“الطلياني” بين سيريَّة العائلة السَردية المُركَبةَ ولعبة هواجس كتابة الذات

0

 أسعد آل فخري، شاعر وناقد سوري مقيم في فرنسا

أوراق 19-20

نقد

تَتَأتي أهمية رواية “الطلياني”(1) للروائي التونسي شكري المبخوت، من خلال تصدي سروداتها لمزيد من الأسئلة المسكوت عنها داخل مشهد الرواية العربية، في الوقت الذي نجدها أي رواية “الطلياني” اضطلعت منذ تبدياتها الأولى، ولديها الرغبة في أن تكون رواية تحتمل في معانيها الكبرى وأهدافها هواجس المسكوت عنه في مختلف المناحي والاتجاهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي ما انفكت ضمن تلك الأبعاد تؤثر أن تكون سرديةً “تونسيةً” على وجه الخصوص، في الوقت الذي نجدها لا تقف عند هذا الحد وحسب، بل راحت ترصد تحولات المجتمع التونسي بأدق تفاصيل المتغيرات التي عصفت به كما كل مرة من إجرائية لحظات تحولاته العميقة والجوهرية، آخذة بالاعتبار جملة المسائل المتعلقة بماهية حضور البعد الاقتصادي من جهة وانعكاس علاقاته على تمظهرات العوامل الاجتماعية، والسياسية من جهة أخرى، وكذلك سيرة الاحتراب الإيديولوجي، والاصطفافات المتعارف عليها داخل الشرائح الاجتماعية على مختلف توجهاتها، إن كانت مع اليمين أو مع اليسار أو ما بينهما، وهي لا تخفي أي “الرواية” رهانها الطَموح أمام المواجهات الكبيرة التي تعصف بالعديد من القضايا الإشكالية، والمُركَّبة التي مرت بها تونس ما بين مرحلتين سياسيتين، وما تلاهما من مراحل أخرى سادها الكثير من المتغيرات المصيرية إبان حكم “الحبيب بورقيبة”، وبدايات حكم “زين العابدين بن علي” إضافة إلى رصد بدايات ثورات الربيع العربي “2011” التي تبدت على شكل نبوءات، أو استشرافات مرتبطة بنتائج المرحلتين السابقتين لها، لنتحصل من بعد ذلك على عمل روائي حاذق في إضاءة العديد من الأسئلة الأخلاقية الكبرى، والتي لفتت الأنظار في تَصدّياتها التعبيرية (meaningful) وتعرضاتها المَكينة تجاه القضايا السياسية، والفكرية لمرحلة هامة، وفارقة داخل زمن التحولات التونسية بامتياز، ومقدرة رصدت من خلالها لوحة الصخب، والفوضى التي سرعان ما انعكست تداعياتها على مجمل الحياة السياسية، والأخلاقية، وكذلك الاجتماعية، لعموم المجتمع التونسي، في الوقت الذي يلفت الانتباه داخل مسارد الرواية قوة تدفق وسيولة الأحداث والوقائع، واستنادها إلى مرجعية تنتمي إلى حالات التوثيق، الذي أسرف الروائي من خلالها في ذكر مجاميع تلك الأحداث، والاحتربات السياسية، كما أنه أسهب في سياقات المسارد داخل سردية “الطلياني” إلى درجة تمظهرت فيها مناخات الملل، ولربما الحاجة إلى كسر حالة الانتظار. على الرغم من أنّ الرواية لا تخلو من الجذب، والتشويق، إلا أن أبعاد مسألة التوثيق، والوقائع التاريخية لتلك المراحل قامت، ونمت من خلال معايرة استرجاع الأحداث الماضية (retrospection) وتسريد بنية الحكايات فيها، مما أنتج أبعاداً إشكالية في أسلوب التعبير (locution) عن تلك الحكايات، وعن تفاصيل أنساقها التي لم تخرج في حقيقة الأمر عن نطاق، وإطار المسرد الواقعي المباشر المحكوم بالوصف، إلى درجة أن الكثير من الوقائع الوثائقية (narrative Documentary) تحول إلى مسردٍ تسجيلي، غرق في التوصيف، والتوثيق التاريخي بعيداً عن القيمة التعبيرية للسرد الروائي.

    ثمة مفاعيل سردية تمظهرت في رواية الطلياني، وقد اعتمدت التّاريخ بعداً تأسيسياً “لميثتها الحكائية” إذ استدعت من خلاله منصة المُتخيَّل السردي(epidiascope narrative) كم هائل من المشهدية التوثيقية والتي في ظننا، واعتقادنا أنها كانت المعيار الذي يتم عبره إدراك المسافة بين زمن الحدث، وزمن كتابته، وهو أي “المخيال” (imaginary) من يحدد الأبعاد التي يخلفها أثر التاريخ، داخل مفاعيل حركية الوقائع، ومرجعياتها السوسيولوجية (Sociology) حيث أشارت الرواية إلى العديد من الإحالات الرمزية التي تُعد مرجعيةً للأحداث وفق ما تعرضت لها رواية الطلياني مثل: (يوم النّصر في 1955ـ وصول “بوك علي” إلى العاصمة ـ مؤتمر الطلبة في قربة 1972ـ الخميس الأسود 1978 ـ ثورة الخبز1984) والعديد من الأحداث المختلفة في سياقها التاريخي، والتي لم تغفلها السردية، وهي في حقيقة الأمر جذَّرت حضور تلك الأحداث بصورة، وصفية (description) لا تخلو من المواقف التي ترسم مشهدها التعبيري (expressive) هنا أو هناك. لا سيما أن الروائي المبخوت ما انفك، وهو لا يخفي رغبته في إعادة الحياة إلى الرواية الكلاسيكية المتنوعة المناحي، والاتجاهات مؤكداً أهمية مقولته: “إن التجريد الروائي وصل إلى طريق مسدودة عند الغرب، ومنها انتقل إلى العالم العربي متأخراً، وعندها وصل إلى طريق مسدودة أيضاً عندنا، بحيث وصلنا إلى روايات لا نستطيع أن نتجاوز فيها عشر صفحات، أو عشرين صفحة وهنا أتحدث عن نفسي كقارئ، ولست روائياً في هذا المعنى” (2) ربما يحتاج الأمر هنا إلى مراجعة خاصة بما يتعلق بحالة الجزم التي أبداها الروائي المبخوت بما يتعلق، ويخص الرواية التجريدية، والطريق المغلق الذي وصلت إليه، لكن من المفيد الالتفات في هذا المفصل إلى أن ضرورة وجود الحكاية ومتوالياتها السردية في ماهية مسارد الرواية، هي (أي الحكاية) الأصل في العملية السردية، وتلك نقطة لا خلاف حولها نظراً إلى أن تمظهر إجرائية مفهوم “أن تكون هناك رواية دون حكاية”  ليس صحيحاً، من حيث إن هذه المعايرة هي التي يرغبها المبخوت، ويؤكد على وجودها بعيداً عن التجريد السردي القادم من الغرب “قاتل خفي للحكاية” حيث لا ينفك عن اعتبار أهمية الحكاية، وأحداثهاالواقعية، كما لعبة يحتاجها الطفل للحكي أو للإنصات طبقاً لما يقول:” أنا كالطفل الذي يحب الحكاية، وجميعنا يحب الحكاية، لأنها تحمل فضاءً للحلم وللتفاعل”(3) تماماً كما هو مثلث التقريرية المقدس “التاريخية والتسجيلية، والوثائقية” في الوقت الذي كادت أن تتلاشى تقريباً كل تلك التصنيفات السردية في المشهد الروائي العربي إلا من نثار لا يذكر هنا أو هناك، حيث بدا أن الروائي المبخوت غير آبه، ولا ملتفت إلى بعض معايير الحديث السردي الذي اشتغل عليه بصورة أو بأخرى، ممظهراً المفاصل التاريخية للمراحل المختلفة، دون الاعتداد بصيرورة كل مرحلة، وقد اتسمت مشاهد الصراعات بين الأجيال الاجتماعية، والسياسية، إلى مشاهد من المواجهة الاحترابية، والمقارعة (fight) الصراعية وفق صورتها المباشرة حيث ” تعالى صوت عبد الناصر رغم محافظة صلاح الدين على هدوئه. خرج الأب إلى وسط الدار بعد أن صلى العشاء، كان الجميع ينصت إلى الأخوين، ولا أحد على الأرجح فهم شيئاً عدا توتر عبد الناصر. صرخ سي محمود في وجه ابنه الأصغر: متى ستكف عن وقاحتك، وأنت تتحدث إلى سيدك خوك؟! ـ أجاب عبد الناصر منفعلاً: ـ ليس لدي سيد، ولست عبداً لأحد.. لقد تركت أخلاق العبيد لكم. ـ اخرس يا كلب، قالها الأب ويداه ترتعشان، ويهم بضرب الفتى الوقح … أمسكه صلاح الدين من يده، وهو يتمنع ويتفلت. هدّأ من روعه والتفت إلى أبيه موجهاً إليه الخطاب: ـ يا حاج عليك أن تفتخر بابنك. إن الناس يحسدونك عليه، وهو أفضل مني ثقافة وتجربة، وعمقاً في التفكير مقارنة بي حيث كنت في سنه” (ص 16ـ 17) نضيف إلى ذلك أيضاً ما كان عليه جواب الروائي المبخوت في الحوار الذي جرى حول روايته الطلياني، وبالتحديد ما يتعلق بمسألة الحرية الفردية داخل الأسرة، أو في إطار المجتمع مؤكداً العبارة اللافتة التي قذفها عبد الناصر بوجه أبيه “ما يجمع بين الشخصيات هو بحث يسعى إلى بلورة مسار فردي قائم على الحرية الفردية يخفق بطبيعة الحال، لأن هذه المجتمعات المحافظة، لا تؤمن بالحرية الفردية. هذا الفرد مقموع في جسده في خياله في لغته، وليس مقموعاً سياسياً فقط وهنا السؤال الذي يفرض نفسه “هل يمكن أن نصنع مجتمعاً حراً بأفراد مستعبدين” (4)

    تلكم هي صورة التعبير عن مفاعيل الاحتراب، وصراع الأجيال (generational struggle) الذي أشارت إليه رواية الطلياني منذ صفحاتها الأولى، بصورة مباشرة، رُسِم من خلالها صورة حقيقية لماهية أبعاد الصراع داخل أسرة “سي محمود” والذي شهد عراكاً كلامياً عبر الاحتدام  بين ثلاثة أجيال، كل منهم يعبر عن مرحلة بحد ذاتها، دون مواربة ولا إشارية، حيث تبدى جيل مرحلة ما قبل بورقيبة متمثلاً بالأب “سي محمود” في الوقت الذي وجدنا فيه جيل مرحلة “بورقيبة” التي تصدى للتعبير عتها الأخ الأكبر “صلاح الدين” أما جيل مرحلة “بن علي” وما بعده فقد مثله الابن الأصغر (عبد الناصر) “الطلياني” الذي خرج عن صمته المعهود، ليعلن رأيه، وموقفه المسكوت عنه بصراحة، وشجاعة مدهشتين، وكأن الروائي “شكري المبخوت” أراد أن يشير بصورة رمزية ومُركبة، إلى دوافع، وتبديات ما جرى في بدايات ثورات الربيع العربي التي افتُتِحت أناشيدها في الشوارع التونسية منذ لحظاتها الأولى، تماماً كما صرح المبخوت بذاته قائلاً: ” لم أكن بحاجة إلى القيام ببحث تاريخي، لأنها فترة جيلي أنا. وعلى كل حال تلك الفترة من تاريخ تونس ليست مكتوبة، والتحدي الذي خضته هو أن أكتب قصة جيلي سردياً، وفي الآن نفسه مسيرة بلد يعيش تلك التحولات والتناقضات والأزمات” (5) في الوقت الذي نجده يتحدث عن ثورة الياسمين التونسية معتبراً أن التوافق بين زمنين:” زمن الرواية، وزمن الكتابة لابد سيكون نوعاً من التوافق الذي لم أخطط له، ولكن وأنا أختار مقر هذه الشخصية، وجدت تشابهاً بين المرحلتين… مرحلة نهاية بورقيبة، وبداية بن علي، ومرحلة نهاية بن علي، وبداية الثورة والواقع الذي يربط بين الفترتين هما أنهما فترة انتقال، وتحول ووعود وآمال وتخوف… هذا ما عشناه في الفترتين”(6) وهذا ما جعلنا ننظر نحو سردية الطلياني برمتها، وفق مناظير حضور، وتجلي أبعاد، ومعايير مختلفة تخص ماهية الرواية المركبة(syntagm narration) والتي تكون بطبيعتها منفتحة على مغاليق الكتابة التي تنتهج السرد الواقعي، والمباشر والتاريخي في الآن ذاته.

