
غالبًا ما نسمع من الكتّاب أنهم أصيبوا بخيبة أمل بعد نشرهم كتابا في دار معينة، وغالبًا ما تكون هذه الخيبة بسبب إهمال الدار لاتفاقات الطباعة والتسويق، وفي هذا الشأن يجيبنا برغوث: “لا يمكنني القول حقيقةً أنني أصبتُ بخيبة أمل، لأنني عملت بمجال النشر مسبقاً، وفهمت تماماً مشكلة النشر والناشرين في الوطن العربي، وكذلك مشكلة القارئ العربي، لديك جمهور جيد من القراء العرب ممن أودّ أن أطلق عليهم (قراء التريند) وهؤلاء، أقصد القراء، هم جزء من هذه الحلقة، الكاتب، الناشر، الجمهور، لذلك وبرغم عدم وجود هذه الأصداء الكبيرة لمؤلفاتي، فإنَّه بطبيعة الحال لا يمكنني سوى لوم الحالة العامة في وطننا العربي، ولا حتى الناشر، ربما يمكن للناشرين طرق أبواب أوسع للتوزيع، وربما يمكنهم دعم الحالة الإعلامية المرافقة لإصدار مؤلفات كُتّابها، لكنَّه وبطبيعة الحال فإنَّ الجمهور هو الفيصل في نهاية الأمر”.
وعن القراءة والكاتب تقول “دلال إسحق”: “الكاتب يبذل جهداً كبيراً خلال عملية تأليف كتابه، إضافة للأعباء المادية. برأيي، على القارئ الذي لا يستطيع الحصول على نسخة الكتاب الورقية أن يتوجه إلى المنصات التي توفره إلكترونياً، فهي كثيرة ومتنوعة. يمكنني تفهّم وضع بعض القراء الذين يقطنون بلداناً تعاني حصارات اقتصادية، في هذه الحالة، أحترم الكاتب الذي يقوم بإرسال نسخة إلكترونية لجمهور القراء هناك ولكنني لا أستطيع لومه إن لم يفعل”.
وعن علاقة الناشر بالقارئ، نرصد إجابة عدوان التي تقول: “جمهور القراء يشكلون أهم عنصر في صناعة النشر، ولكن أيضًا يشكلون خدعة كبيرة إذا ما اتبعنا إحصائيات النوافذ الإعلامية والمنصات الرقمية؛ لتتبع المزاج العام. فالقراء لهم سيكولوجية محددة لا تخضع لحسابات السوق أو أفكار التسويق العادية في عالم المنتج والترويج، بل هناك حسابات أخرى تدخل في مزاجية وسلوك القراء. مثلًا في بلدان الربيع العربي كان هناك إقبال ضخم على الكتب الفكرية التي تحلل الوضع الراهن، مع مرور الوقت فقد الجمهور تلك الحماسة واقتربوا من الأدب في محاولة للهروب من الواقع، وكان لأدب الفانتازيا حظ وافر في تلك المرحلة ثم الأدب الديني في محاولة للاحتماء من المصير المجهول، وفي فترة (كورونا) لجأ كثير من الجمهور لأدب الرسائل وأدب الرحلات والكتب العلمية لمعرفة مصير العالم، وهكذا…”.
*تلفزيون سوريا