   لا شك أن ما قاله “المبخوت” لا يعني أبداً أنه حصَّن روايته الطلياني، ولا يعني أيضاً أنها باتت هي الأخرى بعيدة عن الفوضى السردية (narrative Chaos) والتشتت في استثمار الواقعات المباشرة، إضافة إلى تبعثر ميثاتها التي أصابها الوهن، فلم تعد قادرة على إنتاج المعنى اللافت بعيداً عن الماضي التاريخي الذي وقعت في فخاخه، وبما ينسجم مع أهداف السردية، الواقعي منه والمجازي أيضاً، إذ اكتفت السردية بإنتاج الوقائع المباشرة، والتوثيقية تحت ذريعة أن الروائي أراد أن يكتب سيرة جيله التي عاشها ويعرفها، وكذلك المراحل السابقة لها واللاحقة بها، وكأن المسألة هي في كُليَتِها السردية التي توثّيق ما جرى، وفق الصورة التي يريدها المبخوت، وهي جعل وظيفة التوثيق (authentication function) منصة أساسية يتم الحديث من خلالها  عن مراحل مختلفة لم يتم تدوينها من قبل في الوقت الذي وجدنا اشتغال “المبخوت” يغرد بعيداً عن سرب مفاعيل التحليق في الفضاء السردي الذي سيساهم بالتأكيد في إخراج سردية الطلياني من عزلتها التوثيقية، وتخليصها من “العوز” في بعض مفاصلها التي بدت مترهلة جراء الاستغراق داخل دوامة التفاصيل السياسية والايدولوجية الفائضتين، فراحت أنساق الحكاية أو الحدوثة تخرج عن مساراتها الكلاسيكية كرواية واقعية، وانكبت تحدثنا، وهي تطل علينا من نافذة مفاعيل تقنيات سردية مختلفة، حيث شرع الروائي عاكفاً على تعليم بعض شخصياته الروائية مراحل، ومسارات كيفية إعداد “مقال صحفي” أو رَقِنْ مادة كتابية على صفحة الجريدة، حيث لابد من تتبع المراحل الأساسية في تنزيل، وطباعة المادة الكتابية على صفحة الجريدة أو المجلة:” قواعد بسيطة يمكن استعمالها حتى قبل رقن المقال، قال له: معدل الكلمات في السطر الواحد مضروب في عدد الأسطر تقريباً، حينها تعرف الحجم، سترى أن الفروق تتصل بحجم الخط، وكيفية قطع أعمدة المقال المكتوب على عمود عادي أو عمودين أو أكثر. هكذا يكون احتساب الفراغات بين الأعمدة وهوامش الصفحة في أعلاها وأسفلها، وكيفية إعداد الورقات قبل الشروع في أي تصور للمحتوى البصري لهذه الصفحة أو تلك، بالتجربة ستعرف الزوايا الثابتة، والصفحات التي لا تتغير، والصفحات التي يتبدل محتواها دون شكلها إلا في ما ندر. ما تقوم به أشبه بوضع سكة الحديد، وعلى المصمم وضع القطارات، وتنظيم أوقات خروجها ودخولها” (ص165) إضافة إلى ما شابه ذلك أيضاً من تأثيثات مختلفة أخرى في العديد من المناحي والأدوات، والتي تتعلق بكيفية إيصال فكرة درسية أو مهمة تعليمية :” وتقتصر الدائرة الرابعة على الطلبة الذين يُكْتَفى بتكوينهم غير السري في مجال العمل النقابي الطلابي: تشرح لهم مبادئ الحركة الطلابية النقابية، ويروى على أسماعهم تاريخ الاتحاد العام لطلبة تونس، والنقلة النوعية بعد مؤتمر قربة وحركة فيفر”1972″ المجيدة وما ترتب عنها بالخصوص من قطيعة سياسية، وتنظيمية مع النظام الكمبرادوري العميل، ودور الحركة الطلابية في التغيير الثوري”(53ـ54) في الوقت الذي نجد فيه تناوباً لافتاً بين أسماء الأعلام من الكتاب، والمفكرين، وبين سياق الشروحات السياسية التبشيري منها والتعليمي، وذلك ما ترك وقعاً ثقيلاً على أنساق السردية، ولغة الحوارات فيها، وأخرج جماليات الحوار السردي المركب إلى فسحات مختلفة ساهمت بصورة مباشرة في جعل الأمر متاهة لِكَمِّ كبيرٍ من المعلومات التي عادة ما تكون أشبه بتوشية تضيء الحوار (dialogue) داخل العمل السردي ليس أكثر. وهذا ما جعل الرواية تقع فريسة سهلة للعوز الفني، وتفقد كذلك ميزة هامة من مائزاتها السردية ذات الأبعاد التركيبية جراء الحشو الزائد في المعلومة غير المفيدة، والتي يمكننا إزالتها من نسيج الرواية دون أن تترك أثراً بالغاً على مفاعيل سياق السردية وأهدافها.

    مما لا شك فيه أن مسألة الحوارات أصبحت إشكالية في سياقات رواية الطلياني، والتي تحولت بالتدريج إلى عبء أرهق الرواية، وحرفها عن مساراتها السردية، جراء اهتمامها بالحديث عن تفاصيل مختلفة،  ومتعددة لا تنتمي إلى صلب السردية، كما أنها لا تعود في مرجعية حضورها إلى معالم محددة بعينها، وهذا ما ساهم في تحول أدوات الفن الروائي وإبداعه السردي جراء ذلك إلى وظيفة توثيقية (authentication function) كما عصفور يغرد خارج سرب الكتابة الروائية المتعارف عليها والمعاصرة أيضاً، وفق معايير السرد الروائي، وبناء الشخصيات الروائية المتنامية من داخل الحدث التسريدي ومتوالياته، أما ما يتعلق بالتدفق المعلوماتي، فقد كان مثالاً لافتاً جراء منح النص السردي سمة مفاعيل اشتغال البنية الحوارية الفائضة التي ذهبت إلى تكريس معيار تمطيط السرد(narration stretch) والوقوع في دوامة لزوم ما لا يلزم من خلال الاعتماد على تسطيح المسارد عبر متواليات الوصف(description) البعيد عن التعبير السردي ليس إلا.

   هكذا تحولت الحوارات السياسية، والإيديولوجية، والفكرية بالتحديد بين مختلف الشخصيات، إلى حدث احتل من السردية حيزاً هاماً، إلا أنه بقي في إطار المتبوع بالشرح الفائض، والمجاني أيضاً، إضافة إلى اشتغال الحوارات على المعلومة التي تغرق في تفاصيل مختلفة، دون أن تخدم هدفاً فنياً محدداً في السرد الروائي، وذلك ما جعل جلى التفاصيل فريسة للوصف الفائض، وتدفق للمعلومة التوثيقية، والإسهاب في لزوم ما يلزم تعليلاً يتسم بمحاولة الاجتهاد   بعيداً عن حالة التعبير التي تحتاجها المُشكِلات الأساسية للشخصية الروائية من الناحية السياسية والاجتماعية والفكرية التي تعد الطَّيف الأوسع انتشاراً في مسارد مشهد الرواية العربية، وذلك ما كان السبب المباشر والصورة “العَوزيَّة” التي فتكت بمعمار الرواية السردي، وأصابته بالوهن، والضعف الفني، والبلاغي أيضاً في بعض الأماكن، والمفاصل التي أشغلت سرودها، بالمعلومة والتوثيق، والتأريخ  داخل متون رواية الطلياني.

    إن الاعتناء، والحرص الشديدين على تفعيل الأبعاد التفصيلية، وماهية السياقات الوصفية داخل الأنساق السردية، واهتمام الروائي الملحوظ على استحضارها، واستعادتها من ماضيها (analepsis) شكلت في مجملها عبئاً أثقل كاهل الرواية، وبعثر أهدافها الأساسية، وتلك حقيقة سرعان ما نشعر بها، ونلاحظها داخل دوامة تتبع أنساق المسارد. يضاف إلى ذلك تركيزها على تأريخ التحولات السياسية، والاجتماعية للمراحل التي تصدت لها الرواية، وانشغالها بتقسيمات الأجيال المُحتربة، وفق الصورة التركيبية للبنية السردية العميقة (narration deep structure) وتوثيق المفاصل التي تَنتُج من جراء ذلك الاشتغال، وتوالي مفاعيله التي حولت الرواية إلى أرشيف تأريخي، وشاهد يمكن العودة إليه للتحصُّل، والتعرف على مجريات توثيقية لتلك الفترة، في الوقت الذي كان من المفترض أن ينخرط الروائي “المبخوت” في الاشتغال على تنمية شخصياته الروائية التي بدت في مختلف أبعادها التركيبية، ومفاصلها السردية قابلة لفعلين أساسيين مهمين في بعديهما التأويلي والرمزي (interpretation and symbolic) وكذلك جعل سردية الطلياني مرصداً متقدماً للبعد الأخلاقي في المجتمع التونسي، لما تحمله من أبعاد تأثيثية، ونمنمات اجتماعية تعتمد على المخيال، والواقع في الآن ذاته، وهذا من وجهة نظرنا يُعد بعداً سردياً شكَّل قيمة مضافة، إلا أنه لم يستثمر، ولم  يتم الاشتغال على مفاعيله بالصورة المطلوبة التي لا بد أن تولي شخصيات الرواية حضورها الذي تستحقه داخل مساردها، ومن جهة أخرى تأهيل البعد السردي داخل طيات سلوكات تلك الشخصيات، وسياقاتها المختلفة التي لابد ستتعايش مع النمو الوجودي لحضورها في السياق الروائي ضمن سردية الطلياني، وفق تناسل، وتوالد حساسية السرود (Narrative sensitivity) وأبعادها المختلفة، داخل العمل الروائي وقابلية خلخلة الزمن في أنساق مسارده المتنوعة.

   لا شك أن ما تمنحه خصائص وظيفة السرد التركيبي (syntagm narrative) للعمل الروائي يمكن استثمار أبعادها المتوارية، كحالة مركبة تحتمل تأويل (interpretation) أهداف حضورها السردي داخل حيوية أمكنة الأحداث، والوقائع التي تمتلك فاعلية لكونها منصة للتعبير بحد ذاتها ليس إلا، في الوقت الذي أصبح من الصعوبة بمكان أن يتمكن الروائي “المبخوت” من تجاوز مسألة “التأريخ السيري” للأبعاد التي تحمل سمة التوافق، والتواؤم داخل أفكار الشخصيات التي هي في حقيقة الأمر الصورة الأصيلة التي تُشكل مفاعيلها  اللغة السردية لمروية “الطلياني” إضافة إلى استثمارها للعديد من التفاصيل المختلفة التي تخص شخصيات ثورية ومناضلة في سبيل الحرية، والديمقراطية، والتي كرس الطلياني أفكاره، ونضالاته اليسارية بصورتها التبشيرية دون أن ينفك عن مغامراته غير الأخلاقية، والملوثة، إن كان في الصحافة أو السياسة، أو على صعيد العلاقة بالمرأة التي تحولت بين يديه، أو في سياق حيواته السردية، إلى أضاحي وفرائس بدءاً من “حنين وزينة وإنجيليكا مروراً بنجلاء وآخرهم ريم. على الرغم من النهايات والخواتيم المنكسرة والخائبة على صعيديها الرمزي، والتركيبي، حيث لم تستطع سردية الطلياني تقديم نفسها كـ ” سيرية مروينة، ولا رواية مسيرنة” فكثافة الأبعاد التقريرية، والوثائقية خطفت ما لاح من بريق سرودها، إن كان على صعيد “روينة السيرة” أو “سيرنة الرواية”، حيث تحولت السردية بالتدريج إلى صورة وثائقية تم تكريس أبعادها السردية من أجل الإشارة وثائقياً، وتأريخياً إلى حالة الانكسار، والخراب الذي أصاب أجيال عديدة عبر توثيق أبعادها السياسية والاجتماعية والأيدولوجية.

   لقد استطاعت رواية الطلياني أن تقدم نفسها على هيئة “سيرية أجيال” من خلال حديثها عن أدق تفاصيل، ومجريات، ووقائع بعينها جرت في أمكنة، وأزمنة مختلفة كانت حاضرة في سياقها التاريخي، وكما مسرد وثائقي (narrative Documentary) من قبل أن تتناولها رواية الطلياني، حيث استغرقت تلك الوقائع التاريخية، وتفصيلاتها التحليلية ما يزيد على أكثر من نصف عدد صفحات الرواية، في الوقت الذي وجدنا فيه أيضاً أن النصف الآخر من الرواية استثمر مسألة الوقائع التسجيلية في النصف غير الوثائقي، وهذا ما يؤكد أن اتكاء الرواية على فترات محددة من التاريخ الممتد ما بين نهايات مرحلة ما قبل بورقيبة، ومرحلة بن علي وبداية ثورة الياسمين (2011) لها مرجعيتها، وأسبقيتها كتأريخ اشتغلت، واعتمدت عليه الرواية في تأثيث حضورها السردي، واستحضار ميراث خلفته الأجيال السابقة بقضها وقضيضها.

1ـ ميراث سُرود الخطيئة والتكفير:

    قامت العمارة السردية (Narrative architecture) لرواية “الطلياني” على مجموعة من الميثات الحكائية المَكينة اتصف معظمها بالحضور اللافت في تبديانه عبر تواشج مفاعيله التسريدية التي تمظهرت داخل منظومة أنساق حكائية تألفت من اثنتي عشرة محطة، أو فاصلة سردية مركزية. راحت في عمومها ترصد حيوات، وسلوكات الشخصيات الروائية وفق تنوع مشاربها، واتجاهاتها السياسية، والاقتصادية، وكذلك ظهورات أبعادها الاجتماعية، بيد أنها، ومن خلال فواصلها تلك، أرادت أن تخبرنا مسار حكاية بدأتها من آخرها، لتأخذنا إلى أولها عبر أسلوب شيق، ولافت على الرغم من استغراقها في تفاصيل كثيرة وفائضة ، والغاية من استخدام تلك اللعبة الفنية هي رغبة الروائي “المبخوت” المستميتة في تفعيل أدوات إيقاظ الزمن الفائت أو العتيق من خلال الكثافة الواضحة، والصريحة لاستدعاء تفاصيل استرجاع (flashback) صور الوقائع، وأحداث الماضي، وهو بذلك يجعل من حكاياته سياقات تقبل البناء عليها مما يمنح الخطاب السردي فيها بعداً تحديثياً لكونها رواية تنتمي كما يراها الروائي  إلى الواقعية الكلاسيكية بامتياز، وهذا ما دفع المبخوت إلى تفعيل محاولة إخراج سرديته من لعبة قواعد الشروط الواقعية الصارمة، وجعلها سردية منفتحة على بعض أدوات المفاعيل المُركبة (synthesis) للسياقات الروائية المتنوعة، وهو بذلك يحقق العديد من الغايات، والمرامي الفنية، والسردية داخل متون المَسْرود الروائي المشغول عليه استناداً إلى الماهية التركيبية لحكاية السيرة الذاتية (Biographical novel) ذات الطابع التوثيقي لرواية الطلياني. 

    تبدأ رواية “الطلياني” أناشيدها السردية من خواتيمها، وهي تصف لنا مراسم دفن الحاج محمود، والد عبد الناصر الملقب بالطلياني، بطل الرواية وساردها العليم الذي يترك حشد المشيعين في حيرة من أمرهم، حين يندفع كمن أصابه المس تجاه الشيخ علالة الدرويش الذي كان منكباً وقتئذٍ إلى جوار حفرة القبر، وهو يلقِن الميت الحاج محمود العبارات المعتادة، حسب طقوس الدفن، لينهال حينها عليه الطلياني، ركلاً، وضرباً مبرحين حتى يدميه” يلعن دين والديك، يا منافق، يا نذل، يا ساقط، اخرج من غادي يا نيـ … كان الإمام يتأوه، ويئن أنيناً مراً، نزفت الدماء من فمه، فاختلطت بقميصه السكري، وبدعيّته فاتحة اللون … تعالى الصخب، واختلطت الأصوات: ” الإمام غارق في دمائه” ” عبد الناصر الطلياني ضرب الإمام” (ص7)  

    ولكي نعلم لِمَ أقدم الطلياني على فعلته الصادمة تلك، سنحتاج شوطاً طويلاً من السرود، والحكايات بلغت ذراها في خواتيم الرواية حيث نتعرف من خلالها على أحد أهم أسرارها حين يستقيم السرد، ليحدثنا عن وقائع حكاية الطلياني مع الشيخ علالة، وقتئذٍ راح عبد الناصر “الطلياني” يستطرد بقص حكايته، والغصة في حلقه وهو يسرد، ويصف مشاهد اغتصابه من قبل الشيخ، ولأكثر من مرة، حين كان في سن اليفاعة، لنكتشف من بعد ذلك أيضاً أننا داخل شبكة معقدة من المشكلات الأخلاقية، والسلوكية، كما سنتعرف أيضاً على مفصل مهم من حياة “الطلياني” الذي عاش ظروفاً فيها الكثير من زهوة الانتصارات الواهمة، على الصعيد السياسي والاجتماعي، كما هي كذلك حقيقة الانكسار الذي اجتاح جيله بأكمله في الآن ذاته على مختلف الأصعدة فكرياً، وإيديولوجياً وأخلاقياً، حيث تبدى من خلالها عبد الناصر الطلياني داعيةً للحرية، ومبشراً بأهمية تحرر الفرد قبل تحرر المجتمع، وقد أظهر اشتغالاً منقطع النظير في تأثيث أخلاقيات الحرية الفردية (individual freedom) التي تسبق حرية المجتمع الواسعة والعامة (Broad and general freedom) داخل العديد من المفاصل، وهو غير منفكٍ عن تأكيد أهمية حرية الفرد، وأسبقيتها، وكأنه يريد القول أن من المستحيل أن تكون هناك حرية اجتماعية، وسياسية إلا بعد أن يحقق الفرد حريته الشخصية، وهذا ما جعل مفاهيم الحريات وأسبقياتها داخل مسرودات الرواية مفاهيم عائمة تحتاج الكثير من التروي، والضبط، وكذلك البحث عن صيغ اصطلاحية متفق عليها من ناحية علمي الاجتماع والسياسة، إضافة إلى معايير منطقية نستطيع من خلالها ضبط، وتحديد معالم الطريق الصحيح نحو إيجاد أسس يتم من خلالها اكتشاف صحة الأسبقية من أجل الوصول إلى الحرية بعيداً عن الاعتباطية، وقسر المفاهيم الإشكالية على مقاس وقياس شخصيات سردية بعينها لديها رغبة التعبير عن هذا المفهوم، أو ذاك من أجل تحقيق هدف فكري محدد يعالج مسألة الأبعاد الأيديولوجيّة داخل الرواية، ومفاعيل أنساق تسريداتها الفكرية.

    تلك هي واحدة من متواليات عديدة، من الميثات، والتي يعد عبد الناصر “الطلياني” الميثة السردية الكبرى فيها، ومنهل المسرودات جميعها، بحكم وظيفته كساردٍ عليمٍ (omniscient narrator) كما أنه عِماد العمارة الروائية ومُبْتَناها، على الرغم من غموض محياه، وظهوراته المواربة التي تلفت إلى تنامي مفعولات سياقية تشير إليه بصورة، أو بأخرى كشخصية ذات أنساق فصامية (schizophrenia) متوارية خلف قناع (mask) مخادع، حيث يتجاور في مركبها النفسي بعدا الإخلاص والولاء (Betrayal and loyalty) في اللحظة ذاتها، إضافة إلى بُعدٍ مهم في أبعاد الرواية، وأهدافها حيث وجدنا شخصية الطلياني، الحالة الأكثر تعبيراً عن انكسار اليسار، وخيبة شعارته، ومراوغة أبعاد أهدافه التي بدت في الرواية مجرد أوهام، سرعان ما حدث التحول الكبير، وأزال شخصياتها، لنكتشف بعدئذٍ أن معظم شخصيات الطلياني تعيش حالة المأزق المرتبط  بذاكرية حُملت الكثير من الويلات، والهزائم، والانكسارات، وشريط طويل من الخطيئة، والقليل من الانتصارات المنقوصة، وكأن الروائي المبخوت أراد من سرديته المسهبة أن ينبش ويحرث “ماضوية” كل شخصية من شخصيات الرواية، ليبين لنا من خلالهم جملة القضايا التي تتحكم بماهية المجتمع التونسي، وتحولاته عازماً على أن يكون مجموع تلك الشخصيات، كما عائلة تونسية تحتمل المقدس، والمدنس في آنٍ معاً، تماماً كما كانت فريدة في أسلوبها، ولافتة في التعبير عن سياقات تحولات المجتمع التونسي، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفق أبعاد أخلاقية أصبحت المُشكّل الأهم في حضورها المقدس، وامتداداتها المدنسة، واللتان يخبرنا بهما الراوي العليم بصورة حاذقة، ومعبرة عن روح الهزيمة، واستمرار العيش على فتات انتصارات صغيرة، وواهمة، وشعارات كاذبة، ومخادعة، دون الخروج عن نمط الحكايات الواصفة للحال الذي كانت عليه تونس، وقد انعكست كل تلك المتغيرات بتحولاتها المختلفة على شخوص الرواية وسلوكاتهم.

2ـ العائلة السردية:

  آ ــ زينة (أنروز):

     ثمة تمظهرات مقتضبة للشخصيات الذكورية داخل مكونات العائلة السردية (narrative family) لرواية الطلياني، على الرغم من حضور الكثير من الأسماء الذكورية ضمن مفاعيل الوقائع التاريخية، والتسجيلية التي احتلت حيزاً كبيراً من سياقات الرواية، في الوقت الذي نجد فيه أن الغلبة لحضور، وتمظهر شخصية المرأة التي انعكست أدوارها التمثيلية على سلوكات الرجال في العائلة السردية، وكانت (أي المرأة) أحد أبرز المحركات الحكائية والتسريدية التي ساهمت في تنامي الأحداث داخل سياقات حكاية الطلياني، حيث تبدت ظهورات الشخصيات مقرونة بمراتب هرمية، تبدو فيها مفاعيل التأثيث ذات أبعاد خلافية تتعلق بالرؤية، والنهج كمعادلين سياسيين ينحوان بصورة خاصة إلى تأكيد صورة المرأة ومقدار أثرها، حيث نلحظ الحضور الأنثوي عبر شخصية “زينة” التي أضْفَت على السرود قيمة اعتبارية شكلت في أبعادها المعيار الأمْيَزْ لخصوصيتها، من حيث أنها تحولت إلى امرأة خارقة (Super woman) متميزة الحضور ضمن ظهوراتها، ومفاعيلها السردية التي لا تقل في ميثاتها التركيبية أهمية عن شخصية عبد الناصر، فكل منهما يُكْمل نشيد الآخر سردياً، إذ إن عبد الناصر كان زعيماً كبيراً أيضاً، ويمثل تياراً سياسياً تحررياً في الجامعة، كما أنه كان خطيباً بارعاً، ومقنعاً في خطاباته الصارخة والمؤثرة، في الوقت الذي كانت زينة من أكبر منتقديه ولائميه، في الوقت الذي لا تجد حرجاً من كَيلِ الكثير من الشاتم والسُّباب لكل خُطب وتوجهات عبد الناصر، وهي التي كانت تنعته على الدوام، بالمدعي، ومن معه أيضاً حتى وصل الأمر إلى اتهام تياره السياسي بالمخادع، والانتهازي من قبلها.

    إن العديد من المعطيات، والوقائع صَعّدت الموقف بين زينة، ومن يمثله الطلياني إلى درجة أن الجماعة أخذت قرارها بالاتفاق مع الطلياني للتخلص منها، وقد تم التخطيط لاغتيال “زينة” من قبلهم، جراءَ شدة تأثيرها على خطاباتهم السياسية. وسلوكهم المَشين داخل ردهات الجامعة وفي العديد من أنشطتهم التي تنظر اليها “زينة” بعين الريبة والتوجس، إلا أن الطلياني يتراجع في اللحظة الأخيرة عن موافقته على قرار اغتيال زينة، بعد أن التقاها، وأحبها، وأحبته مما جعله يسرّ لها، ويخبرها بأدق تفاصيل عملية الاغتيال التي كان من المزمع تنفيذها، وهذا ما دفع الرجل الأول، والمسؤول عن تنظيم عبد الناصر السياسي إلى موقف استشاط فيه غضباً على عبد الناصر في الوقت الذي شرع يصرخ في وجه الطلياني قائلاً: ” إن كنت خائفاً، فمكانك خارج التنظيم، اخرج واترك مكانك للثوريين الحقيقيين. هذه العاهرة ينبغي أن تزاح، وإن لم تكن قادراً على ذلك سأتصرف” (ص64)

    لا شك أن حراك زينة السياسي، وتقديمها لنفسها بقوة قد لفت عبد الناصر، كما أن حيويتها، وجمالها الأخاذين جعلا من عبد الناصر الطلياني فريسة سهلة المنال أمام عنفوانها، وسحرها، فهو الذي أحس منذ أن رآها بجاذبية شخصيتها، وسحر عينيها، وامتشاق قامتها، وقد استيقظت أحاسيسه تجاهها دفعة واحدة، لم يستطع آنذاك مقاومتها مذ التقيا لمناقشة الطلب إليها، كي تخفف من انتقاداتها القاسية تجاه التيار الذي ينتمي إليه الطلياني، لكنهما من بعد ذلك أصبحا يلتقيان كثيراً، وقد تطورات العلاقة بينهما، وعقدا العزم أخيراً على الزواج، لتبدأ من بعد زواجهما رحلتهما المليئة بصخب الصراع الذي أراد الروائي المبخوت أن يبني عليه التاريخ المضطرب لحقبة من عمر “تونس”، والتحولات الاحترابية التي أصابت البلد داخل تياراته السياسية المختلفة.

    تلك كانت محاولة من الروائي “المبخوت” لجعل شخصية (زينة) المرأة الجميلة، والقاهرة لمن حولها، أقرب ما تكون إلى شخصية قوية (strong personality) ليس لها مثيل في واقع المرأة التونسية، أو بمعنى أصح بين كل نساء الراوي العليم عبد الناصر، اللاتي تحولن إلى فرائس، وطرائد له ولنزواته، وهي أي “زينة” في حضورها اللافت، كانت التعبير الأشمل، كما أنها التمثيل الذي يصور في ماهيته، شخصية المرأة المتمردة، والخارجة عن المألوف، بجمالها الساحر وقوة حضورها كشخصية تعتز بنفسها، وتدافع بشراسة عن وجودها، والتي قدمت نفسها بصورة لا تخلو من التركيب والقصدية، إذ كثيراً ما يتبادر إلى الذهن أن نبحث عن المكان اللائق الذي تستحقه شخصية “زينة” المرأة التي تحمل كل تلك التناقضات التي غرقت بها أنساق سردية الطلياني ومساردها، في الوقت الذي لا نستطيع إخفاء الحيرة التي تنتاب كل من يتقصى مفاعيل شخصية زينة، والتي لابد ستتحول بالضرورة إلى سؤال كبير قد لا نجد داخل أنساق الرواية، الإجابة الكافية عنه، وذلك لشدة التحولات التي انتابت تلك الشخصية، وجعلت منها شخصية مستديرة ومعقدة، كما أنها متعددة الأبعاد والمعاني (round character) يغمرها القلق، وتنتابها أحاسيس الهزيمة، والانكسار، أمام هول ما مرت به من مشكلات عديدة، ومؤلمة، وقد تبدى ذلك في ردها على الطلياني قائلة: “سري وورقتي مهتوكتان، شيء بغيض كريه في اللحم لا في الذهن” (ص103)

    لابد من التأكيد على أن شخصية زينة على الصعيد الفكري، والسياسي، شخصية “يسارية” كما أوحت بها سياقات مسارد الرواية، أما الجانب الآخر لحضورها (Presence) فهو البعد السحري الجاذب في شخصيتها، إضافة إلى جماليات شكلها الخاصة، وتَبدي خصوصيتها المائزة، وكما تقول الرواية:” تنحدر زينة واسمها الحقيقي (أنروز) من إحدى القرى البربرية بالشمال العربي. ولم يكن يعرف اسمها الأمازيغي إلا الأصفياء الخلص مثلي أنا وعبد الناصر، فقد فرض بورقيبة على البربر أن يسجلوا أبناءهم في البلديات بأسماء عربية …. كانت أنروز ممشوقة القوام كالرمح، وجه قمحي وضاح، شعر قصير سبط بتسريحة مميزة … ما يشد الأنظار إنما هو عيناها الخضراوان، خضرة، أخاذة غامقة …. ويقسم جل الخبيرين بالنساء من أصدقائنا أنها لو اعتنت بإبراز الحد الأدنى من أنوثتها لقلبت الدنيا رأساً على عقب، وربما بسبب من ذلك، حسداً أو اشتهاء أو تشفياً من هذا الجمال الذي يعسر الوصول إليه، لم يتوانَ خصوم طلبة اليسار من الإسلاميين، وغير الإسلاميين من تكنيتها بـ “عاهرة الثورة البروليتارية” أو بقرة القيادة الثورية” (ص49 ـ 50) في الوقت الذي نجدها بعد كل تلك الملكات الثقافية والفكرية، وكذلك معالم الحُسن الجاذب، والجمال الأخاذ الموشى بشغبها، وتشاقيها، ووعيها، امرأة ليست كما باقي النساء تمتاز بالمشاكسة، يضاف إلى ذلك أنها في حقيقة الأمر كانت عنيدة، وصلبة المراس، وليس لديها رغبة التغريد داخل سرب الاتجاهات اليسارية المختلفة، نتيجة نقدها الحاد، والصريح لكل تلك التنظيمات بأطيافها المختلفة، وهذا ما يجعلنا نتوقف عند تحولات حيواتها، ونتقصى كذلك مفاعيل سلوكها، من حيث أنها الطالبة الجامعية المشاكسة، واليسارية المتطرفة، وقد لفتت الانتباه داخل حراك الاحتجاجات الطلابية، دون أن تكون منتمية إلى أي حزب سياسي بعينه، وكانت تدخن السيجارة أمام الجميع، كما تصفها الرواية في الوقت الذي يذهب الطلبة الآخرون لممارسة التدخين في المراحيض ” كانت تجاهر بالتدخين ولا تدخن على غرار بقية التلاميذ فتياناً وفتيات إلى المراحيض أوقات الاستراحة كي تعمر رأسها. كانت تقف في ركنٍ من أركان الساحة صحبة أصدقاء لها من الأولاد والبنات يضحكون، ويتحادثون وهي وسطهم تمسك بسيجارتها كأنها أستاذة” (ص46).

   لقد تميزت “زينة” بصراحتها الواضحة التي سرعان ما تتحول في لحظة ما إلى درجة الوقاحة، لتبدو آنذاك شخصية إشكالية (problem) في الوقت الذي لا تقيم فيه وزناً لقوانين متعارف، ومتفق عليها، وإنما كانت تفعل ما تؤمن به، وتعتقد أنه التصرف الصحيح بعيداً عن أي قيد اجتماعي أو أخلاقي، وما انفكت تجاهر بصراعها مع السلفيين، والأحزاب الشيوعية التقليدية، وتكيل لهم الشتائم والسباب، وتؤمن إيماناً مطلقاً بحرية الجسد، والجنس، وتمارس متعتهما بمنتهى السعادة والحرية.” صارت تغادر المبيت، دون رخصة من الإدارة، أو الولي متى شاءت، وتعود إليه في أي ساعة تريد. قال لها المدير يوماً: لسنا فندقاً هنا. عليك الالتزام بالنظام الداخلي وإلا طردناكِ… أجابته: “حين تصلحون النوافذ المكسورة التي تدخل إلينا منها الرياح والامطار، وحين تنظفون المراحيض، وتقضون على الروائح الكريهة التي تنتشر في الممرات والأدراج وقاعات النوم … وحين تعتنون بصحة التلاميذ، ولا تكتفون بحبة أسبرين …. يومها تصبحون فندقاً مريحاً، لا يهرب منه التلاميذ. ـــ أنت وقحة سأطردك من المبيت والمعهد، ردت زينة على تهديده بتهديد أقوى. ــ إذاً أنت ستنتقم للقيم العام الذي لا أعرفه، أين ذهب؟ أنت “إخوانجي” أعرف ذلك، تكره المرأة وتعادي سياسة الدولة” (ص46 ـ 47)

     ذات يوم استدعي والد “زينة” إلى المعهد الذي تدرس فيه، لمناقشته حول وضع ابنته، وإخباره عن تصرفاتها، فكان رده حاسماً حين قال: ” إنه لا يتحكم فيها فهي ابنة بورقيبة الذي جعل النساء متقويات على الرجال والآباء والإخوة” (ص47) كما لم يتحرج أبداً حين أوضح للمدير “أنه نفض يديه منها، ولم تعد تكلمه منذ سنوات، لا تعتبره أباً لها، وأقسمت أمام العائلة أن الأم أكثر رجولة منه، كانت تنعته بالحقير السكير المتخلف ولولا بقية حياء لطردته من البيت” (ص47)

    مما لا شك فيه أن شخصية “زينة” القلقة على الدوام، كانت أشبه بالريح التي تعصف بكل من يقف في طريقها دون اعتباراً ولا استثناء، وهي في ذلك ما انفكت تبحث بلا هوادة عن استعادة (reconquest) كرامتها المهدورة في بيت أبيها آنذاك، وكذلك الإهمال الذي مُورس نحوها، وحرمها من حقوقها الإنسانية، وكرامتها جراء اغتصابها من قبل أبيها أو أخيها، أو شخص آخر من خارج البيت، في الوقت الذي هي لا تعلم أياً منهم قام بفعل ذلك الأمر في لحظة ما، وقتها لم تتمكن من الدفاع عن نفسها كما تقول:” كان أبوها وأخوها ينامان على الدكة يتصاعد شخيرهما من شدة التعب، ومفعول السجائر ولا شك، أما هي، فتنام على الحصير في الأسفل، وقد التفتت إلى حائط الدكة. أحست ليلتها أو فجرها، أو قبيل الفجر بسكين من لحم يخترقها من الخلف نحو الدبر والقبل مرة أخرى كان السكين ينزلق بفعل الزيت الذي دهنت به، أو بفعل ماء آخر سال من السكين، أو بفعل الدم الذي نزف منها، ووجدته على ملابسها، وفوق الحصير، حين استفاقت. لم تصدق. أرادت أن تلتفت، أن تصرخ، أن تبتعد بجسمها، ولكن السكين كان صلباً قاطعاً يتحرك داخلها كالمنشار. يدٌ على فمها تكتم أنفاسها تمنعها من الصراخ، والأخرى تلصق رأسها بالحائط، حتى تشل حركتها … من صاحب السكين؟ أبوها؟ أخوها؟ شخص آخر؟ لكن الرائحة تعرفها رائحة السنابل والتراب” (ص108 ـ 109).

    ذلك ما يجعلها شخصية مستديرة، ومتعددة الأبعاد كما أنها متكاملة (round character) تحتمل أوجهاً وأدواراً مركَّبة، وعديدة لكونها “شخصية تعويضية” في بنيتها وعمارة تفاصيلها، متغيرة ومتبدلة، وتعاني حالة الاكتئاب الذاتي (Self-sufficiency) تجاه العديد من المواقف التي تتعرض لها  في الوقت الذي نجدها لا تتوانى عن فعل كل ما يحلو لها كشخصية قلقة (anxious character) تحاول في كل مرة التأكيد لنفسها أولاً ومن ثمَّ للآخرين بأنها تمتلك حريتها، وكرامتها التي سلبت منها ذات ليلة، حين فقدت بكارتها بفعل سِفاح المحارم، (incest) وهذا ما جعلها تعيش حالة شك تجاه كل الثوابت التي تعلمتها، وتصب جام غضبها على “التيارات الدينية، والحركات السلفية الجهادية كما لم تتوانَ عن تصويب مدافعها الفكرية الفتاكة، والمؤثرة تجاه اليسار بعديد ألوانه الأيديولوجية المختلفة، إضافة إلى الحركات الطلابية، والنقابات المهنية التي وجدتها تغرق في الفساد، إذ كانت جلّ تصريحاتها وكلماتها ” نقداً حاداً عنيفاً لما تسميه الوعي الطلابي البائس، والحركات الفاشية ذات المشروع الديني الاستبدادي، واليسار بمركزيته المفرطة، وتشرذمه السرطاني، البيروقراطي. كانت ترفض الاحتراب الحزبي السياسي، وتعتبر عبد الناصر من هذا الصِّنف” (ص54) وكأن “الروائي المبخوت” أرادها أن تكون شخصية إشكالية، وأنموذجاً لافتاً لليسار السياسي، والفكري الذي وجد نفسه في متاهة معقدة غَيَّبت أهدافه، وقضمت قيمه الأخلاقية لتتحول شخصية زينة المعبرة عنه، والممثلة له بعد طلاقها من عبد الناصر التي كانت بالنسبة له وحسب ما سَرَّ به لصديقه المقرب:” تعرف هذا العقل الجبار الذي أمامك (يقصد عقل زينة) صوب لي أخطاء معرفية ومنهجية لم أتفطن إليها أبداً…. إنها شعلة من الذكاء … ولكن الراجح عندي أنه يجلس منها مجلس التلميذ أمام أستاذه خالطاً بين العلم، وموضوعيته، وما بينهما من علاقة ملتبسة” (ص290)   حتى إنها في إحدى المرات واجهت عبد الناصر، وأحرجته حين ردت عليه قائلة:” أنت تصادر رأي حقي في التعبير شأنك شأن نظام بورقيبة” (ص61).

     لكن الأمر بدا في خواتيم رحلتها مع عبد الناصر الطلياني لافتاً، ويحمل في طياته مأساة امرأة  داخل أنساق سرديتها، حيث بدت “زينة”  أكثر واقعية في مناقشة خارطة طريق تنهي علاقتها بالطلياني، وتسافر إلى فرنسا لتتزوج برجل فرنسي مُسَن يدعى “إريك” كانت قد تعرفت إليه حين كان أستاذاً زائراً يلقي بعض الدروس في الجامعة بتونس، وحين عاد إلى فرنسا بقيا على تراسل حتى في الفترة التي كانت متزوجة من الطلياني حيث بدت العلاقة بين زينة وزوجها الجديد “أريك” متناغمة، ومنسجمة، ولا تخلو من الود والمحبة، فهو على الدوام  يتأملها، ويداعبها كما دمية في الوقت الذي نجده يحاول إشعارها بالأمان، والاستقرار بعد أن انتقلت للعيش معه في باريس. على الرغم من فارق السن الكبير بينهما لكنه كان يعبر لها دائماً عن سعادته الغامرة في الوقت الذي نجد فيه الراوي الغائب (absent narrator) “صديق” عبد الناصر، وصديقها السابق أيضاً لا يتوانى عن نقل أخبار زينة الباريسية قائلاً:” والواقع أن القليل الذي عرفته عن زينة في تجربتها الباريسية، وعن حياتها مع إريك وبعض الأخبار التي أمدتني بها، أو حصلت عليها من باب الصدفة….. تمكنني من أن أتصور المسار المأساوي الذي سارت فيه، والنهاية المرعبة التي انتهت إليها … ذهبت من أجل أن تصبح مبرزة أو دكتورة أو أستاذة جامعية، فلم تحقق من حلمها إلا أن أصبحت تعيش في كنف إريك طفلة شقية يتلهى بها، وهو الشيخ المتصابي بمعاييرنا التونسية.. وعلى كل حال لم يعجبني المصير الذي آلت إليه زينة، لو بقيت مع عبد الناصر لكانت حالها مختلفة” (ص290).

   ولا يفوتنا هنا في هذا المفصل أن ثمة أمراً هاماً أيضاً ذكرته “زينة” كما يقول صديقها السارد المتواري (overt narrator) وكانت قد أخبرته به من قبل، وشرع  يفسِّر الأمر للطلياني قائلاً:” وقد فسَّرت لي زينة بعد أن ترددت في فرنسا على طبيب نفساني بأن الأمر كما قال لها الطبيب المحلل، يحمل ذكرى بعيدة من يوم سكين اللحم الذي خرقها، واعترفت أنها استراحت بعد ذلك بمدة قصيرة” (ص161) في الوقت الذي خسرت فيه زينة آخر أوراقها التي كانت تراهن على اللعب بها باسم اليسار، والتقدمية، والفكر الحر بصورة مباشرة وواقعية، وعملية أيضاً من خلال انخراطها بين الناس، ودخول التجمعات الشعبية والطلابية لممارسة الحق المشروع في التعبير عن حريتها، والمساهمة في توعية الناس، لكنها في حقيقة الأمر صُدمت حين لم تتحصل على النتائج التي كانت ترجوها، ورأت الفشل المُريع والداهم  بأم عينها مما جعلها تتحول عندئذٍ إلى الاتجاه الآخر كتجربة عالمية أو لنقل أممية وجدت ضالتها في فكر “اليسار الباريسي” الذي عمق حضوره الفكري ومظهر أبعاده الإنسانية في حياتها، وقد ساعد ها في ذلك زوجها الأخير الفرنسي “إريك”.

    تلك هي الصفات، والمفاعيل التي قدمت شخصية “زينة” ومنحتها أبعاداً سردية خاصة، ومتميزة انعكست بدورها على حراك الشخصيات التي دارت في فلكها الحكائي مثل شخصية “نجلاء”، وشخصية “إنجيليكا” اللتين تشاركتا معها مهمة اللعبة الأخلاقية، وبعدي الهزيمة، والانكسار في تجاربهم العتيدة مع الطلياني في السرير، أو خارجه أو في العلم أو غيابه جملة من المتناقضات دارت رحاها بيت الطلياني وفرائسه التي كانت على رأسها زينة الجميلة.

  ب ــ عبد الناصر “الطلياني”

    ليس أشدّ قذارةً، واتساخاً على الثياب والهيئة من عبد الناصر حين كان صغيراً سوى “بوك علي” هكذا كانت أخته “جويدة” تصفه كلما وجدته غارقاً في أوساخه، وقذارة هيئته:” كان “بوك علي” في خيال العائلة شخصاً يضرب به المثل. فحين يذهب الطلياني لينام دون أن يغسل رجليه، أو يتكاسل عن غسل يديه بعد الطعام أو يعود إلى البيت متسخ الثياب، أو حين تحك له أخته جويدة جسمه في الحمام، وتجد ركبتيه متسختين إثر الكجة كثيراً ما كانت تردد على مسامعه:” ما أكثر وسخك كأنك بوك علي” (ص28ـ29) تلك قذارة عبد الناصر في ثيابه، والتي سرعان ما تزول حال غسلها، والاهتمام بها، إلا إن الأمر المتعلق بقذارة مواقفه السياسية، أو الأخلاقية، فإنهما بالضرورة، لا يمكن أن تزول قذاراتهما وأوساخهما بالماء، والصابون، كما كانت أخت الطلياني جويدة تفعل بثيابه حال اتساخها، أو كما هي أجزاء من جسمه المتسخ، والأمر الأكثر إدهاشاً أن “القذارة” على الصعيدين الأخلاقي، والسياسي قد لازمتا الطلياني في مسار رحلته حتى مآلات خواتيمها أيضاً، في الوقت الذي كان يرد على المحتجين من الأسرة على قذارة ثيابه، وإهماله داخل غرفته التي ورثها من أخيه صلاح الدين قائلا: ” غرفتي وأنا حر فيها، أو أحب الأوساخ اتركوني وشأني، وإلا غادرت البيت دون رجعة” (ص34) .

     لكن ولكثرة ما كانت الأم زينب تلح عليه، وتأنبه من جهة، وكذلك أخته جويدة من جهة أخرى، وهما تنعتانه بالوسخ، وأنه شبيه بقذارة وإهمال “بوك علي” ونتيجة توتر الأوضاع بينهم تدخلت للآ جنينة زوجة الشيخ علالة  لتهدئة احتراب الأم زينب، والأخت جويدة مع الصبي عبد الناصر آنذاك بعد أن قالت أمه زينب للجميع :” لم يعد يعنيني أمر ولد الحرام” (ص37) ومن يومها صارت للآ جنينة المسؤول الأول، والأخير عن الطلياني دون غيرها: ” جنينة هي التي أصبحت تعتني به حتى في اغتساله وتدلله، وتشبعه قبلات حارة، وتضعه بين يديها وفي حجرها تلاعبه” (ص37) ومن يومها أصبحت للآ جنينة كل شيء بالنسبة له ” بدأ الطلياني يتعلم على يدي للآ جنينة ألواناً من فنون الجسد المختلفة، كانت معلمة ماهرة لم تخفِ عليه أي شيء، ولم تبخل عليه، أحَسَّ  أحياناً بالتخمة فقد كانت جنينة نهمة شرهة” (ص 39ـ 40) .

   لقد تعلم الطلياني فنون مراوغة، ومداعبة النساء، وخداعهن كما أدرك منذ صباه أن الخيانة مسألة ليست شائنة في بعدها الأخلاقي، وهي حاجة تُستخدم حين تدق ساعة الحاجة لها، كما أن الخيانة وقد ألفاها أسلوباً يحقق نوعاً من زهو التذاكي، والشعور بالأهمية القصوى حين خداع أحد ما، أو خيانته، وهو أي “الطلياني” كان قد استساغ فعل الخيانة، والمخادعة منذ أن سوغتها له مربيته للآ جنينة، وقد تعرَّف على كل تفاصيل خيانتها لزوجها معه هو، ومن قبله كان أخوه صلاح الدين عشيقها قبل أن يسافر إلى بلجيكا، ولربما غيرهما أيضاً: “عرف بالخصوص رائحة جنينة باعتبارها خلاصة روح الأرواح.. كانت تجلس قربه تتأمله وهو يراجع دروسه … تنظر إليه بعينين ساهمتين أحياناً حالمتين أحياناً أخرى. تبتسم له … لم يفهم عبد الناصر وقتها لِمَ كانت تفعل ذلك.. أصبحت للآ جنينة تزيد من احتضانه وتسرف في تقبيله وهو ابن الرابعة أو الخامسة عشرة من العمر. في البداية كانت تقبله كعادتها منذ صغره من خديه ورقبته، لكنْ شفتاها وهي تقبله صارتا كتلتين من لهب تلسعانه لسعاً لذيذاً …تمص رقبته برقة أحياناً وبعنف أحياناً أخرى” (ص38) 

    إن ما اكتسبه الطلياني في صباه على يد للآ جنينة، لازمه ورافقه في حيواته شاباً في الجامعة، وفي عمله كصحفي لامع من بعد ذلك إضافة إلى شكله الوسيم الذي لا يقاوم، وملكته المدهشة في لفت الأنظار نحوه، وهو غير منفك عن مراوغة جميع من حوله حتى إنه صار يشعر، ويحس أن ما يفعله هو فراسة، وخبرة بمعرفة النساء، ورغباتهن من جهة، ومن الجهة الأخرى وجد نفسه سياسياً بارعاً في إذاعة شعارات مخادعة تَعد بما ليس فيها حتى إنه بدأ يطلب من الآخرين تصديق شعاراته اليسارية، وهو أخبرُ الناس بكذبها، وخيبة أهدافها مما اضطر التنظيم السياسي الذي يتبع له الطلياني بالتحفظ على وجوده داخل التنظيم، واعتباره انتهازياً حيث إن:” من أهداف التيار القضاء على الانتهازيين وبالخصوص عبد الناصر الذي يتهمه الأستاذ بالانقلاب على مبادئ التيار وأكبر عيوبه أنه “بلدي” من العاصمة برجوازي صغير، حقير مستعد للتحالف مع الشيطان بما في ذلك الدساترة، والخوانجية للحفاظ على زعامته” (ص67) حتى تبدى له الأمر كما حالات من الضياع، والهزيمة، والانكسار بعدما تسربت إليه المعلومات القاضية باستهدافه، وطرده من “التيار” في وقت أدرك من خلاله أن لا شيء قابل للتحقيق من كل تلك الشعارات المخادعة، التي أطلق لها العنان في سماء الجامعة بين الطلبة، وعلى المنابر الثقافية، والسياسية المختلفة، وقد أدرك مبكراً مهزلة خواتيم تجربته السياسية.

    لذا كان الطلياني أول من أعلن الهزيمة، واستسلم لنزواته ممهداً الطريق لقبول معادلة الخلاص الفردي، الذي لا بد سيريحه من عناء القلق والتفكير بمستقبل تأكد من عبثية انتظاره واستحالة أن يكون له مكان فيه، وحين وجد الفرصة المناسبة تقبل فكرة العمل في صحيفة حكومية يفعل ما تريده منه، وفقاً لما يقارب نهجها الرسمي، والحكومي على الرغم من إبداء بعض التبرم بالرفض في بادئ الأمر، لكن في خواتيم تعنته يقبل العلاقة، وينصاع لما طلبه منه “سي عبد الحميد” المدير العام من أجل الكتابة عن البطل “بن علي” الذي عده المخلص، أو المنقذ من مرحلة “بورقيبة” حتى لو حاول تبرير الأمر وفق جملة من الشروط:” دعاه سي عبد الحميد وهمس في أذنه :” افعل ما تشاء ما يهمني هو الصفحة الأولى ودعم التغير وبن علي أفهت؟ هذا ليس عدداُ من الجريدة إنه موقف سياسي. انكب عبد الناصر على عمله، أعد تصميم الصفحات بسرعة مذهله.”(ص234)

    لقد كان للتبديات الأولى التي انعكست على سلوك الطلياني ثمة العديد من المتغيرات الجوهرية التي هيمنت بصورة، أو بأخرى على حيواته، فقد أصبح منذ قبوله التعاون والتشارك مع “سي عبد الحميد” شخصاً مطواعاً في حراكه، ومنصتاً بكل أناة إلى الهسهسات الإشارية التي كان يهمس بها المدير المسؤول عن الجريدة، وقد ألفاها ” الطلياني” لغة تؤدي دور فلسفة مفهوم الدولة، وسياقها التاريخي في رأسه الذي خضع لغسيل دماغ أنفق سي عبد الحميد الوقت الكثير لتخليصه من ذاكرته اليسارية الهشة والمنكسرة والمخذولة أيضاً لكثرة الهزائم في أهدافها وتقلب دعاتها، وهو “أي سي عبد الحميد” غير منفك يتلو على مسامع الطلياني وصايا الطاعة، وقد وجدناه وقتئذٍ في إنصاته، مسترخياً، وسعيداً في متاهات ملذات السلطة، وتباشير الخلاص الفردي الذي طمح له مؤخراً، حيث وجد سعادة لا توصف في معاشرة كبار المسؤولين:” الدولة أكبر كذبة صنعتها البشرية وصدقتها، الدولة هي أنا وأنت والسكرتيرة التي تبذل لي في المكتب جسدها دون أن أطلب ذلك لأنني أمثل الدولة في عينها. معروف منذ القدم أن الدولة أمارات وعلامات، ولكنها لا تلمس أنها إله خفي لم يحقق أخد وجوده لا يرى، لذلك يحبونه ويكرهونه” (ص212)

    ما من شك أن الطلياني كان مدركاً للعبة التي جذبه نحوها المدير العام “سي عبد الحميد ” منذ البداية كما أنه أحس بمقدار، وأهمية سي عبد الحميد، وتأثيره على نجاحه في عمله، أو لربما طرده من وظيفته التي بدأت ثمار لعبتها القذرة تنضج، وسيحين بالضرورة قطافها، فراح ينصت من جديد إلى تعليمات المعلم الأول، والصديق الوفي سي عبد الحميد في الآن ذاته:” الصحفي الحقيقي هو الذي له صلات بالداخلية.. بالكبار فيها يتزود بالمعلومات ليعرف اتجاه الريح. لابد له من علاقات مع دوائر القرار شريطة ألا يصبح واشياً قواداً نماماً رخيصاً، فتغلق دونه حنفية الأسرار، ولحاساً متزلفاً حقيراً، فيركل ويرمى خارج الدائرة” (ص157) في حين من ذلك لابد أن يفهم الأمر على أنه رسالة وجهها سي عبد الحميد بصورة مبطنة، وغير مباشرة كعادته إلى عبد الناصر بعد أن تمكن منه وجذبه نحو التغيير الذي يراد له أن يكون فيه فاعلاً: ” فهم عبد الناصر أن سي عبد الحميد قد أطبق عليه السُّكر. كان يعرف ذلك إذا أصبح متطرفاً في أفكاره يعمم ويسعى إلى البرهنة على تعميماته. كان يحتقر الشعب ولا يؤمن إلا بالنخبة، ولا يأسف إلا على انحدار النخب إلى مستوى الرعاع في طريقة التفكير والطموح والأحلام الصغيرة ومما كان يعجب عبد الناصر في الرئيس المدير العام أنه لا يستثني نفسه من هذا النقد القاسي حين تبدأ آلة عقله الكاسحة، تزيل كل ما يوجد أمامها” (ص211) 

    على الضفة الأخرى كأن جذوة الخيانة، والغدر قد استيقظت في أعماق الطلياني دفعة واحدة حين زار برفقة زوجته زينة أخاه صلاح الدين في سويسرا، وتعرَّف في سهرة الليلة الأولى لوصولهم على أخت زوجة أخيه صلاح الدين المدعوة “إنجيليكا” لتبدأ آنذاك لعبة نصبِ الأشراك، والفِخاخ بأسلوب رقيق ودافئ تعود على استخدامه عبد الناصر حين تصطخب في رأسه لذة الخيانة، والغدر في الوقت الذي لم يُقِمْ فيه أي شكل من أشكال الاحترام لزينة زوجته، وحبيبته، وقد شرع ينصت إلى انجيليكا وهي تهمس له:” تراني مبتهجة دائماً.. “لا يغرنك” تلك طريقتي في تجاوز وجعي.. لست قديسة” (ص137) صحيح أن الطلياني كان المبادر دون شك لكن إنجيليكا كانت أيضاً تحاول غوايته، وقد شرع كل منهما يستدرج الآخر دون أي التفات لمن حولهم مما استدعى أخاه صلاح الدين إلى طلب الحديث معه على انفراد هامساً:

      ” همس في أذنه: ـ أعرف أنك انجذبت إلى إنجيليكا ولكن كن كيساً ولا تثر غيرة زينة

       ـ لم أفعل شيئاً يثير غيرتها، كنت أتحدث معها بل أستمع إليها

       ـ لا وقت للنقاش. كنت جذلاً وأنت تنصت إليها وكانت زينة ترمقكما بين الفينة والأخرى” (ص134)

    من المؤكد أن صلاح الدين أعرف المقربين من غيره بأخيه الطلياني، كما أنه الداري، والخبير بما يفكر أخوه المتحفز، وهو يحيك شباكه وأشراكه لاصطياد “إنجيليكا” لكن الطلياني وعلى الرغم من تحذير صلاح الدين المبطن له ولأنه يعلم أن التحذير من أجل أن لا يكتشف أمره أمام زينة، ولم يكن قصد صلاح الدين ثنيه عن الاقتراب من “إنجيليكا” أو منعه عنها، وهذا ما جعله يشعر بموافقة أخيه صلاح الدين على الأمر أو حياديته أصلاً أمام  مسألة رغبة معاشرة أخت زوجته، لأخيه، وهذا ما جعل الطلياني يقدم على الانفراد بها بعد أن ذهبت زينة إلى غرفتها:” غادر الجميع قاعة الجلوس إلا إنجيليكا وعبد الناصر على أريكتين متقابلتين، غيرت مكانها التحقت بالأريكة التي يجلس عليها.. نظرت في عينيه وسألته إن كان يريد جعة أو كأس شمبانيا.. كانت لطيفة معه، كانت جمراً يلتهب موقداً بلا رماد يتقد حطبه اتقاداً، غمرته بأنوثة مميزة شفتان تحدثان دغدغة في الجسم كريش نعام.. كانت تؤدي دورها بحماس وابتهاج ووجع.” (ص138ـ 139)

    كل ذلك جرى بعيداً عن عيون زينة، وقريباً منها، وهي التي يعتبرها الطلياني الحبيبة الخالدة، والأزلية في أعماقه، ولا ينفك عن مغازلتها بين الفيفة والأخرى، وكذلك الإشادة بجمالها، وسحرها الأخاذين إضافة إلى مديح تجربتهما، ورابطهما المقدس عبر زواجهما ومصيرهما المشترك في الوقت الذي تتمظهر خيانة جديدة للطلياني من خلال علاقته الصادمة مع “نجلاء” صديقة زوجته زينة، والتي سرعان ما تتحول إلى لبوة شرسة، وهي تدافع عن صديقتها لكنها في الآن ذاته لا تدخر جهداً أمام قبول خيانتها مع الطلياني: ” كانت متنمرة في الدفاع عن زينة بشكل لم يتخيله. تخونها مع زوجها وتدافع عنها” (ص255)

   يومها تحول الطلياني إلى حالة من الاستجابة المطلقة أمام نجلاء التي اقتلعته من جذوره، وقد تبدت كما ريح عاصفة كلما انتابتها رغبة لقاء الطلياني تسارع دون رادع أو تحرجٍ إلى خلق أي مناسبة من أجل زيارة صديقتها زينة:” ظلت نجلاء بهية سخية تعرف ماذا تريد من الطلياني. تمنحه كل ما ينقصه وأكثر، ولا تزعجه في حياته. تعرف متى تظهر له ومتى تختفي دائماً متجددة لا يؤثر فيها كرّ الأيام، ولا يمسُ روحها الحلوة المرحلة. فتنة بعثها الله للطلياني” (ص252) وعلى الرغم من ذلك أحس الطلياني في لحظة ما بالذنب، وقد امتد في باله شريط خياناته كلها، وكأن رائحة للآ جنينة في ذاكرته، كما مفاعيل عصف سرعان ما يتحول إلى دافع يتضوّع رائحتها على الدوام، كلما نبتت في طريقة امرأة جميلة، وساحرة، كما هي نجلاء التي حينما خان زينب معها في بيت الزوجية. تحولت تلك الليلة المجيدة التي قضاها معها إلى ليلة ليلاء، حيث نامت في أحضانه، وعلى همس نجلاء الجميلة، والساحرة وفي فراش صديقتها المقربة زينة، غرق الطلياني في خيانته التي استساغ طعمها اللذيذ، وسعى كمن أصابه مَسٌّ من الجنون وشرع يعلن أمام نجلاء عن رغبته القاتلة في أن يزيد إلى ملتقاهم هذا ليلتين إضافيتين معها في فنادق الحمامات:” اقتربت منه، ورسمت على وجنته بشفتين مرتعشتين قبلة، أغمض عينيه يتصنع التخدر. قال لها وهو يرد القبلة على خديها بأحسن منها ـ ما أطيب رائحتك… وما أرق قبلتك! كفى، قرصت يده، وأسرعت تقطع الطريق” (ص181)

       لم تُظهر نجلاء من أخلاقيات الصداقة، والوفاء إلا تبرير خطوات خيانتها لصديقتها، وفق أخلاق العاهرات وبنات الكار حين يذهبنَ في تبرير أفاعيلهُنَّ بحججٍ ما أنزل الله بها من سلطان فهي التي:” احترفت العهر ببطاقة شبه رسميّة. أصبحت تلعب في ميادين واسعة مع قروش كبيرة في المال والسياسة. صارت المفضّلة لدى المناضلة الكبيرة في جمعيّة الأمّهات، تدفعها إلى أن تكون أمّاً لكلّ يتيم من أبناء بن علي تساعده حتّى يؤدّي مهامّه الجليلة من أجل الوطن في دولة التغيير المبارك والعهد الجديد السعيد” (ص294)  في الوقت الذي جعلت نجلاء من مسألة عدم الوفاء لزينة يعود إلى انشغالها بالدراسة، وطموحها للتحصل على الدكتوراه، وهذا كان سبباً كافياً لإهمال زوجها المسكين والمظلوم “عبد الناصر” الذي ما انفك هو الآخر يسوق أعذار غدره، وخيانته لزوجته زينة، ويبرر على مسامع نجلاء عبر خطابه الكاذب، والمراوغ كما خطاباته السياسية على الرفاق في التيار، وكأن المسألة مجرد مقاربة، يبرز كل منهما الأسباب الموجبة التي دفعته للغدر والخيانة، في الوقت تتبدى علينا سرودات شخصية “نجلاء” صديقة زينة بعد تعرفها على الطلياني، من خلال زيارتها لهم في منزلهم. حيث يعرف عبد الناصر بعد أن يدور بينهما حديث حميم أن نجلاء مطلقة، وهي صديقة أيضاً لصاحبة وِكر ترفيهي للمسؤولين يخص الكبار في الدولة، وهي تعمل موظفة فيه بصفة مسؤولة علاقات عامة، بيد أنها، وبعد فترة، وجيزة تحولت إلى عاهرة تتنقل بين أحضان كبار المسؤولين في الدولة، وضباط الأجهزة الأمنية والعسكرية، والكثير من رجال الأعمال والتجار الكبار في البلد.

     أما وِكر العلاقات العامة، فهو” صالون لتصفيف شعر السيدات” وكانت المسؤولة عنه سيدة تدعى الحلاقة، لم تترك أثراً لها في السرود سوى إشارة مواربة تشير إلى أن الشخصية المقصودة ربما تكون هي السيدة الأولى “ليلى الطرابلسي” التي وصلت من خلال وكرها هذا إلى تاج قرطاج كزوجة للرئيس زين العابدين بن علي. ذلك ما جعل الطلياني يعيد النظر في علاقته الحميمة بنجلاء، حيث: ” انتهى كل شيء بين عبد الناصر ونجلاء، وبدون ضجيج، لأنه أصبح يعافها، ويشم في جسدها روائح عفنة لأصناف من الرجال الذين لا يطيقهم رغم ليترات العطور التي تستحم بها”(ص295)

    لكن في الجانب الآخر من سردية طرائد عبد الناصر، وضحاياه من النساء، تنبت في نهاية الطريق شخصية “ريم” الفتاة الجميلة الفارعة الممشوقة، وإصباحة وجهها الوردية، في الوقت الذي أعرب الطلياني لها عن رغبته أمام جمالها الساحر مشاركتها معه في مسلسل تلفزيوني يستعد له، وفي لحظة مارقة مرت في ذاكرته رائحة اللآ جنينة، التي ظلت كما هوسٍ يلازم رغبته حينئذٍ تحول الطلياني إلى مخادع، أمام  فتاة  تحلم بالنجوميّة والشهرة، ولا تجد عيباً في ممارسة الحب مع رجل وسيم، وله جاذبيته الخاصة، كما عبد الناصر في الوقت الذي لن يبخل عليها في مساعدته اللامحدودة، من أجل صقل مواهبها وإدراكها، ووعيها الثقافي وعلى يديه أيضاً لابد أنها  ستتعلم الكثير من معايير الإحساس، والتحرّر، وقيمتها كأنثى لها مكانتها، ومقدارها في الحياة
وهي في حضورها الخاطف، كما “القشة التي قصمت ظهر البعير” إن صح التعبير. فمنذ أن فقد الطلياني زينة الفيلسوفة أصبحت له خارطة طريق خاصة للتصالح مع ذاته، وانكساراته، وهزائمه أيضاً فقد: ” قرر الطلياني بعد خيبته مع الفيلسوفة ألا يهتم بحليب يشتريه بالجملة، بل يكتفي بالتفصيل. سيبقى ثوراً ينتقي من هذه المزرعة الكبيرة أحلى بقراتها” (ص302)  

   فهي في حقيقة الأمر ضحيّةٌ أخرى استدرجها الطلياني كما فريسة إلى مختبر شهواته في المزرعة، مستغلاّ طموحها في دخول عالم التمثيل، وهي التي كما تقول السردية “سكنت رأس الطلياني”(ص304) وهي أيضاً من ساهمت، وكانت سبباً في ظهورات مفاعيل استدعاء صورة الشيخ علالة المُغتصِب للطلياني، كما أنها التي أيقظت، وأشعلت نيران، وحرائق مشهد اغتصاب الطلياني من قبل الشيخ علالة، حين كان صبياً وقتما كانا معاً على السرير يهمانِ ببعضهما متوثبان نحو فردوس الحميمية، لكن وقع الحديث الذي دار بين ريم، وعبد الناصر في فراش الحميمية فعل فعلته وكان كما فأس وقعت على رأسه:” لا لا أنا عذراء! استدارت فهم أنها تعرض عليه شيئاً آخر، جن جنونه ولكنه لم يحرك ساكناً. لم تكن تنظر إليه، لم تفهم ما وقع التفتت إليه وجدته شاخصاً بعينيه شارد الذهن، كمن يستذكر شيئاً سألته: ما بك؟ لم يجبها” (ص316)

   لا شك أن الصورة التي ظهرت بها شخصية “ريم” داخل أنساق السرود (Layout narration) الروائية خَلَّف آثاراً مهمة على تركيب، وتخليق، ونَماء شخصية فتاة في مقتبل العمر، تستطيع بغوايتها الإيقاع بالطلياني الذي استكان لحبال سحرها، لكن ما حصل في السرير بينهما كان أمراً صادماً بالنسبة إلى عبد الناصر وذلك ما جعله يستعيد في تلك اللحظة ما أحس به وقتذاك، ويبوح بإحساسه لصديقه القديم الذي شرع يسرد هو الآخر ما قاله الطلياني مستذكراً: ” كان مترنح بطنه ابتلعت آلته”(ص317) في الوقت الذي كان الراوي المتواري أو الغائب (overt narrator) صديق الطلياني يسرد ما قاله عبد الناصر بألم وحزنٍ شديدين، وقتما شرعَ  يصف مشهد الطلياني، وهو يجهش ببكاء حار دفع صديقه القديم للقول: ” كان يتكلم، ويبكي وأنا لا أعرف ما أفعل لم يكن من اللائق أن أكذبه نعم أنا صديقه، ولكنني لست طبيباً. حاولت أن أفسر له أنه مجرد شعور، ويجب مراجعة الطبيب، فلعله اضطراب نفسي نتيجة عجزه عن مجامعة ريم. كان يصر على أنه ذكرى رجل، فلم يعد قادراً على تحريك ساكن من جسد امرأة، كان مصراً على أن ما يتدلى بين فخذيه مجرد حبل مترنح في أحسن الحالات” (ص 317ـ 318)

    إن مسألة خواتيم العلاقات الجنسية، أو الحميمية التي يقيمها الطلياني مع من تَعرَّف عليهن من النساء على تنوع تلك العلاقات، وتعددها واختلافها، فهي في حقيقة الأمر ليست سوى إجرائية لها متواليات تشكل أبعاد صورة البنية العميقة (deep structure) التي ما انفك الطلياني يحاول استخدام سياقات مختلفة للتعبير عن حالة نفسية تعويضية (psychological compensation) في بنيتها، وماهية تفاصيلها من خلال تفعيل معايير تقوم على إيجاد إجرائية يتحقق من حلالها تظهير بدائل لحبيبته “زينة” التي فقدها بعد أن تخلت عنه، لتكون خواتيم مشهد غيابها حالة من الضياع والتيه، وكما يقول صديق عبد الناصر، ومن منظار رؤيته الخاصة:” إن الطلياني قد أضاع الجهات الست بعد طلاقه من زينة، دون أن يفقد عقله تماماً، أصبح كل يوم يبحث عن طريدة جديدة، لم يكن يهتم بسنها أو جمالها أو صفاتها أو ذاتها. أتصور أن بيت صلاح الدين بحي النصر أصبح مبغى وحانة، إلى أن ذهبت بعقله لأمر ما ريم” (ص300)

    منذ أن غابت زينة عن ناظري الطلياني بعد انفصالهما، سرعان ما استبد به الهاجس القديم متمثلاً بشخصيتين هما (اللآ جنينة والشيخ علالة) وما تركته صورتهما من آثار بليغة ومؤلمة، شكلتا داخل حيواته العديد من التوقفات المؤلمة، ومفاصل المراحل الأشد قسوة وقهرية، والتي جلبت له أيضاً الكآبة والضياع، بين غوايات النساء اللواتي أغرقنه بتيههن، في الوقت الذي كان :” حلم الطلياني أن يترك أثراً فنياً ما دامت زينة قد حرمته من أن يصنع معها رائعة من لحم ودم تثبت له أنه قد مرَّ من هذا العالم، وترك أثراً بديعاً” (ص306) إلا أننا لم نجد مما حلم به الطلياني إلا المزيد من الضياع والتيه والهزيمة والانكسار، وقد بدا أمر انهياره الصحي، والنفسي يتبدى عليه أمام من هم حوله، ومن كانوا يعرفون كيف كان الطلياني، وكيف أصبح حاله الآن، حيث تحولت حكاية ضربه للشيخ علاله يوم دفن والده، حكاية تلوكها كل الألسن،  وقتئذٍ لم تنفك نسوة الجيران في الحي عن تهامسهن على أبواب بيوتهن، وهن يستعدن حكاية عبد الناصر، والحال التي وصل إليها:” لا أحد يجرؤ على أن يتحدث إلى عبد الناصر، فقد انهار إثر الحادثة …. شحب وجهه وذهب ألقه، ونحل نحولاً مرضياً بعد أن غرق في الكحول، والسجائر والعزلة”(ص11) لكن الأمر الأكثر أهميةً في هذا المفصل، وقد شكلت أنساقه السردية نقطة تحول في سلوك عبد الناصر الذي بدا أكثر حميميةً تجاه أخته (يسر) “التي يَكنُّ لها محبة خاصة … كانت تردد. اعذروا عبد الناصر. كل إنسان وظروفه”(ص8) ذلك ما جعل عبد الناصر يحرص، ويخاف عليها كثيراً مما جعله يعجل في فتح حساب بريدي جارٍ باسمها، إبان فترة محنته التي كان مجبراً فيها على طلاق زوجته زينة:” فتح لها حساباُ جارياً بالبريد تجمع فيه أموالها، وحين كانت تستكثر ذلك كان يجيبها: ـ أريدك أن تشتري لجهازك أفضل ما يوجد … كانت تضع رأسه بين يديها، وتقبل جبينه، وقد اغرورقت عيناها دمعاً … وهو يستعد للطلاق من زينة قالت له … يا حسرة عليك أنت سيد الرجال … ابتسم ابتسامة صفراء، ورد عليها: أنا الذي غير مناسب، تأكدي مما أقول .. أنا لا أصلح لشيء البتة”(ص11-12) تلك كانت خواتيم عبد الناصر الطلياني،بقضها وقضيضها، ليعترف آنذاك أنه لا يصلح أن يكون، كما وصفته أخته يسر، لأنه في حقيقة الأمر فقد كل شيء بعد أن تخلى وزينة عن بعضهما وافترقا.

3ـ سردية الجسد وشياطين تفاصيل الثالوث المحرم:

    لم تدخر سردية الطلياني جهداً من خلال محاولتها اللاهثة في إيجاد آلية تمكنها من الاشتغال والعزف على مآثر الثالوث المحرم (Forbidden Trinity) “السياسةـ الدين ـ الجنس” والتنامي الحكائي الذي يخلفه ذلك الثالوث داخل تفاصيل منظومة الأبعاد الأساسية لسيمياء السرد، وتجاذباته الثرية والمتعددة، والغنية أيضاً بإشارياتها (denotative) التي لابد سينعكس حضورها اللافت على آلية تأثيث البعد التاريخي المباشر، الذي تحول بصورة لافتة مع سيولة الحكاية وتناسلها، وتداخل أبعاد معايير سرديتي المعنى، والهدف فيها إلى بعدٍ إشكاليٍّ مركبٍ، من حيث إن شخصيات الرواية التي هي الأخرى ما انفكت، تجاهد وتحاول، وهي تشتغل على ذاك “التابو” (taboo) بكل ما ملكت أيْمانُ رواية الطلياني من لغة حكائية بارعة اتسمت بجاذبية خاصة، وكذلك بقدرتها على تأثيث معادلة شد القارئ نحوها، عبر كثافة سيولة مشاهد، وصور “التابو” ومتواليات صراع، واحتراب التيارات السياسية التي تقوم بالأساس على المقارعة والصراع بين اليسار واليمين، وما بينهما بكافة أصنافهم، وتلاوينهم، حيث بدت تلك الإشكالية الاحترابية أشبه بساحة واسعة ممتدة يحاول كل طرف من الأطراف إثبات الحقيقة، كما يراها، ويتصورها، إلا أن رواية الطلياني التي لم تكن تمتلك أصلاً أدوات مفاعيل السرد الدائري، ولا محددات العودة إلى نقطة البدء السردية كما مجاز مفتوح (figural) على كل أوجه التأويل، لذا وجدنا رواية الطلياني قد تحولت فيها المسارد، وأنساقها الحكائية إلى جملة من الوقائع، والأحداث ذات التكثيف (Condensation)الحكائي العالي، والتي امتلكت جراء ذلك  حضورها الآسر، مما أوجد الأسباب التي جعلت منها سردية متماسكة، لا تروم الخروج من متاهتها، وهذا ما جعلها أيضاً منصة للتعبير الذي يعد من وجهة نظرنا، منصة مختلفة في جوهرها وماهية حضورها، بعيداً عن منبر الوصف (description) السردي، وإشكالياته المختلفة، إذ لابد من مفاعيل تسم الرواية بميسم الخصوصية، والتحفز المتيقظ، داخل الأبعاد الوقائعية الخاصة التي يَتَخلَّق في دوامتها التركيبية، جلّ الشخصيات السردية، كما أنها لا بد ستحقق الانفتاح على جملة من المتتاليات (sequences) المكانية الأخرى، قد تختلف في النمط والأسلوب، لكنها في حقيقة الأمر تمتلك بشكل عام فضاءً مكانياً يكون حاضنة لبنية خصوصيتها، في الوقت الذي لابد أن يكون فيه منطلقاً، ومنصةً تنبعث من خلالها حُظورات الفضاء الروائي الأشمل، والأوسع، وهذا ما يمنح السردية بصورة خاصة مقدار مكانتها، ووظيفتها التعبيرية (expressive function) وكذلك مدى تأثيرها، وبراعتها في استلهام الأبعاد الإنسانية التي يقارعها (الثالوث المحرم) ويجعل منها ضحية استناداً إلى معاييره، ووصاياه القهرية (compulsively) حيث لابد من تطويع تلك الإشكالية المركبة لخدمة سردية الرواية ليس إلا.

   لقد تعثرت رواية الطلياني، ولم نتحصل من مفاعيلها الحكائية على لوافت (Draw attention) مهمة، تحاكي موضوعاتها المتعددة، والمختلفة، إضافة إلى أن أبعاد سرودها الأساسية قد لعبت دوراً ضحلاً هي الأخرى في تنضيد الأسئلة الكبرى التي كان من المفترض على الرواية أن تتصدى لها، إلا أنها في حقيقة الأمر لم تُمَكِّن موضوعاتها الأساسية، الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية من التمظهر، والتجلي(manifestation) بصورة منطقية داخل مشاهد حكاياتها التعبيرية، في الوقت الذي لم نتحصل من السردية إلا على النزر اليسير، بما يتعلق بمعايير (الثالوث المحرم) على أهميته، حيث لم يتجاوز الأمر إلا مروراً عابراً في خضم إشكالية كبيرة، كان لابد على الروائي “المبخوت” أن يوليها الاهتمام، والحرص الشديدين، لما لهما من ثِقَلٍ أساسي في تنظيم العلاقة بين تفاصيل حضور (الدين، والسياسة، والجنس)، كمفهوم يحدد ويرسم أبعاد  علاقته بالشخصيات الروائية التي تمظهرت ضمن الملعب الرحب للسرود من أجل تكوين الأبعاد السردية التي تُعد ماهية، وبنية حكاية الطلياني، والشخصيات الدائرة في فلكها، والذين كانوا جميعاً حاضرين كشخصيات لها مهماتها، وشجونها السردية اعتماداً على تفاصيل، وأبعاد ذلك “الثالوث” والذي ما انفك هو الآخر يشكل الأسباب الرئيسة في عملية تحفيزهم على التسريد، إضافة إلى تمظهر حضورهم ككينونة للحكاية الكبرى، وأبعاد حضور ماهية بنيتها العميقة (deep structure) التي شكلت انعكاساً لحيواتهم كشخصيات سردية فاعلة من خلال تماهيها بمقاربة تعدد الأصوات (poly phonic narrator) داخل متون رواية “الطلياني” التي أرادت أن تحمل عبء مواجهة الثالوث المحرم بسلاح “الحرية الفردية” (individual freedom) دون غيره من الأسلحة المختلفة، والتي لها مقدرة كبيرة لا يستهان بها هي الأخرى على مقارعة (تابو) ذلك الثالوث العتيق المتجدد الذي اكتسب صفات العنقاء من خلال استمراره في السياق التاريخي للأمم ،والشعوب في الوقت الذي أدخلتنا سردية الطلياني في مسألة خلافية تتعلق بمعايير الحرية الفردية، والحرية بمفهومها الواسع (Broad and general freedom) وأيهما لابد من تحقيقه في البداية، للتحصل على  محتوى (content) الآخر من خلال تلك اللعبة المركبة، والمعقدة في تداخلها، وتواشجها.

   إن سيرية الشخصيات داخل أنساق رواية الطلياني، وفق أبعاد الخطيئة، وانعكاسها التكفيري على سلوك معايير الشخصيات، تُعد من السمات الأساسية التي تقوم عليها موازين معادلة لعبة مفاعيل نماء الشخصية السردية، ومنحها حيوات منطقية لحضور يحقق لها تاريخاً، وسلوكاً تستطيع من خلالهما إيجاد صورة تَمظهرها المؤثر، وفق الدور المرسوم لها، وذلك ما يجعلنا نحدد مفاصل تَرْسُم تبديات الشخصية اعتماداً على العمارة السردية (Narrative architecture) لسيريّتها التي تعتبر المدخل البنيوي الذي نتحصل من خلاله على التفاصيل التي تختفي خلفها شياطين الحكاية، وأهدافها ومتوالياتها.

    ما من شك أننا أمام ذهول المفارقة، لا بد أن نجد، ونلمس ملامح حضور صورة ما من خلال استحضار الماضي العتيق (retrospection) للعديد من هذا الحشد المنتخب من الشخصيات المَرضيّة، والتعويضية، عبر وقائعها التي عانت الاكتئاب جراء ماضيها المؤلم، وتاريخها المثلوم، والمكلوم في الآن ذاته، إضافة إلى غرق المشاهد السردية، لرواية الطلياني في أتون المتاهات الأخلاقية ضمن العديد من المقاربات التي تتعلق بــ سفاح المحارم، وكذلك الشذوذ الجنسي(Incest and Homosexuality) واللواطة، والدعارة أيضاً، في الوقت الذي كانت كل تلك المقاربات تغرد تبجيلاً للجسد، وقرائن الغرائز التي تحولت عبرها إلى عائلة سردية وطدت علاقاتها الملتبسة مع الحالة الملتبسة ليس إلا  ودون اعتبار للمشهد السردي، الذي توافق مع  معادلة “الأيروتيكية” والتي شكلت هي الأحرى عماد رواية الطلياني، ومصدر جاذبيتها، ومقتلها في الآن ذاته، في الوقت الذي كان على رواية الطلياني أن تثير زوابع الأسئلة الكبرى داخل متونها التي اكتفت بأن تكون مسرداً وثائقياً (narrative Documentary) يجتر وقائع تاريخية بعينها، كما أنها أردفت السردية بالعديد من الشخصيات التي اعتبرتها ثانوية، في الوقت الذي لمسنا في تلك الشخصيات من خلال تقرينا لها، ما يشير إلى أنها حمالة لمَعانٍ كبيرة، كان من الممكن الاشتغال عليها، وتفعيل أدوار حكاياتها القابلة للتنامي السردي (narratable) داخل مسارد الرواية، وكما يبدو فقد تمت محاولة انتخاب تلك الشخصيات بعناية من أجل التعبير عن هواجسها السياسية، واللاهوتية، والجنسية أيضاً ضمن إطار المجاز الفني، والرمزي للسردية وأنساقها الروائية.

    إن الاضطراب البنائي الذي غرقت به العمارة السردية (Narrative architecture) داخل متون رواية الطلياني تمظهرت إشارياته، عبر العلاقة الإشكالية التي طغت على تفاصيل السرود بين عبد الناصر، وطرائده من النساء (اللآ جنينة ـ زينة ـ نجلاء ـ ريم) إضافة إلى اعتقاد “عبد الناصر” المشين تجاه صورة المرأة بصفة عامة، امتثالاً لما كانت عليه قذارة “بوك علي” إذ تبدت مقاربة تلك المسألة في نظرة عبد الناصر الفحولية (virility) وهواجسه الجنسية تجاه أي علاقة تنشأ بينه، وبين أي امرأة يأنس لها، وتأنس له، وإن حضور المرأة في سياق حيواته السردية المتعلقة بحقوقها أو حريتها، ليس أكثر من زبد، وادعاء كاذب، ومراوغ كما هي لعبته في خطاباته السياسية، وشعاراتها المخادعة وقتذاك، في حين من ذلك نلمس حالة الانكسار الوجودي الكبير الذي أصاب البلد، وأخذها إلى متاهة بحر الظلمات، استناداً إلى مجموعة من التقصّيات، تم تحديد مفاعيلها ما بين مرحلتين كانتا مفصلاً حقيقياً، حمل بين طياته السؤال الكبير الذي تطرحه الرواية، كما عادتها في الأعمال السردية الهامة، والمؤثرة، في الوقت الذي لم نتحصل على السؤال الكبير، وفق ما أذاعته سرود الطلياني، في الحين الذي لم نلمس من خلاله حضوراً لافتاً يشير إلى السؤال الهام الذي كان على الرواية أن تشهره في وجه الحالة الغامضة التي خلفتها خواتيمها، على الرغم من جاذبيتها، وحيوية موضوعاتها الوثائقية.

    لا شك أن سردية الطلياني خرجت من عنق زجاجة الرواية التقليدية، والكلاسيكية الطامحة عبر معادل “الثالوث المحرم” إلى ابتسار مشاهد، وحكايات، ونمنمات شهوانية “ايروتيكية” (erotic) مع بعض التحديث في سياقات العجائبية، والغرائبية، حيث لمسنا نثار توضعاتها هنا وهناك، وعلى الرغم من ذلك، فهي لم تحقق اختراقاً تجديدياً وحداثوياً متكاملاً في اللعبة الفنية لكتابة السرود المَكينة، واللافتة، بيد أنها حاولت لاهثة تفعيل حالة خلخلة الزمن السردي، ودفع مفاعيل حالة الانزياحات (Displacement) المتفرقة، والعديدة إلى معايرة يهيمن عليها البعد التكثيفي (Condensation) ومتوالياته المختلفة، لكنها سرعان ما كانت تعود إلى لغة الإخبار، والتسريد الفائض، مكتفية بالوصف المشغول بدربة الروائي الخابر، وحذاقته في استحضار وقائع تاريخية لائذة، ومنسية، إذ تحول الروائي من خلالها إلى مركز أرشيف مبوب، ومفهرس يُعنى باستعادة وقائع، منسية وأحداث جرت في الماضي (retrospection) يعود إليها كلما اقتضت حاجة السرد التوثيقي، ليحضر منه ما يريد من الاستعادات المختلفة، وكل ما يتعلق بالماضيين، السياسي، والاجتماعي لتونس، دون الأخذ بالاعتبار أن ما يتم تحويله إلى مفاعيل السردية ليس أكثر من واقعة ماهيتها مفاعيل تسجيلية، ومسرد للتوثيق (narrative Documentary) ليس أكثر.

   لقد عانت بنية الشخصيات السردية داخل متون مسرودات رواية الطلياني من إشكاليات عديدة بدأت بعوز تأثيث حضورها المنفرد بذاته، لتتحول إلى مفاعيل سردية مستقلة عما يحيط بها من الشخصيات الأخرى، بصورة مباشرة، بمعنى أنها كانت شخصيات تحمل رغبة التبعيد والاستقلالية في وقائعها، وهذا ما حرمها من امتلاك بنية تأثيثية تقبل التشاركية مع الشخصيات الأخرى وتتساعد معها في إدارة مفاعيل التكامل، والتأثير، المشترك بما يخدم هدف ومعنى الرواية، إلا أن غياب تلك الصورة جعل كل شخصية من شخصيات رواية الطلياني، تعيش حالة من العزلة داخل الشريط السردي الذي ما انفك يحاول استجماعها على هدف سامٍ يخلصها من الهروب إلى مصائر الخلاص الفردي (individual salvation) الذي وقعت فيه أغلب شخصيات الرواية وسروداتها.

     مما لا شك فيه أن البعد التركيبي لشخصيات رواية الطلياني من وجهة نظرنا وبما يخص “بنية الشخصية التبعيدية والطامحة إلى الاستقلالية” يعود السبب في ذلك الأمر إلى أن تلك الشخصيات، لم تجد تقاطعات تجمعها داخل مفاعيل قاسم مشترك يجمعها أو تجتمع عليه، على الرغم من زعمها السياسي بإيمانها بالحرية، والدولة المدنية، ومحاولة تحقيقهما، لكن الأمر لم يكن سوى أضغاث أحلام تلاشت منذ أول احتكاك، تعرض له أبطال الرواية المعنيين بالمواجهة مع السلطة بمفهومها العام، ومع حراس الطغيان الممسكين بتلابيب البلاد، والعباد بصورة خاصة، وذلك ما كانت عليه خواتيم الشخصيات داخل متون رواية الطلياني السردية، حيث بدأ كل منهم في البحث عن خلاصات فردية تخصه، وتناسب مدى انهزامه، وانكساره من خلال الهجرة إلى خارج البلاد، أو الانصياع لشروط السلطة، والانضمام إليها، أو إعلان حالة الحياد والتوبة، وهذا بُعدٌ استطاعت الرواية الإخبار عنه باستحياء بعيداً عن تكريسه كوظيفة تعبيرية (expressive function)لابد من الاهتمام بها من أجل نماء السرد، وتفعيل لغته الإشارية، إضافة إلى تبديات مسألة “الفحولة”(virility) والعناية بها، فقد شكلت القضية الأكثر أهمية جراء ظهوراتها التي كرستها شخصية الطلياني، وفرشت تفاصيلها بعناية شديدة، ثم سرعان ما انكفأت تحت وابل “الخصاء” (neuter) الذي أحس به الطلياني مع “ريم” وداهم كل تطلعاته، والتهم أفكاره النيرة وشعارات الحرية، والعدالة والمساواة التي أصبحت حلماً ميتاً، ومستحيل التحقيق بعد أن انكسرت، وتهشمت أعماق عبد الناصر جراء انتصار السلطة، والتغيرات التي ألمت بالمشتغلين بالشأن العام، وفق معايير الترغيب التي كان ضحيتها الأولى  الطلياني، والتي استطاعت أيضاً تحويله إلى غلام مطيع يتقيد بقانون الدولة القهرية، وتشريعاتها يضاف إلى ذلك مراعاته للقوانين الخاصة المتعلقة برجال السلطة الظالمة.

   ثمة العديد من الأشراك والفخاخ السردية التي وقعت بها رواية الطلياني، وهي مثار تساؤلات عديدة، ومهمة سأتعرض للقليل منها على سبيل المثال، فما حدث حين تم اعتقال الطلياني، وزينة من قبل جهة أمنية في اضطرابات الجامعة، يتم استدعاؤه من الزنزانة التي وضع فيها إلى غرفة رئيس الفرع المسؤول، وبعد حديث مطول بينهما يعتذر المسؤول الأمني منه، ويغادر الغرفة لأمر طارئ، بعد أن يغلق بابها بالمفتاح، ويتركه وحيداً فيها، يستغل الطلياني الفرصة، ويبدأ رحلة تفتيش في الأدراج وبين الأوراق، والمغلفات حيث يعثر على بعض المعلومات الخطيرة، والتقارير الهامة التي تخصه، وتخص رفاقاً له، بعد قليل يعود المسؤول إلى غرفته، ودون سابق انذار يقوم الضابط بأخلاء سبيل الطلياني مع صديقته زينة في الذي يبقى فيه
السؤال حاضراً في الذهن: كيف يترك المسؤول الأمني معتقلاً عنده في غرفة مكتبه بمفرده، والمكتب يغص بالمعلومات، والوثائق السرية المتعلقة بالمعتقل ذاته؟

    لنفترض أن الغاية من ترك عبد الناصر بمفرده محاولة من المسؤول الأمني التجسس عليه ألا يستدعي ذلك وجود كاميرات مراقبة؟ في الوقت الذي لم نتحصل فيه داخل أنساق السرود على ما يبرر ذلك الاشتغال التسريدي بحذاقته البوليسية، لكنها للأسف لم تكن محكمة التفاصيل، والتنقلات المنطقية التي كان لا بد من استخدام آلية سردية مقنعة، في الوقت الذي نجد فيه أيضاً ما حصل على الصفحات ( من 163 ولغاية الصفحة 169) حيث تحولت السرود إلى رواية تعليمية (educational novel) اتخذت من نفسها منبراً لدروس مهنة الصحافة، وما هي الطرق الأسلم والأفضل، والمعمول بها في مطابع الصحف العالمية والعربية، إضافة إلى تعلم الطرق الصحيحة التي يمكن من خلالها رصف المواد، وأساليب تنضيدها ثم وضعها وفق الطرائق المهنية.
    لقد أثقلت هكذا مثالب فنية كاهل السرود، وشكلت هِنَة لا مبرر للوقوع فيها، وهذا ما يدفعنا للقول أن رواية الطلياني جاهدت كثيراً، لتكون رواية تستطيع الإضافة، والتجديد، لكنها لم تخرج عن إطار مقروئيتها كعمل سردي نال جاذبيته من خلال لغته الإخبارية الجميلة من جهة، واقتدار العمل الروائي على روينة السيرة الذاتية (Biographical novel) التي شكلت في مناحيها، الكم الأكبر من حيوات شخصيات لها حضورها الواقعي على الرغم من محاولة الروائي تفعيل العديد من مناورات التخفي وارتداء الأقنعة ليس إلا.

هوامش:

1ــ الطلياني: رواية شكري المبخوت صادرة عن دار التنوير في طبعتها الأولى عام 2014 “364”صفحة.

 2ــ 3ـ 4 ـ 5 ـ 6 ـ حوار د. مع شكري المبخوت على هامش الدورة 22 لمعرض الكتاب الدولي بالدار البيضاء 2016